العدد 1994 - الأربعاء 20 فبراير 2008م الموافق 12 صفر 1429هـ

رينو... قمار وانتخابات... والأخلاق بينهما

أيام في أميركا (2)

«لقد شتت الحروب الصليبية والحروب الإنجليزية شمل الأشراف، ووزعت أراضيهم، وقامت البلدية بإدخال الحرية والديمقراطية في صميم البلاد الملكية الإقطاعية، وساوى اختراع البارود بين السيد والتابع في ميادين الحرب، وفتح فن الطباعة المصادر كلها لعقول جميع الطبقات، وجلب البريد العلم والمعرفة إلى باب صاحب الكوخ كما جلبها لصاحب القصر المنيف، وقررت البروتستانية أن كل الناس سواء في تلمسهم الطريق إلى مرضاة الله، وفتح استكشاف أميركا آلافا من الطرق الجديدة إلى الثروة، وصل بالمغامرين المغمورين إلى الغنى والقوة».

«إن الناس لا يفسدون بممارستهم السلطة، ولا هم ينحطون ويذلون بالتزامهم عادة الطاعة والإذعان، ولكنهم يفسدون بممارستهم لسلطة يعلمون أنها غير مشروعة، وينحطون ويذلون لانقيادهم لحكم يعتبرونه مغتصبا وظالما».

«الدين الذي أعلن على الملأ أن الناس جميعهم متساوون في نظر الله، لا يسعه إلا أن يقرر أن جميع المواطنين متساوون في نظر القانون. ولكن ظروفا وأحداثا تآمرت تآمرا غريبا، فوجد هذا الدين نفسه قد تورط في وقت ما واتصل بالنظم التي تعمل الديمقراطية على القضاء عليها، حتى أنه كثيرا ما رفض المساواة التي يحبها وجعل يلعن قضية الحرية بوصفها خصما له، وهي تلك القضية التي يكمن جهودها لو أنه تحالف معها».

«أما أميركا الشمالية فيختلف مظهرها عن ذلك كل الاختلاف، فكل شيء فيها رزين متزن، كأنما خلقت لتكون مقر ذوي العقول، على حين خلق الجنوب مرتعا للراغبين في اللذات الحسية».

«نشاهد في أميركا... وجوها شبه كثيرة بين هؤلاء المتوحشين تنبئ عن وحدة أصلهم جميعا، ولكنهم كانوا في الوقت نفسه يختلفون عن سائر أجناس البشر المعهودة (...) فهم لم يوجدوا فيها - الهنود الحمر في الأراضي الأميركية - إلا انتظارا لمجيء غيرهم، فتعصبهم الشديد الذي لا هوادة فيه، وشهواتهم الجامحة، ورذائلهم، هي التي قضت عليهم بالهلاك المحتوم».

القسيس دي توكفيل في كتابه «الديمقراطية في أمريكا»

واشنطن، رينو، نيوأورلينز - عادل مرزوق

ما خلا أن بعض اللوحات الدعائية كانت تؤكد ذلك، وأن مرشدنا السيد «واكيين» قد أعاد علينا ملاحظته خمس مرات بأننا في صدد مراقبة الانتخابات الأولية للحزب الجمهوري، فإن تلك الكراسي المتحركة أمام إحدى مدارس مدينة رينو بولاية نيفادا لم تكن تدل إلا على اجتماع لمجموعة من المتقاعدين الذين ينوون الخروج في تظاهرة احتجاج على أي شيء من ما قد يزعج تلك الفئات العمرية صعبة الإرضاء.

وبينما كنا نمعن في النظر للناخبين يمد الزميل خالد أبوكريم يده لي في رهان على عشاء الليلة ما إذا كان أحد في هذه القاعة يقل عمره عن الخامسة والثلاثين، أقبل الرهان إذ تصطاد الكاميرا خاصتي فتاة عشرينية لا يبدو أنها تدرك سبب وجودها هنا.

السؤال التقليدي هنا، ما سر هذه الأغلبية المطلقة لكبار السن في الحزب الجمهوري؟، الإجابات مطولة، أدقها أو ألطفها مقولة أميركية: «إن كنت شابا فعليك أن تكون ديمقراطيا أو أنك شاب بلا حلم، وإن كنت رجلا، فعليك أن تكون جمهوريا أو أنك رجل بلا مال».

بعد الساعة الثانية ظهرا، تبدأ انتخابات الحزب الديمقراطي، هنا يبدو المشهد مختلفا تماما، الفتيات الجميلات يمارسن الدعاية الانتخابية للقطبين هيلاري كلنتون وباراك أوباما راقصات ومبديات لأعلى مستويات «الغنج». يبدو المشهد الانتخابي في الحزب الديمقراطي منقسما تماما، قبالة مشهد أكثر وضوحا في الديمقراطي، وعلى رغم أن المرشح الجمهوري «رومني» حسم الورقة الانتخابية في نيفادا إلا أن الأغلبية تدرك أن الولايات الكبرى ستكون في قبضة «ماكيين» المرشح المرفوض من قبل المحافظين الجدد.

الجميع في قاعة هذه المدرسة الثانوية مشغول بتطبيق نظام «الكوكس»، وهو نظام انتخابي معقد وكان يطبق للمرة الأولى عنا في نيفادا، إذ يجتمع أهالي الحي معا وينتخبون «كابتن»، وبعدها يتيح الكابتن الفرصة لمن يريد أن يتكلم من أبناء الحي في دعم أي من المرشحين، وفي الختام توزع الاستمارات وتسلم للكابتن الذي يفرزها بمساعدة أبناء الحي، وهكذا يتم الارتهان للنتيجة النهائية عبر مصوتين سيصوتون في المؤتمر الختامي للحزب لمن حاز ثقة الحي. هكذا، يكون انتخاب الرئيس الأميركي مرهونا بقرار حي صغير قد لا يزيد عدد المصوتين فيه على 50 فردا.

انتخبوا أوباما ليفوز ماكين

يقول لي مشرف الوفد الميداني عبدالحليم ريجال «سيضربك الناخبون إذا لم تخلع هاتين الشارتين»، ذلك أني أضع على قميصي شارتين، الأولى للمرشح الجمهوري «ماكين»، والأخرى للمرشح الديمقراطي «باراك أوباما»، صحافية أميركية يقتلها الفضول تأتي لتسألني عن السبب الذي دفعني لوضع الشارتين معا، أقول: انتخبوا أوباما أيها الديمقراطيون ليفوز ماكين، وليس هذا الموقف دليل معاداة لأوباما خصوصا أن أغلبية الوفد تقف مع أوباما، بل إن أغلبية العرب مع أوباما من دون أن يكون هناك مبرر. أعتقد أن الديمقراطيين أخطأوا حين قرروا اختبار الديمقراطية الأميركية عبر ترشيح رجل أسود أو امرأة في هذا التوقيت الذي من الواضح أن الكفة فيه تميل لفوز ديمقراطي سهل، لكن هذا التناحر الديمقراطي الديمقراطي أمام ما يشبه التماسك في الجسم الجمهوري سيفضي لخسارة ديمقراطية جديدة. لا أدعي أن الحسم سيكون جمهوريا، لكن أعتقد أن العملية كان من المفترض أن تكون أسهل بالنسبة للديمقراطيين لو أن ماكيين الجمهوري سيكون قبالة جون إدوارد مثلا.

بينما كانت الصحافية الأميركية تسهب في تحليلها لهذه الانتخابات كانت النتائج كلها في المدرسة تشير لتقدم أوباما، إلا أن النتائج النهائية في المساء أهدت مصوتي ولاية نيفادا لهيلاري كلنتون، يسألني الزملاء عن ذلك، فقلت: «صدقوني هناك عمليات تزوير».

فيما يشترط الجمهوريون 30 يوما لتفعيل عضوية المنتمين للحزب، يستطيع أي فرد في أميركا أن يكون ديمقراطيا في أية لحظة، يستطيع أن يصبح عضوا في الحزب الديمقراطي وأن يمارس حقه في الانتخابات داخل الحزب قبل دقيقة واحد من بدء التصويت، بالنسبة لي اعتبرت ذلك فجوة أو نقطة ضعف، وفي حديث مع أحد كبار المسئولين عن الحزب الديمقراطي في نيفادا أخبرتها أن الجمهوريين يستطيعون تشكيل كوتا تخريبية في انتخاباتكم والتصويت لصالح مرشح دون آخر وخصوصا أن ازدواجية العضوية في الحزبين ممكنة، تقول: «لن يفعلوا ذلك، مستحيل، هناك أخلاقيات والجميع يلتزم بها».

في المحصلة، ليس النظام الأميركي نظاما مكتملا من دون ثغرات يمكن الولوج منها للتخريب، لكن الأميركيين دائما ما يعولون على الأخلاقيات في المهنة والسياسة ومجمل تعاملاتهم. هذه الأخلاقيات تلعب دورا من أدوار الضبط المركزي للحياة الأميركية ككل. وعليه لا تبدو الثيمة الأخلاقية في الولايات المتحدة ثيمة هامشية بالقدر الذي تمثل فيه رمزا من رموز الحلم الأميركي والتعايش بين مواطنيها ومؤسساتها إلا أن بعض الأقليات في الولايات المتحدة لاتزال تتحفظ على مثل هذا الإطلاق، وهو ما لاحظناه في أهم المحطات الحوارية مع بعض الأقليات في رينو، إذ كانت دلالة أن يكون 45 في المئة من الرجال الزنوج و50 في المئة من الرجال الهاسبنيك في سجون نيفادا كافية لإشاعة مجادلات حادة بين المتاحورين الأميركيين أنفسهم وذلك على خلفية سؤال بسيط: هل تدافع الولايات المتحدة عن حقوق الأقليات في دول العالم بينما تقمع هي أقلياتها في الداخل؟.

مساءات نيفادا

يطلق العجوز المتهجم العابس الوجه ابتسامة لتظهر من بين شفاتيه أسنانه التي عفى عليها الدهر، يقول: «لست في نيويورك يا هذا». المعني بهذه الملاحظة الاستهزائية كان زميلنا وفاكهة الرحلة (مبارك) الذي لايزال يرتدي ما ثقل وزنه من الثياب، يقول مبارك: «لاحظوا أننا في نيفادا، وهو ما يعني أننا في منتصف مناطق البدو الأميركيين، فلا تجادلوهم فمسدسات البدو أسرع من ألسنتهم».

مساءات نيفادا كما هي في المخيلة، السيارات السوداء الطويلة أمام الفنادق وصالات القمار الكبيرة والأثرياء الذين يتلاعبون على طاولات القمار بآلاف الدولارات، وخلاف أن القمار يبدو محور الحياة في هذه الولاية فهي أيضا حاضنة لبعض المحميات الطبيعية للهنود الحمر (السكان الأصليين) إذ تمتلك هذه المجموعات مجموعة من الأراضي أو المحميات المغلقة.

تقع هذه الولاية في غرب الولايات المتحدة، تعرف بالتشريع الواسع النطاق للقمار. وتلقب بـ «الولاية الفضّية» أو «الولاية الميرميّة». عاصمتها كارسون سيتي، وهي مدينة صغيرة بها مقر حاكم الولاية، وأكبر مدنها لاس فيغاس. وتعتبر نيفادا الولاية السادسة والثلاثين التي انضمت إلى الولايات المتحدة الأميركية، وذلك في 31 أكتوبر/ تشرين الأول 1864. وهي سابع أكبر ولايات أميركا إذ تبلغ مساحتها 286367 كم2 (110567 ميلا مربعا). بتعداد سكاني يصل إلى 1998257 نسمة.

تدلك مساءات نيفادا إلى التأكد من أن لقب أكبر أصغر مدينة في العالم لم يكن لقبا دعائيا لهذه المدينة، فعلى رغم صغرها الجغرافي فإنها مدينة نشيطة ومتحركة ومزدحمة، وفيما تنتشر المطاعم والمقاهي والصالات الفنية تعج نيفادا بالمجمعات التجارية الضخمة التي تدل على أن أموال سكان هذه المدينة تكفي للتبضع ولعب القمار دفعة واحدة.

تاهو... هكذا يعبث البرد بك

مثيرة هي أضواء الكازينوهات والسيارات الهوليوودية السوداء الطويلة على يمين هذا الشارع، وفارغ على يساره من صالات القمار إذ تنص قوانين الولاية على منع «القمار». كانت الزيارة الصباحية لبحيرة تاهو آخر محطاتنا في مدينة رينو.

يقسم البحيرة التي تعتبر أكبر البحيرات في القارة الأميركية، وهي من المناطق السياحية في الغرب الأميركي وتحفها البيوت الخشبية الباهضة الثمن، خط مستقيم هو الفاصل بين ولايتي نيفادا وكاليفورنيا، والأخيرة تمنع المقامرة على أراضيها لذلك تنتشر صالات القمار والكازينوهات على جانب نيفادا بينما تنتشر الأعمال والمصانع على جانب كاليفورنيا إذ من الممكن أن تعتبر هذه الولاية ثامن أكبر اقتصاد في العالم لو استقلت عن الولايات المتحدة. على رغم تحذيرات مرشدنا السيد «واكيين» وابنه المتكررة بضرورة لبس الثقيل من الثياب فإني فضلت المجازفة بالذهاب مرتديا من الثياب أقلها، قميص فقط. وهو ما ندمت عليه وخصوصا مع كثرة السقطات على الأرض وفيما كان الزميل محمد الشبة يتجمد خوفا من المرتفعات في اعتبار أن سياراتنا لن تنزل بسلام مع تساقط الثلج كان الزملاء في السيارة يحاولون التخفيف على أجسادهم من السقطات التي تتالت جراء ذوبان الثلج.

العدد 1994 - الأربعاء 20 فبراير 2008م الموافق 12 صفر 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً