العدد 2093 - الخميس 29 مايو 2008م الموافق 23 جمادى الأولى 1429هـ

مفارقات الحداثة والتقليد

الإسلاميون ومأزق السياسة في مجال الممارسة (12)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

لاشك في أن الحوادث الصعبة التي تمر بها المنطقة العربية - الإسلامية تساعدنا على التقاط مفارقات يمكن من خلالها ضبط المشترك السياسي بين الدولة والمجتمع كذلك المشترك التاريخي بين جماعات الدولة نفسها. فقراءة فكرة الديمقراطية في الوطن العربي وتطور منظوماتها الايديولوجية ليست قراءة نظرية تقوم على ترجمة النصوص وتركيب فقرات دستورية بل هي أساسا قراءة تاريخية ترتبط بتطور فكر الجماعات السياسية ودور الدولة في قيادة التحول الاجتماعي والاقتصادي والدستوري للبلاد.

يحيلنا الأمر المذكور على إعادة قراءة المشكلة انطلاقا من محاولة الإجابة عن سؤالين: تحليل طبيعة الدولة (الدول العربية) ودورها في تلبية حاجات المجتمع ومدى استعدادها للقيام بوظائفها الاجتماعية والدستورية. والثاني تحليل طبيعة المجتمع وصولا إلى تفكيك ايديولوجية الجماعات السياسية وموقفها من الدولة الوطنية.

يلاحظ من قراءة حوادث الثمانينات ومطلع التسعينات التي أحدثت صدمات سياسية في مصر والسودان والجزائر وتونس والسلطة الفلسطينية أن الدولة أخذت تفقد وظيفتها التوحيدية وبدأت تنزلق إلى طرف سياسي في مواجهة مكشوفة مع المجتمع أو على الأقل مع أكثرية من جماعاته. الانزلاق المذكور نحو المواجهة ليس جديدا بل نجد تفسيره في نشأة الدولة الوطنية (المعاصرة والحديثة) وتكوينها الاجتماعي التي قامت أساسا على فكرة الانقلاب النخبوي (الحزبي، الايديولوجي، العسكري) على الجماعات والاندفاع نحو تأسيس نزعة سلطوية لا تحترم كثيرا التكوين التاريخي للمجتمع، وخصوصا تلك الموروثات التقليدية والهيئات الأهلية التي تشكلت في فترات زمنية متباعدة وتقوم بوظائف حياتية مستفيدة من شبكة العلاقات الاجتماعية ومنظوماتها المتوارثة.

تصورت النخبة (الدولة المعاصرة) أنها تستطيع باسم التقدم والحداثة أن تحقق قفزات اجتماعية بمعزل عن الجماعات السياسية وهيئاتها الأهلية ومنظوماتها المتوارثة تقليديا، وبسبب ذاك التصور لجأت إلى ابتكار، وأحيانا ابتداع، أساليب قسرية في صناعة التحول، ولم تدرك أن التغيير بحاجة إلى قوة بشرية تمتلك الإمكانات ومقتنعة بأن التقدم حاجة يخدم مصالحها ولا يصب في إطار تعزيز سلطة النخبة وسيطرتها الكلية على حركة المجتمع وتوازنه الطبيعي.

ساهم ضعف الوعي التاريخ عند النخبة الانقلابية في تكوين تصورات، هي أقرب إلى الأوهام، لصوغ العلاقة مع الناس وإعادة إنتاج التقدم في سياقه الزمني. فالنخبة اعتقدت أن التقدم الأوروبي حصل في لحظة زمنية قصيرة وأنه يمكن تقليده إذا ترجمنا دساتيره ومنظوماته المعرفية وقمنا بتطبيقها كأمر واقع، ولم تنتبه النخبة إلى مسألة التاريخ والطبيعة الثقافية للجماعات الإنسانية. فالدستور لا يستورد بل هو أصلا نتاج التطور الداخلي للشعب ويعبر عن روحيته التاريخية ونظرته إلى الحياة والكون، كذلك الديمقراطية لا تترجم نصوصها وهي مثل قوانين الأحوال الشخصية وغيرها من مسائل تتعلق بالتربية والمعيشة وأسلوب الحياة والتنظيم المتوارث. وخطأ كمال أتاتورك الأساسي أنه تصور أن مشكلة تركيا بعد حصول الانقلاب على السلطان هو في السلطنة والشريعة الإسلامية والأبجدية العربية والآذان والحجاب والصيام وغيرها من أنظمة الملل والنحل التي كانت تعتمدها إسطنبول في تنظيم جماعاتها القومية والدينية والمذهبية، فأقدم على إلغاء السلطنة وشطب الشريعة وبدل الأبجدية ومنع الآذان بالعربية وحارب الدين والتدين واعتمد ترجمات مختلفة للدساتير الأوروبية ظنا منه أن تلك الخطوات ستدفع بتركيا إلى مصاف الدول المتقدمة وتصبح خلال سنوات قليلة على مرتبة واحدة من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. كانت النتيجة عكس ما تصور، إذ تراجعت مكانة تركيا وتدهورت سياسيا واجتماعيا، وأدى أسلوبه الانقلابي إلى تكوين فجوة زمنية قطعت تاريخ البلاد إلى نصفين وسلخت الجماعات عن هوياتها الثقافية وحولت الناس في أقل من يوم إلى أميين بسبب تغيير اللغة إلى الحرف اللاتيني. واضطر أتاتورك إلى محاربة الجميع بقصد توسيع القاعدة الاجتماعية للدولة وتوحيد مختلف الجماعات في تصور واحد وساهم الأمر في دفع الدولة العلمانية إلى ارتكاب مجازر ضد الأرمن والمسيحيين والعرب وطرد الآلاف منهم بذريعة عدم انسجامهم مع الدولة القومية التركية. وبدلا من تحقيق التقدم المنشود لعب الزمن دوره المعاكس إذ انتهت الدولة إلى عزلة سياسية بعد أن توسعت دائرة صداماتها مع الأقليات الأقوامية والمذهبية التي يتكون منها المجتمع، الأمر الذي ترك تأثيره في النمو الاجتماعي والتطور الاقتصادي.

يبذل المستشرق البريطاني - الأميركي برنارد لويس جهده لتأكيد فكرة أن «إسرائيل» هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط - إلى جانب تركيا - ليشير إلى ضرورة استمرار التحالف الاستراتيجي بينها وبين الولايات المتحدة لمواجهة الحركات الإسلامية الأصولية في «الشرق الأوسط الجديد» الذي اتسعت برأيه مساحته الجغرافية بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. ويؤكد مرارا أن الديمقراطية الإسرائيلية أسستها غالبية «أوروبية من السكان في أعقاب الإدارة الاستعمارية البريطانية. وهي استمرت بشكل ملحوظ على رغم التغييرات الديمغرافية والسياسية، ولم تسقط على رغم ضغط عقود من حال الطوارئ العسكرية». فالمستشرق لويس يلمح إلى أن «إسرائيل» ديمقراطية لأنها أوروبية في تكوينها السكاني، بينما الدول العربية ليست كذلك لأنه ينقصها المجتمع المدني الحقيقي الذي يحافظ على تماسك الدولة، وتفتقر إلى «حس حقيقي بهوية وطنية مشتركة أو ولاء مطلق للدولة - الأمة». (قراءات سياسية، قراءة جديدة للشرق الأوسط، ربيع 1993).

ويعتبر لويس في مقاله (قراءة جديدة للشرق الأوسط) أن تركيا هي الدولة الوحيدة في العالم الإسلامي «استمرت فيها الديمقراطية تعمل وتنمو على رغم الصعوبات والعقبات. ففي تركيا لم تأتِ الديمقراطية موروثة من حكام إمبرياليين، ولا مفروضة من أعداء منتصرين. كانت اختيارا حرا من الأتراك أنفسهم». (قراءات سياسية)، نقلا عن مجلة «فورن افيرز» السنة الثالثة، العدد الثاني، ربيع 1993.

ليس صحيحا قول لويس أن تركيا هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط إلى جانب «إسرائيل»، فتركيا دولة أتاتوركية وخياراتها السياسية ليست ديمقراطية بدليل أن أية قوة تفوز بالانتخابات عليها أن تستجيب لشروط حارس الدولة (الجيش) والخضوع للدستور الذي لم تتم كتابته بالاتفاق ومن خلال الإرادة الحرة للناس. ولولا حكمة الإسلامي أربكان وحاجة النخبة الحاكمة لحارس مساعد لكان حصل في تركيا ما يشبه الكارثة التي وقعت في الجزائر. كذلك «إسرائيل» لا يمكن أن نضعها في خانة الدول الديمقراطية لأنها أصلا تقوم على احتلال أراضي الغير وممارسة التمييز الديني وأحيانا القومي ضد أصحاب البلاد الأصليين. ليس القصد هنا الحديث عن أسباب إخفاق الأتاتوركية وطبيعة «إسرائيل» وتكوينها ودورها في المنطقة بل محاولة الاستفادة من ذاك الإخفاق الذي تكرر للأسف في الوطن العربي بعد أن أخذت النخب العربية تقلد النهج الأتاتوركي في تركيب الدولة واستيراد المنظومات المعرفية والدستورية متجاوزة بذلك الناس والتاريخ.

هناك الكثير من التشابه بين الأتاتوركية والنخب العربية الحاكمة مع اختلاف أساسي واحد وهو أن تركيا استخدمت وسائل السلطة لتحقيق مشروع انقلابي يلغي الأسس التاريخية للدولة السلطانية بينما النخب العربية حاولت تأسيس سلطة جديدة بدأت أحيانا من الصفر لتقوم بمهمة الدولة على الطريقة الأتاتوركية.

كانت النتيجة أن الأتاتوركية نجحت في تأسيس الدولة الحديثة لكنها أخفقت في توحيد المجتمع فأخذ يتفكك وتتدهور علاقاته ومنظوماته، بينما انتهت الدولة الحديثة في البلدان العربية إلى إخفاق في تحقيق الوحدة (الدولة القومية) فانعزلت في داخل كياناتها السياسية محاولة إعادة صوغ المجتمع وفق تصورات فوقية انقلابية مستخدمة القوة لتنظيم التجارب الايديولوجية (في تركيا والوطن العربي) فأدى الأمر إلى تحول الدولة إلى قوة معرقلة لتقدم المجتمع في وقت اعتقدت النخبة أن سلوكها السياسي سيدفع الناس إلى الحداثة والتطور. ويمكن هنا قراءة التشابه بين الإخفاقين الأتاتوركي في تركيا والنخب الحاكمة العربية في الأساليب والنتائج، فالأتاتوركية لم تفصل الدين عن الدولة بل حاولت السيطرة على الدين من خلال إلقاء القبض على المجتمع وفرض التجانس القسري على الجماعات المتفاوتة، كذلك نخبنا الحاكمة لم تفصل الدولة عن الدين بل حاولت توسيع وظائف الدولة لتهيمن على الدين من خلال الهيمنة على المجتمع ومصادرة حركته الداخلية وضرب مؤسساته التقليدية الموروثة وتفكيك هيئاته الأهلية وتغيير طبيعته الاجتماعية وتزييف هويته الثقافية من طريق القهر والتسلط. فالدولة الحديثة (الدول العربية) المعاصرة تحولت إلى دولة تسلطية تعرقل التطور من خلال تعطيلها لأدوات المجتمع ومؤسساته الأهلية، الأمر الذي زاد ويزيد من عزلتها وربما يؤدي الأمر إلى تفككها كما كاد يحصل في الدولة الأتاتوركية ما اضطرها أخيرا إلى التراجع لإفساح المجال لتمثيل خيارات الناس في السلطة والحكومة مع الاحتفاظ بحق الإشراف العام على الدولة والتدخل إذا اقتضت الظروف.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2093 - الخميس 29 مايو 2008م الموافق 23 جمادى الأولى 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً