العدد 2008 - الأربعاء 05 مارس 2008م الموافق 26 صفر 1429هـ

الفيلم الغنائي الذي يسبح في الدماء

«سويني تود»... عزف الشر على أوتار الحب

يصنف سيزاري لومبروزو السلوك الإجرامي من خلال دراسته للظاهرة العضوية للمجرمين عبر مؤلفه الشهير «الإنسان المجرم» إلى خمس فئات هي: المجرم بالولادة، المجرم المجنون، المجرم بالعاطفة، المجرم بالمصادفة والمجرم بالعادة، وقد كان الممثل الأميركي المتميز جوني ديب بدوره في فيلم «سويني تود» أبرز تصوير لمجرمٍ صنعته عواطف الحب التي غص بها، وجعلته يتقيأ الحقد والكراهية والوحشية.

فيلم «سويني تود» الذي اشتهر كاسم مختصر للفيلم الغنائي الوحشي «سويني تود: الحلاق الشيطاني لشارع فلييت» قدم إلى المشاهد قطعة فنية من لندن خلال العصر الفكتوري في خمسينيات القرن التاسع عشر، حينما يصور المخرج الأميركي تيم بورتون عودة الحلاق بنجامين باركر، الذي يؤدي دوره جوني ديب، متنكرا تحت اسم آخر هو سويني تود، بعد أن تم نفيه من المدينة قبل خمسة عشر عاما إلى أستراليا، وذلك طمعا من قاضي المدينة تربن، الذي أدى دوره آلان ريكمان، في زوجة بنجامين باركر، الذي اعتدنا طوال الفيلم مناداته باسم (تود) رمزا للشخصية الجديدة التي انتحلها بعد عودته.

تود الذي يعود إلى المدينة بصحبة البحار أنطوني هوب، الذي قام بدوره الممثل جيمي كامبل باور، يفترق عنه لكي يعود إلى ماضيه، والمكان الذي افترق فيه عن زوجته وطفلته الصغيرة، ليلتقي هيلينا بونهام كارتر، بدور (ميسيز لافييت)، التي تملك محل صنع الشطائر في أسفل محل حلاقته القديم، لتثير فيه نزعة الحقد والكراهية تجاه من تسببوا له بالتشرد بعيدا عن زوجته التي ذكرت له أنها تجرعت السم، وابنته التي احتجزها القاضي تربن لديه، وجعل من نفسه وصيا عليها، لترمي بحبائلها نحوه في محاولة لجعله يتعلق بها حبيبة جديدة عوضا عن زوجته.

الفيلم قالب احتوى كل ما خطر على البال من مشاعر، فالحقد والكراهية، تمثلا إلى جانب الحب والرومانسية المتبادلة، إلى الحب من طرف واحد، إلى العذاب والمعاناة الطفولية، إلى الكبرياء والغرور والتغطرس والتسلط، جمعهم جميعا فيلم كان تحفة إبداعية أثبت بها المخرج تيم بورتون القدرة على تحويل إحدى أصعب وأنجح مسرحيات برودواي إلى فيلم.

في طرف آخر من الفيلم كان البحار الشاب (أنطوني هوب) في أروقة المدينة يسعى من دون هدف، ليستوقفه ذلك الصوت الحاني الحزين من نافذة غرفة تطل على الشارع، وإذا بها تلك الفتاة (جوانا) التي قامت بدورها الممثلة جين وايزنر تطل من النافذة، لتكتمل الحبكة الدرامية بإعجاب الشاب بهذه الفتاة، التي هي ابنة سويني تود، ما يجره إلى محاولة التلصص عليها، ليتم ضبطه من قبل القاضي (تربن) ويلقى على يديه العقاب والضرب والطرد.

(تود) المشحون بالغضب والحقد على المجتمع بمن فيهم رؤوس السلطة الذين ظلموه وتولوا تحطيم مستقبل زوجته وابنته فكان القرار بالانتقام من كل الناس، وتولت جارته (ميسيز لافييت) شحنه وتبغيضه لهم من خلال سردها لما حصل بعد سفره من اغتصاب زوجته علنا في حفلة كان يقيمها القاضي لأصحابه، ووقوع ابنتهما تحت وصاية القاضي، لتتكالب مجموعة المبررات الانتقامية، فيقرر تود الانتقام من كل الناس بذبحهم في عِلّيته، لتقوم جارته ميسيز لافييت في قبو المنزل بتحويلهم إلى أطعمة شهية تقدمها إلى زبائنها.

حينما يصل (تود) إلى مبتغاه، وهو القاضي (تربن)، الذي يحضره مساعده للحصول على خدمات الحلاقة المتميزة، ويصل إلى آخر لحظات قطع عنقه بواسطة موس الحلاقة الفضي، يدخل مقتحما الصالون، البحار (أنطوني) ليفاجأ تود، برغبته في إنقاذ الفتاة (جوانا) فينصعق (أنطوني) لوجود (تربن) وكذلك الأخير لدخول الأول، ويطيش (تود) غضبا لأن (أنطوني) أفسد عليه لحظة انتقامه من القاضي، فيطرد البحار الشاب من دون أن يتيح له شرح ما حصل له وعن حقيقة الفتاة التي ما هي إلا ابنته.

تتواصل الوقائع وعمليات القتل الدموي التي يقوم بها تود لمن يزوره من الراغبين في خدمات الحلاقة، ليلاقوا حتفهم على كرسي الحلاقة، ونهاية في موقد فرن لافييت.

يعود (أنطوني) إلى (تود) بعد أن يفاجأ بأن القاضي قام بترحيل (جوانا) بعيدا إلى السجن بسبب رفضها الزواج منه، فيسأله العون على ذلك، ويعطيه الخطة بأن يتنكر بصفة بائع شعر مستعار، ويذهب إلى السجن كي يشتري شعرا بلون أشقر، وهو ما يقود (أنطوني) إلى تحرير محبوبته من الأسر، فيقودها إلى الصالون الذي كان خاويا، فيخبئها هناك ذاهبا للحصول على عربة توصلهما خارج المدينة. تستشيط الوقائع في الدقائق الأخيرة من الفيلم حينما يغتال تود أكثر من شخص في رتم متسارع، كان بينهم القاضي ومساعده والسيدة العجوز الشمطاء، التي تحوم دوما حول الحلاق وتهذي بما لا يفهمه أحد، ويقف تود بعد ذلك متفاجئا لوجود (جوانا) مختبئة في صندوق، وهي متنكرة في هيئة شاب، فيصل معها إلى لحظة يكاد أن يقتلها لولا صرخات (لافييت) القادمة من القبو، فيتركها ويتوجه إلى الأسفل، ويكتشف أن العجوز التي قتلها ما هي إلا زوجته، التي كذبت عليه (لافييت) بإخباره أنها تجرعت السم، من دون أن تذكر أنها لاتزال حية، فيرمي بـ (لافييت) في الموقد ليتركها تحترق، ويجلس بائسا على قتله لزوجته، فيأتيه الغلام خادم (لافييت) من خلفه، ويقطع رقبته كما كان يفعل بضحاياه من الخلف، ويترك دماءه تتناثر، مشكِّلة هالة من الدماء التي غطت وجه زوجته وما حوله.

المخرج قدم مع مصممة الديكور فرانشيسكا لو شيافو تنويعات بصرية على لعبة زجاج النوافذ والمرآة، إذ أفرغ غرفة تود تقريبا باستثناء كرسي الضحايا وصندوق، ونافذة زجاجية مرتفعة، غريبة، مائلة بحدة إلى الداخل وكأنها ستقع، تحيلنا إلى تطرف شخصية تود وخلل المجتمع واقتراب الانهيار. وتحولت الأسطح اللامعة الشفافة إلى شاشات سينما داخلية، يشاهد منها الأبطال العالم الآخر والعكس صحيح، حتى يأتي الدور على من سيعبر الحدود عند الآخر.

غطى المخرج مع مدير التصوير عوالم تود ولافييت والقاضي بمساحات ظلام، تتخللها درجات رمادية متباينة اللون والكثافة نهارا وليلا، كانعكاس لضباب لندن الخانق بحسب طبيعة البيئة، ليختزل العالم في لوحة تشكيلية مهيمنة تعكس الظلم القاتل للمواطنين الطيبين.

يتضح تكنيك المسرح في هذه المنظومة الموسيقية من المشاهد الطويلة، والثبات على شخصيات قليلة، والتنقل المختصر جدا في المكان والزمان باستغلال بعض الحلول السينمائية، مع توظيف أبعاد المنظور كأنها خلفيات مسرحية متعددة المستويات.

وامتد سواد المصير إلى تصميم ملابس كوليين آتوود الباردة، وإضاءة مدير التصوير داريوس وولسكي التي أغرقت سويني في ظلام مخيف، لولا ضوء مصاحب للبحار كترديد لشخصية باركر سابقا، التي شاهدناها في الماضي هائمة في النور والبراءة والألوان السمحة.

وذكر مخرج الفيلم تيم بيرتون خلال مقابلة مع مجلة «Empire» عن الفيلم بالقول «لأنه لا يتضمن أغاني راقصة... رفضت كل الشركات إنتاجه» ليضيف «الغريب أنهم لم يعترضوا على كون الفيلم مليئا بمشاهد العنف، وإنما اعترضوا فقط على أنه لا يحتوي على أية أغان راقصة»!

وتابع بيرتون في تصريحه القول «إن غالبية الشركات التي تقدمت لها بمشروع الفيلم ترددت في قبوله؛ لأنها كانت تخشى من أن الفيلم الغنائي الذي يقوم على الرعب والإثارة، ولا يتضمن أية أغنيات راقصة، لن يحالفه النجاح... حتى أن الفيلم كاد ألا ينجز بسبب تردد شركات إنتاج عدة في تقديمه خوفا من ألا يحقق نجاحا في شباك التذاكر».

وأكد بيرتون أنه عانى لفترة طويلة من شروط شركات الإنتاج الكبرى، حتى قام باختيار صديقه النجم السينمائي جوني ديب لبطولة الفيلم على رغم أنه لم يؤدِّ أية أدوار غنائية من قبل، وهو الاختيار الذي أعجب المنتجين في هوليوود فقرروا إنتاج الفيلم.

وفاز الفيلم على رغم ذلك التردد العارم للمنتجين، بجائزة «جولدن جلوب» كأحسن فيلم كوميدي أو موسيقي.

العدد 2008 - الأربعاء 05 مارس 2008م الموافق 26 صفر 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً