العدد 2032 - السبت 29 مارس 2008م الموافق 21 ربيع الاول 1429هـ

تقاسم النفوذ والتاريخ يعيد نفسه

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

أثبتت التجارب أنّ التنافس في ظل نظام اقتصاد السوق الحر خصوصا بصورته القديمة، الذي يمنع الدولة من التدخل في النشاط الاقتصادي، يقود إلى تمكّن قلة من احتكار السوق والتحكم في الأسعار. وهذا يعود لإقصاء الدولة عن التدخل وبشكل مطلق، إذ سُرعان ما يتم التفاهم بين المتنافسين الكبار ضد المستهلك بدلا من التنافس الذي يزعجهم ويضيع عليهم فرص جني مزيد من الربح.

ولا يُعنى بالاحتكار الاحتكار التام، فالمنافسة التامة مستحيلة، والاحتكار التام مستحيل، ولكن الوضع يقترب بشكل كبير جدا تجاه سيادة احتكار فئة قليلة. ومنذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، سعى كلّ مجتمع لتحصين نفسه بإقامة مختلف الحواجز أمام السلع الخارجية، ولكن اشتد التنافس بشكل كبير في نطاق سوق الدولة والمجتمع الواحد، وبذلك برزت ظاهرة الاحتكار في المجتمعات الرأس مالية بصورة كبيرة. يذكر الاقتصاديان الأميركيان، روبرت هليبرونر وليستر ثارو في كتابهما «الاقتصاد المبسط» (ص 206)، مثالا في فترة سابقة - ربما الستينيات- عن صناعة الدواء في الولايات المتحدة، ويؤكدان على أنّ المستهلك قد تم استغلاله بشدة، وإنّ الشركات المصنعة قد أجبرت المستهلكين على دفع أكثر بكثير مما كانوا سيدفعونه لو أنّ أسعار البيع كانت تنافسية وليست احتكارية. وفي فترة من الفترات، «منذ عقود، بلغ التذمر مبلغا كبيرا لحد ظهور رؤى مشتركة بين الاقتصاديين الأميركان ترى أنّ فرض تشريعات تطبقها الدولة هو السبيل الوحيد لمواجهة احتكار عدد قليل من الشركات سلعة معينة».

أكثر من ذلك، فبسبب الآثار السلبية للاحتكار، «اقترح بعض الاقتصاديين إقرار قوانين ضد الاتحادات الاحتكارية وتطبيقها بشدّة، ليس فقط لمنع الاندماج ولكن لفصل المشروعات الضخمة مثل جنرال موتورز، إلى وحداتها الجزئية: شركة بويك وشركة أولدز موبيل، وشركة شيفروليه وهكذا..» (ص 209). والدعوة لتفتيت هذه الشركات الأميركية العملاقة إلى وحدات أصغر هدفها تقليل قدرتها على احتكار السلع، وبالتالي خلق شيء من المنافسة التي باتت شبه معدومة، بسبب الاندماجات بين عمالقة السوق من هذه الشركات. (ص206).

كان ذلك الطرح في زمن سابق قبل موجة العولمة، أمّا في زمن العولمة الحالي، فالدولة يُراد قصر دورها على فرض القانون الذي يحمي الملكية الخاصة ويترك السوق حرة للمنافسة بين الفرقاء من دون تدخل، وبالتالي يجب إلغاء التشريعات التي تسمح للدولة بالتدخل في الشأن الاقتصادي بكل جوانبه، ويجب أن يشمل ذلك الخدمات مستقبلا، كالصحة والتعليم، إذ من المفترض أنها سلعة تخضع لقانون العرض والطلب.

وفي ظل زحف عفريت العولمة الذي خرج من القمقم الأميركي وبدأ يجتاح اليابسة والبحر، مبتدأ بالدول السائرة في فلك الدول الرأس مالية المتقدّمة، وبالذات منها الدول النامية، لن يكون هناك مكان للصغار. فبعكس الدعوات السابقة، لتفكيك الشركات العملاقة من أجل خلق المنافسة وتقليل الاحتكار، يمكن إدراك الهدف من وراء الاندماجات التي رعتها الولايات المتحدة مؤخرا بين الشركات الأميركية كما ذكر ذلك الكاتب الاقتصادي عبيدلي العبيدلي (الوسط، 9-6-2007). أما فيما يتعلق بدعوات اندماج الشركات الصغيرة الوطنية في الدول النامية كالبحرين، فهي - فيما لو حدثت- فإنها ستخلق زوبعة ولكنها لن تتعدى كونها زوبعة في فنجان، لهذا فمهما تكن قوية لن تهز ورقة في شجرة من أشجار حديقة العولمة، «ويكفي معرفة أنّ أصول <سيتي بنك>، أكبر مصرف في العالم، تفوق أصول المصارف العربية مجتمعة كما ذكرت صحيفة «القبس» الكويتية، بتاريخ 6-12-2006، فكيف بحال المصارف البحرينية حتى لو اندمجت مثلا؟

ما سنشهده مستقبلا، سيطرة تامة من قبل الشركات المتعدية الجنسيات، وقد يكرر التاريخ بعض صور الماضي، متمثلا في القضاء على الصناعات الوطنية وتخصيص بعض الدول في صناعات أو زراعة معينة كما حدث إبان الاستعمار الانجليزي مثلا لمصر من حيث القضاء على صناعاتها، وأما الزراعة فقضت على تنوعها باتباع سياسة اقتصادية شجعت الفلاح المصري على زراعة القطن من أجل رفد مصانع النسيج الانجليزية بالقطن وبأسعار زهيدة، لأنّ كونها المستهلك الأكبر يجعلها تتحكّم في العرض والطلب ومن ثم الثمن أيضا.

وكما تفاهم الكبار في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين على المستوى السياسي (معاهدة سايكس - بيكو سنة 1916 نموذجا) في تقاسمهم النفوذ على دول العالم الثالث من أجل غايات اقتصادية بدلا من المنافسة والاحتراب، هل العالم مقبل على تجربة تكرر نفسها ولكن من حيث تقاسم الشركات العابرة للقارات نفوذها على اقتصاد الدول النامية؛ ليتكررالنهب واستنزاف الثروات والجهود؟

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 2032 - السبت 29 مارس 2008م الموافق 21 ربيع الاول 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً