العدد 2053 - السبت 19 أبريل 2008م الموافق 12 ربيع الثاني 1429هـ

جولة كارتر بين الممكن والمستحيل

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الاتصالات واللقاءات التي أجراها الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر مع قيادة حركة «حماس» في القاهرة ودمشق أرسلت إشارات سياسية عن وجود اتجاه حزبي في الولايات المتحدة يريد فتح ثغرة في جدار استراتيجية ارتكزت على ثوابت تتلخص في نقطة مركزية: «إسرائيل» فوق الجميع.

كارتر بدأ منذ فترة حملة مضادة لكسر ذاك الوعي التقليدي في السياسة الأميركية. بدأت الحملة حين أصدر كتابه عن السلام في «الشرق الأوسط» تعرّض فيه بالنقد للسلوك الإسرائيلي في التعامل مع الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية العادلة. وجاءت ردّة الفعل على كتاب كارتر ونشاطه الميداني عنيفة من أنصار «إسرائيل» في الولايات المتحدة إذ اتهم بالعنصرية والكراهية وتزوير الوقائع وغيرها من شتائم بقصد محاصرته والضغط عليه للتراجع أو الصمت.

الهجوم على كارتر لم ينجح أو على الأقل فشل في تحقيق أغراضه. فالرئيس السابق رفض السكوت وتابع حملته التي تريد كسر جدار الصمت وفك العزلة عن الكثير من «المحرّمات» أو المقدّسات».

إصراره على مواصلة مهمّته كشف للمرة الأولى عن وجود استعداد لتحمّل الخسائر في اعتبار أنّ الرئيس السابق يمتلك تجربة في هذا الميدان وهو على إطلاع على الكثير من الخفايا حين كان يتولّى منصب الرئاسة. ففي عهده حصلت أخطر تطورات في منطقة «الشرق الأوسط» كانت كافية للتعلّم والاستفادة من تعقيدات جغرافية وديموغرافية ممتدة من أفغانستان إلى مصر.

في عهده القصير (4 سنوات فقط) جرت حوادث قلبت الموازين الدولية والإقليمية في «الشرق الأوسط الكبير» وأدّت لاحقا إلى متغيّرات أعادت رسم الخريطة السياسية في منطقة غنية وملتهبة. ففي أيامه أشرف على توقيع اتفاقات «كامب ديفيد» بين مصر و«إسرائيل» وتدرّب خلال المفاوضات على الأسلوب الإسرائيلي في المراوغة والتهرّب من متطلبات السلام العادل في المنطقة. وفي أيامه انطلقت الثورة الإسلامية في إيران وأطيح بالشاه واعلنت الجمهورية. وفي أيامه دفع الاتحاد السوفياتي بقوّاته واحتل أفغانستان؛ لتبدأ «حرب عصابات» طويلة تشبه تلك الورطة الأميركية في فيتنام وجنوب شرقي آسيا. وفي أيامه بدأت أزمة السفارة الأميركية في طهران وما أنتجته من ردود فعل ومغامرات عسكرية. وفي أيامه الأخيرة بدأت الاتصالات لتشجيع النظام العراقي على خوض حرب طويلة ضد إيران.

عهد كارتر كان الأخطر دوليا وإقليميا؛ لكونه شكّل حقل اختبار لموازين القوى بعد خروج الولايات المتحدة المدوّي عالميا من فيتنام. فالرئيس الديمقراطي جاء بعد عهد حكم خلاله الحزب الجمهوري (ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد) فترة طويلة نسبيا تعرّضت خلالها الولايات المتحدة لضربات اضطرت بسببها للانسحاب عسكريا من جنوب شرقي آسيا بعد فضيحة «ووترغيت» الداخلية بتهمة التجسس على الحزب المنافس.

حاول كارتر تصحيح صورة أميركا من دون أنْ يعدّل قواعد اللعبة. ولكن المحاولة باءت بالفشل ولم ينجح في استثمار توقيع اتفاقات «كامب ديفيد» لتجديد عهده. فالاتفاقات التي أخرجت مصر آنذاك من معادلة الصراع العربي - الإسرائيلي لم تعمّر طويلا بعد سقوط الشاه وانتقال إيران من الضفة الأميركية إلى الضفة الأخرى.

إلى الثورة الإسلامية في إيران جاء الغزو السوفياتي لأفغانستان؛ ليطوّق كارتر ويدفعه نحو اتخاذ قرار سياسي بمقاطعة الدورة الأولمبية الرياضية في موسكو عقابا لها على الاحتلال الذي زعزع استقرار منطقة تقوم على معادلة توازن زئبقية بين الهند وباكستان والهند والصين. وحين حاول كارتر «تحرير الرهائن» من خلال عملية إنزال عسكرية في صحراء طبس بقصد احتلال طهران وإعادة طاقم السفارة إلى واشنطن تكللت مغامرته بالفشل وتسببت لاحقا في تعطيل إمكانات التجديد لولاية ثانية.

كلّ هذا الكم من التجارب الميدانية التي مرّبها كارتر في تعامله مع قضايا «الشرق الأوسط الكبير» أكسبته لاشك خبرة سياسية شديدة التعقيد خلال فترة امتدّت من 1976 إلى 1980. فالرئيس السابق شاخ في العمر وبات في وضع مريح نفسيا ولا يَخاف على مستقبله السياسي وطموحاته الشخصية. ولعلّ هذه المفارقة تعطيه مناعة لتحمّل هجمات التجريح والتحصن وراء سور سميك من الصعب كسره أو تجاوزه بسهولة.

الممكن والمستحيل

الرئيس كارتر الآنَ خارج معتقلات السلطة وهذا ما يسعفه على لعب دور كان يخشى المجاهرة به سابقا. ولكن الرئيس السابق ليس وحدَه في الميدان في اعتبار أنه يتحمّل مسئولية معنوية في التأثير على شعبية حزبه الديمقراطي الذي يُواجه معركة شرسة لانتزاع منصب الرئاسة من الحزب الجمهوري. لذلك لابدّ أنْ تكون كلّ خطوة يقوم بها محسوبة داخليا؛ لأنّ الهدف من الجولة والاتصالات واللقاءات يتجاوز جمعيات حقوق الإنسان وهيئات البروالإحسان. فالرئيس السابق يريد توظيف جولته «الشرق الأوسطية» انتخابيا من دون كسر ذاك المألوف في الصور النمطية المتداولة في الإعلام الأميركي عن «إسرائيل» ومنظمات المقاومة.

في إطار هذا الفضاء الهلامي العام تحت أيّ سقف سياسي يمكن قراءة جولة كارتر لمنطقة «الشرق الأوسط»؟ هناك زوايا مختلفة للصورة، وكلّ زاوية تشير إلى وجود نوع من الاستعداد الأميركي لإعادة التفكير في التعامل مع قضايا المنطقة الحسّاسة. فالجولة ولّدت ردّة فعل لدى الإدارة حين اعتبرتها محاولة للتعدّي على صلاحياتها واتهمتها بأنها قد تسهم في التشويش على استراتيجية سياسية لاتزال واشنطن ترى فيها الإطار الصالح للتعاطي مع مراكز القوى الإقليمية.

ردة الفعل الآنية جاءت استتباعا لتلك التي صدرت قبل سنة ضد كتابه عن السلام والعنصرية في «الشرق الأوسط». وهي أرادت تطويق نتائج يمكن أنْ تسفر عنها وخصوصا أنّ توقيتها جاء بعد زيارة قام بها المترشّح الجمهوري لمنصب الرئاسة جون ماكين إلى تل أبيب طلبا للعطف والرعاية، وقبل زيارة يتوقع أنْ يقوم بها الرئيس جورج بوش لمشاركة حكومة إيهود أولمرت في احتفالات الذكرى الستين للنكبة الفلسطينية.

توقيت الزيارة لا يمكن عزله عن تلك المعركة الداخلية بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي التي تتركز الآنَ على كسب الناخب الأميركي في معركة الرئاسة. وبما أنّ المعركة أخذت في طورها الراهن تكشف عن اختلافات عميقة في الموضوع العراقي فإنّ غبارها لم ينقشع للكشف عن حقيقة الاختلافات في الموضوعات الحساسة الأخرى. فالحزب الديمقراطي يزايد على الجمهوري في مسألة أمن «إسرائيل» ويبالغ في تصريحاته بشأن إيران ومشروعها النووي وتهديدها لأمن المنطقة واستقرارها. وهذا يعني أنّ الرئيس المقبل سيكون نسخة طبق الأصل عن بوش في موضوعين مركزيين (فلسطين وإيران) وإنْ اختلفت رؤيته بشأن العراق وضرورة الإسراع في سحب قوّات الاحتلال.

جولة كارتر إلى المنطقة وفي هذا التوقيت أعطت إشارات سريعة لوجود نوع من الاستعداد لدى الجمهور الأميركي؛ لتقبّل قراءة أخرى مغايرة للمألوف بشأن الموضوع الفلسطيني. فالجولة وما تضمنته من لقاءات وحوارات وتبادل رسائل لا تتعارض مثلا مع جوهر توصيات تقرير بيكر - هاملتون التي اشتملت اقتراحات ربطت بين العراق وفلسطين وطالبت بتوسيع رقعة الاتصالات بدول الجوار بحثا عن حلول ومخارج لأزمات قديمة ومستحدثة. وبهذا السياق يمكن اعتبار الجولة محصّنة داخليا؛ لكونها لا تتعارض مع رؤية اعتمدها تقرير الكونغرس بشأن التعامل مع قضايا المنطقة الحساسة من زوايا مختلفة وعدم حشّر المصالح الأميركية في دائرة ضيّقة.

حتى الآنَ لم تتوضح معالم صورة الجولة. فالكلام الذي نقل عن كارتر واستعداده لحمل رسائل إلى تل أبيب لم يخرج عن تلك العناوين العامّة التي تتحدّث عن أمن «إسرائيل» والإفراج عن الأسرى ووقف إطلاق الصواريخ. هذا الكلام ليس جديدا، وهو نسخة مكررة عن عقلية تقرأ السياسة من زاوية أمنية بينما المطلوب تجاوز هذا الحاجز النفسي والانطلاق نحو تصوّرات سياسية تبتكر آليات قادرة على تصنيع حلول لمشكلات شديدة التداخل والتعقيد.

هذه الصورة المفترضة لم تتوضح معالمها السياسية حتى الآنَ. والخوف أنْ يكون كارتر جاء في مهمّة استكشافية تريد اختبار النوايا واستخدامها في حسابات انتخابية داخلية وبالتالي الاكتفاء بتحقيق اختراق بسيط يساعد على ضبط أمن «إسرائيل» أو الإفراج عن الأسير بهدف الظهور بموقع مميّز في صورة التنافس الانتخابية... وبعدها تعود الأمور إلى مجاريها السابقة.

خبرة كارتر بشئون المنطقة خلال فترة رئاسته تعطيه أفضلية في التعامل الواقعي مع قضايا ساخنة سبق له التعاطي معها ودفع كلفة الاستخفاف بها غاليا. والسؤال هل يوظف كارتر خبرته السابقة ويطمح إلى بلوغ «المستحيل» أو يكتفي بالحد الأدنى ويأخذ «الممكن» من دون أنْ يحقق الاختراق السياسي المطلوب؟ الجواب النهائي يتجاوز كارتر ويتصل بذاك الاستعداد الذي يمكن أنْ يتوصّل إليه الحزب الديمقراطي.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2053 - السبت 19 أبريل 2008م الموافق 12 ربيع الثاني 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً