العدد 2002 - الخميس 28 فبراير 2008م الموافق 20 صفر 1429هـ

المسرح «مايكرو» المكان فيه سعة العالم

المسرح تلك «الجريرة» الجميلة التي تعيد صوغ العالم ببشره ومواقفه... بهداه وتيهه، يدفعك لأن تكون أكثر حذرا في الوعي لحظة التعاطي معه، وإلا سيدفعك إلى ندم تعود منه خاسرا لذلك الرهان الصعب، الذي أوله فتنة، وآخره فتنة!.

@@@

يدلف الممثلون ليمنحوا «العلبة» «فضاء» بسعة الكون المتحرك فيهم، لا يلوون على شيء سوى تخريب الطمأنينات والمخطط المكشوف للمفاجآت، يعملون على ردم اللغة الميتة من الأساس، والحوار البليد القائم منذ أن اكتشف الإنسان قيمة أنْ يدخل في تلك الورطة النبيلة، يبيّتون النية لهدم المسرح على رؤوس السذاجة الشائعة، ليس بمعاول ولكن برؤى أشد فتكا وتخريبا من تلك الأداة!.

@@@

«الصخب» عدوّ المسرح، الصخب الذي ينتج حالا من الهياج الذي لا يقل سدى عن هياج ثور في مخزن ملئ بالخزف!. المسرح عدوّ لحال من «التلقين» تكاد تكون شائعة في الحياة العربية، بدءا من المناهج مرورا ببعض دعاة الدين وليس انتهاء بالقبر!.

حين يتورط المسرح بتلك الحال، فعلينا أن نتعامل معه كما نتعامل مع ميّت يُوْدعُ في قبره لنمارس عليه طقوس وداعنا الأخير له!.

@@@

بين عقدة الحكاية والجمهور - وما أدراك بفئة سقيمة من الجمهور - وإحكام المخرج، ليس أمام الممثل الا أن يوجد فضاءه الخاص وسط كل ذلك، بمعنى آخر عليه أن يتمرد صريحا على الوصفات الثلاث الباعثة على الشلل، وإلا سيكون جزءا من «حل» لا «عقدة» له. و «جمهور» انهال باحثا عمّا يسطّح المفاهيم والترميزات، وإحكام مخرج لا يقل عن ممارسة إحكام جنرال على مصير أمة لا تملك أن «تعطس» في حضرته!.

@@@

يُخضع الجمهور واقع الأداء والنص لتحليل وفهم أدوات الواقع، فيما الأخيرة تحتاج إلى أدوات مجهرية دقيقة، والتي يحتاج ذلك الجمهور - على أقل تقدير - لتوافرها الى مليارات السنوات، أي أطول من الزمن الذي نشأ ووجد فيه على هذه الكوكب. ألا يدل ذلك على حال من «التعجيز» يعمد اليها الجمهور لهدم المسرح على الجرأة في جانبها الفادح؟!.

@@@

لكي تكون ممثلا حقيقيا لا بد أن تكون الأقل قدرة على «التمثيل»، والأكثر قدرة على البقاء في حال من الرحيل، والأكثر قدرة على السحر في حال من «الماثل والمعاين والمرصود»، وفي حال من الأقنعة المُقْنعَة وهما والباهرة، في حال من الإختلاق الساذج، والأكثر قدرة على تحويل المؤقت إلى قرين للدائم، والأكثر قدرة على تحويل زمن الحضور المرصود والمحدد إلى أزل ماثل، والأهم من كل ذلك إلى تحويل «لغو» الكلمات إلى «غول» لا يكل من بث حال من «الرعب» اللائق بوسط وشريحة معجونة بالجبن كهذه!.

@@@

للمسرح سياسته غير المعلنة ولن يعلنها، وإن فعل سيكشف عن حال تعاطف مع كومة من السذاجة مع طيف كبير من الجمهور المتكدّس أمامه حضر ليثبت أنه قادر على «إبطال اللغز»، والمسألة كلها لا علاقة لها بلغز يراد إبطاله في وليمة من الدسائس والخطط، فثمة وشاية أو تحريض تم تحريكه منذ أن وجدتِ النيّة لنسف النوايا القائمة على الفرَضيّات والوهم والتخيّل المرَضيّ الذي لا علاقة له بالرؤيا!.

يحضر المسرح ليحجّم المساحة العملاقة التي يتحرك فيها الناس وليثبت أنها سجن لائق بهم طالما ظلوا معتقدين انهم في بحبوحة من المكان والحركة والرؤيا!.

@@@

«مايكرو» المكان يتحول الى «قارّة»! ولن يتم ذلك مالم يعمد المسرحي والمخرج والسينوغرافيا لاستدراج الوعي المتورط برفاهية المساحة والمكان بل والأطلس، لإثبات خلاف ذلك، إثباته عبر تجسيد للشخوص والرؤيا بعيدا عن اشتراطات الوعي السائد، بعيدا عن المألوف من اشتراطات الحكاية!.

@@@

يتسلل الممثل من محيطه الى محيط ملغّم بالسخْط والتورية والخداع. تتأمل حراب الاستدراج تلك وتتيقن انها مشروع حياة جديرة بالمجازفة، تنحني لالتقاط هويتك ليصرخ فيك المسرح الماثل: «أنا هويتك الضائعة»!.

@@@

صحراء لامعة هو المسرح، لاذعة بالوميض بما يُبث من الشك، بالمنفيّ من الرسمي، بالصاعد من المنحدر، وبالمنحدر الصاعد، بالمحاريث المبثوثة في أرض من المعدن، بالأوردة المفتوحة على قلب اليقين، أو يقين القلب لا فرق!. المسرح ذلك البعيد الذي يغفو على دفء من القرب، جناح لا يعد بمدى لا يُبْلغُ، ولكنه بلوغ الى وعد من المدى!.

@@@

تمويه هو المسرح، سباق نحو المكتنز، فيما سواه زحف نحو النحول!. وأي نبض لا بد منه سواه؟ نجزم انه السفْك والذروة من العفو، نجزم انه البراءة وأول الانتهاك، نجزم انه النديم واستفزاز الثأر، نجزم انه المشهد وحكمة العمى!.

@@@

لا مساحة ترصد العالم كالمسرح. «أطلس» المكان تحت رحمة «مايكرو» المكان، انتهاك وتجاوز مشروعان، محاذاة ونأي في الذروة، «كلام» و«أثر»، «موازين» و«خلخلة»، كعرْي يتقمّص الأدوار، «نبض» و«فتور». كأن عضلة القلب تكمن في «النبض» من «الظن»!.

@@@

المسرح نهوض النص من حال «اللغو» وذهابه الى ترتيب الذهن»، هو التحقق من جدوى الإيقاع، الإيقاع في التربص والإنتباهة وحتى الغيبوبة المبررة، وخصوصا إذا ما كان الصحو أكثر شرا من الوعي، الشر الذي لا بد منه!.

@@@

بؤرة من ضلال هو، سبل ضالّة ومضلّلة، نفاذ إلى اللامكان، ومنجم من الذرائع!. يتعاطى مع المعرفي ومع الهرطقة، ينحاز إلى الهرطقة لأن المعرفي ثابت وفي اللحمة من اليقين، فيما الهرطقة عمَارَة للدسائس وتلك هي وظيفتها!.

جعفر الجمري

العدد 2002 - الخميس 28 فبراير 2008م الموافق 20 صفر 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً