العدد 2099 - الأربعاء 04 يونيو 2008م الموافق 29 جمادى الأولى 1429هـ

... والتفت شون بن إلى الصحافيين وهمس: ألم أقل لكم؟

قراءة في نتائج الدورة 61 لمهرجان «كان» السينمائي

كان (الجنوب الفرنسي) - ربيع إسماعيل 

04 يونيو 2008

حين قال الفنان شون بن للصحافيين عشية بدء ترؤسه لجنة التحكيم للدورة الحادية والستين لمهرجان «كان» السينمائي إنّ هذه الدورة ستكون «بالتأكيد» «دورة سياسية» وانتظروا ليلة الختام لتروا! اعتقد الصحافيون أنّ الممثل المخرج الأميركي المشاكس يمازحهم على عادته، وأن كلامه هذا إنما يخفي في طياته رغبة في المهادنة. صحيح أنهم لم يستبعدوا أنْ يكون التوجّه العام اجتماعيا راديكاليا، لكنهم قالوا إنّ ثمة فارقا كبيرا بين السياسة الخالصة والبعد الاجتماعي ضمنا وإن كان راديكاليا. وكان المؤشر على ذلك أن شون بن سيرجح في نهاية الأمر كفة صديقه المخضرم كلينت ايستوود، ويختار لـ «السعفة الذهبية» فيلم هذا الأخير الرائع «الابدال» وكانت الحجة في هذا أنّ «الابدال» جذري في انتقاده لسلطة بوليس لوس انجلوس وأن عبر أحداث تقع في عشرينيات القرن الماضي ثم أو ليس فلم لا يستود هو «منيك ريفر» أتاح لشون بن أن يحصل قبل سنوات على أوسكار أفضل ممثل مثيرا في طريقه غضب جورج دبليو بوش الذي ينظر لشون بن على أساس حوت مناهض له بقوة في هوليوود وخارجها؟

طبعا نعرف الآن أن «الأبدال» لم يحظ بـ «السعفة الذهبية» وأنّ كل ما ناله ايستوود على رغم الإعجاب الشامل به وبفيلمه كان «جائزة الدورة 61 الخاصة» أمّا «السعفة» فذهبت لأول مرة منذ 21 عاما إلى فيلم فرنسي ما شكّل مفاجأة حقيقية للفرنسيين قبل غيرهم إذ حتى الفرنسيون الذين كانت شوفينيتهم تدعوهم منذ بداية المهرجان إلى التركيز على فيلم من عندهم يفوز ركزوا على فيلم «حكاية عيد ميلاد» وساندوه بقوّة غير مبالين بـ «بيت الجدران» الذي عاد هو وحقق «الانتصار الفرنسي الكبير» وذلك بالتحديد لأنّ «حكاية عيدالميلاد» فيلم فرنسي خالص بلغة فرنسية عن عائلة فرنسية ومليئ بالنجوم الفرنسيين كما أنّ مخرجه أرنو دبليشان يعتبر واحدا من الأبناء المدللين لمهرجان «كان» أمّا الفيلم الذي فاز فهو من ناحية أولى يعنى بالمراهقين العرب والسود، ومخرجه ليس عادة من مخرجي الصف الأول (هو مخرج أفلام وثائقية وأعمال اجتماعية شديدة الخصوصية)... كما أنّ الموضوع على فرنسيته غريب بعض الشيء أنّ الفيلم هو عمل نصف وثائقي/ نصف خيالي، يتحدّث عن تجربة حقيقية عاشها وكتب عنها - ويمثلها في الفيلم - استاذ صف ثانوي فرنسي طوال موسم دراسي في واحدة من أصعب المؤسسات التعليمية الفرنسية والصعوبة هنا بحسب التعبير الفرنسي تكمن في أنّ الصف يتألف من أبناء شتى أنواع العمّال المهاجرين الذين يعيشون في المجتمع الفرنسي من دون أن يندمجوا فيه، ناقلين إليه خلافاتهم واختلافاتهم وصراعاتهم اليومية.

إنّ هذا الوضع هو ما يجابهه الاستاذ فرانسوا بيغودو والذي كتب النص بنفسه بالإضافة إلى تمثيله الدور، إدارة المخرج لوران كافتيه والنتيجة ساعتان سينمائيتان رائعتان تتحرك خلالهما ميرا داخل ذلك الصف الدراسي لترينا بؤس العالم وقضية الانتماء وغضب الشبيبة وتفاوت المستويات الفكرية ولك هذا في مجابهة مع استاذ يؤمن بقوّة الكلمة والحوار ولكن من دون تنازلات في الحقيقة أنّ هذا الفيلم الذي يدنو من واحدة من أعسر المشكلات التي تجابه المجتمع الفرنسي -والمجتمعات الأوروبية عموما - شكّل مفاجأة حقيقية ما جعل حتى الذين لهم عادة حساسية خاصة ضد السينما الفرنسية ومنهم كاتب هذه السطور يغفلون عن معظم الأفلام التي عرضت في المهرجان... ولكن من دون أنْ يصل أحد إلى تصور إمكانية أنْ يعطى «السعفة الذهبية» لكن شون بن بحسّه السياسي العميق ونزعته التجديدة وجرأته المعروفة في الاختيار فعلها فنال تصفيقا بعد مرور ثوانٍ .

صدفة وصدمات

الصدفة لأنّ أهل السينما والنقد في «كان» يرون أن ثمة أفلاما مهيأة لنيل «السعفة» أكثر من «بين الجدران» ومن هذه الأفلام ما نال جائزة لا بأس فيها في نهاية الأمر ومنها ما استبعد تماما...

ونبدأ هنا الأفلام المستبعدة التي كان التوقع يتجّه نحوها منذ عرضها ونيلها عددا كبيرا من الإعجاب. طبعا ذكرنا هنا الاستبعاد «لكلينت ايستوود» الذي لم يفز إلا بتكريم خاص لمخرجه، وهو في مقدمة الأفلام التي اثار استبعادها دهشة وربما غضبا ايضا، اعتبر من قبل هواة السينما الحقيقيين تحفة، خصوصا أنه من موضوع شائك وهو موضوع الإرهاب والشرق الأوسط، ولكن في شكل شديد الهدوء والتوازن، وذلك من خلال حكاية الفتى سيمون الذي يعيش يتيما في كنف عمه وجده، بعد قتل والديه الفلسطيني والكندية في حادث سيارة وفي المدرسة تهتم به مدرسته التي سنعرف لاحقا أنها لبنانية الأصل... ثم سنعرف وسط معاناتنا الكبيرة أنها كانت الزوجة السابقة لأبيه وسط هذا المناخ يخلق سيمون لنفسه عالما خاصا، كما يخلق لأبيه وامه ماضيا، انطلاقا من بعض تاريخ الارهاب الشرف أوسطي... وكل هذا في سيناريو قوي ومحكم ، أن ينال الفيلم على الأقل جائزة السيناريو غير أن ّهذه ذهبت إلى فيلم بلجيكي، كان يتوقع له فوز كبير... بل حتى «السعفة الذهبية» هو «صمت لورنا» للأخوين داردين اللذين ككل نتاجهما بالفوز الكبير في «كان» مرات كثيرة قبل اليوم بما في ذلك حصولهما على «السعفة الذهبية» و»صمت لورنا» هو بدوره فيلم عن بؤس العالم ومشاكل الهجرة، قدّم موضوعه عن حول فتاة ألبانية مهاجرة، بلغة قوية ونزعة إنسانية استرعت الانتباه نحو الفيلم منذ عرضه في الأيام الأولى للدورة.

إذا كان الأخوان داردين قد نالا جائزة «السيناريو» لـ «صمت لورنا» حصتهما، فإنّ الظلم في المقابل كان من نصيب أوروبي آخر كبير هو فيلم فدرز أحد كبار مخرجي «معجزة السينما الألمانية» التي انطلقت في سبعينيات القرن العشرين وفدرز معروف أنه من «أبناء كان» المدللين وهو سبق له أن عرض معظم أفلامه في دورات المهرجان ونال «السعفة الذهبية» عن «باريس/ تكساس» لكنه خلال العقدين الأخيرين وعلى رغم أنه عرض نحو نصف دزينة من الأفلام عجز عن إقناع المحكمين في «كان» بإعطائه أية جائزة جديدة ذات قيمة وهذه المرة إذ شوهدت في «كان» تحفته الجديدة «تصوير باليرمو» هتف كثر هذه المرة سيحقق فدرز نصرا كبيرا لكن هذا لم يحدث وعاد سيد السينما الألمانية الجديدة بخفي حيف لكن هذا المصير لم يكن في المقابل من نصيب زميله التركي نوري بلجي جيلان الذي يعتبر في وطنه معادلا لفدرز في ألمانيا إذ أنّ فيلم جيلان الجديد «ثلاثة قرود» والذي اثار موجة أعجاب عارمة قد عرض في اليوم الثالث للدورة تمكن من أن يعطي صاحبه جائزة أفضل اخراج وكانت «السعفة الذهبية» متوقعة لـ هؤلاء. واللافت أن هذه هي المرة الثالثة التي يشارك جيلان بها في «كان» والمرة الثالثة التي تعطى له جائزة كبرى أنما ليس الجائزة الأكبر فهل هذا عرض من بعيد وفاز ثم عرض «مناخات» وفاز أيضا ولكن نرى أن جيلان أغرق في مشاكله الذاتية فيلمه السابقين، المجددين في نصهما السينمائي، فإنه هذه المرة في «ثلاثة قرود» ؟؟؟ موضوعه أكثر ليطال حال المجتمع التركي بعيدا عن ذاتيته الخاصة فقدم عملا عن أسرة عادية رسم من خلاله تفكك القيم والرغبة المرة في عيش الحياة كما هي والتفاوت الطبقي والفساد الأخلاقي. فيلم رائع وحقيقي «ثلاثة قرود» وهو من الأفلام المؤسسة بقوّة باعتباره عملا آخر وضع السينما التركية على سكة العالم وأدخل فن هذا البلد إلى عصر هذا العالم كما أنه درس حقيقي في السينما كفن يدنو بساطه في أكثر المشكلات تعقيدا. ولعل في إمكاننا من الآن أن نقول إن جيلين واصل صعوده السينمائي الأنيق والقوي في أفلامه المقبلة ستكون السعفة الذهبية من نصيبه ذات يوم.

إيطاليا المافيا

السياسة والمجتمع لهما ودائما بحسب نظرة شون بن في فيلمين اتيا من بلد واحد ويدوران حول موضوع أساسي واحد. البلد هو إيطاليا والموضوع هو المافيا إيطاليا وطن فليلني وفسكونتي وانطونيوني وغيرها من الكبار الذين صنعوا تاريخ الفن السابع على الصعيد العالمي، يغيب عمليا عن الانتصارات السينمائية الكبرى منذ سنوات مع استثناءات قليلة ونادرة مثلها باي دوريتي احيانا وروبرتو بنينغي احيانا أخرى. ومن هنا كان الترهيب كبيرا بوجود ما لايقل عن ستة أفلام إيطالية جديدة في هذه الدورة من «كان» وكذلك - خصوصا - بوجود فيلمين ايطاليين في المسابقة الرسمية غير أنّ الترحيب كان خجولا بعض الشيء... ثم حين عرض الفيلمان وهما «غموره» و»ال ديفو» قال كثران على أنه من الصعب على أي منهما أن يحقق فوزا حتى وأن كان مودفا أنّ لأفلام المافيا، وخصوصا للأفلام السياسية عن المافيا سحرها الخاص لكن النتيجة أتت مفاجأة ومدهشة وشكلت لبعض الإيطاليين صحوة تشبه صحوة فوز فريق كرة القدم الأبطال بطولة العالم فازالأوّل «غموره» بجائزة لجنة التحكيم الكبرى تعتبر عادة ثاني جائزة في المهرجان، الأول من ناحية القيمة الفنية وفاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة التي تعتبر أشبه بجائزة ترفيه عما فاته الفوز بالسعفة.

«غموره» اخرجه ماتو غاروني وهو يتحدّث من خلال 5 حكايات مترابطة عن المافيا المسيطرة على مقدرات مدينة نابولي الإيطالية والتي يراها كثر أكثر خطرا وقوة من المافيا الفعلية وخصوصا أنّ الايطالية تعاطي التهريب وتزوير البضائع ولها وكلاء «تجاريون» منتشرون في شتى انحاء العالم بحيث يقدر مدخولها السنوي لا يقل عن 250 مليار دولار وطبعا هذه «الحقائق» يقدمها الفيلم في لغة سينمائية تختلف من حول 5 أشخاص لكل منها علاقتها الخاصة بهذه المافيا، ولكل منها حكايته الخاصة. الفيلم خيالي لكنه مأخوذ من كتاب شهير في ايطاليا كثيرا ما حاولت مافيا نابولي منعه من التداول ولسنا ندري ماذا سيكون الآنَ موقفها من الفيلم الذي بدأت عروضه الايطالية قبل أيام ليسجل أعلى نسبة مشاهدة في ايطاليا والفيلم ايطالي منذ سنوات.

والفيلم الثاني أكثر قوّة من الناحية السينمائية لكن موضوعه وأن كان أكثر سياسة أكثر انحصارا أنه يدنو من المافيا ونفوذها ولكن من خلال سيرة سياسية و متخيلة ومبتكرة للزعيم السياسي الايطالي جوليو اندربوني الذي رأس الحكومة في بلاده باسم حزب الديمقراطي المسيحي سبع مرات وكان وزيرا 20 مرة وهو الآن سيناتور مدى الحياة والفيلم يرينا تفاصيل المحاكمات التي جوبه بها اندريوتي حين انكشفت في ثمانينيات القرن العشرين علاقاته لمافيا وبالشبكة المصرفية التي تدور من حول المافيا وتمولها هذا الموضوع موضوع ايطالي خالص... لكن عن خط الفهم أنّ لغته السينمائية شديدة الحداثة والقوة والابتكار حيث لأوّل مرة نجد لها توليفة حقيقية تشتغل على الصوت والصورة والموسيقى في تفجير ابداعي كبير، لتقديم فيلم سيرة سياسية من هذا النوع.

العدد 2099 - الأربعاء 04 يونيو 2008م الموافق 29 جمادى الأولى 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً