العدد 2109 - السبت 14 يونيو 2008م الموافق 09 جمادى الآخرة 1429هـ

ملفات «الشرق الأوسط» وبازار المفاوضات

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

«بازار» المفاوضات الثنائية على ملفات «الشرق الأوسط» الساخنة اشتد زخمها وخرجت إلى العلن بعد سنوات من طغيان التهديد والوعيد. هناك الآن سلسلة مفاوضات ثنائية جارية على أكثر من صعيد وعلى أعلى المستويات.

هناك مفاوضات دولية - إيرانية بشأن وقف التخصيب مقابل حوافز وإغراءات أوروبية. وهناك مفاوضات «فنية» و«تقنية» بين الولايات المتحدة وإيران بشأن العراق وتقاسم النفوذ في بلاد الرافدين. وهناك مفاوضات أمنية بين الاحتلال الأميركي والحكومة العراقية بشأن توقيع معاهدة ثنائية بدأت تثير الجدل القانوني عن وظيفة القوات الأجنبية في بلد يفترض أن يتمتع بالسيادة والاستقلال. وهناك مفاوضات سورية - إسرائيلية غير مباشرة تعقد في تركيا بشأن مصير الجولان والهدنة الطويلة الأمد واحتمال عقد معاهدة سلام. وهناك مفاوضات فلسطينية - إسرائيلية مباشرة بشأن تمرير وعد بوش عن مشروع قيام دولتين متجاورتين. وهناك مفاوضات حماسية - إسرائيلية غير مباشرة تنظم بإشراف مصري بشأن عقد تهدئة أو هدنة مؤقتة يتم خلالها تبادل الأسرى ووقف إطلاق الصواريخ وفك الحصار عن قطاع غزة.

لبنان هو الدولة الوحيدة التي تقع خارج غرف التفاوض السرية والعلنية. فهذا البلد الصغير رفض مرارا دعوات حكومة إيهود أولمرت التي طلبت من حكومة بيروت منذ تجميد عدوان صيف 2006 الدخول في «بازار» المفاوضات. والدعوة الأخيرة التي وجهها أولمرت جاءت بعد الكشف عن وجود مفاوضات بين دمشق وتل أبيب عبر القناة التركية. ورفضت الحكومة اللبنانية دعوة أولمرت التي تجددت بعد توقيع «اتفاق الدوحة» وانتخاب رئيس الجمهورية.

لبنان يعتبر نفسه غير معني بالتفاوض على رغم أنه الدولة الوحيدة التي تواصل دفع كلفة الممانعة والتصدي للمشروع الأميركي - الإسرائيلي في دائرة «الشرق الأوسط الصغير». فمنذ العام 1973 أوقفت رسميا كل جبهات الحروب العربية - الإسرائيلية وجرى توقيع اتفاقات هدنة ومعاهدات سلام واستقرت الأوضاع العامة على حالات من اللاحرب واللاسلم. لبنان هو الطرف الوحيد في نطاق «الممانعة القومية» يتلقى الضربات العسكرية المدمرة بشريا وعمرانيا ويرفض الدخول في مفاوضات ثنائية تعقد خارج إطار القرارات الدولية أو بالضد من مبادرة السلام العربية التي أقرت في قمة بيروت وجددت فاعليتها في قمة الرياض وأخيرا دمشق.

«بازار» المفاوضات الثنائية انطلقت علانية بعد سنوات من التكتم والسرية وبواسطة قنوات ثالثة نشطت مرارا على أكثر من صعيد وأعلى من مستوى. السؤال الأول، لماذا أعلن عن المفاوضات بعد فترة غامضة أحاطت الاتصالات بأغلفة «الفنية» و«التقنية»؟

أجوبة كثيرة يمكن وضعها لتوضيح زوايا الصورة، إلا أن العامل الأهم الذي طرأ على المعادلة يتركز على احتمال نمو حاجة أميركية إلى الإعلان عن وجود مفاوضات بشأن ملفات «الشرق الأوسط». فالإدارة الأميركية الحالية دخلت فترة «الوقت الضائع» وهي تمر في مرحلة حزم الحقائب للمغادرة عسكريا وتريد قبل حفل الوداع إبرام صفقات تضمن حصتها ضمن معادلة سياسية تلبي مصالحها وتؤكد دورها الخاص. والكشف عن المفاوضات الثنائية «السرية» يعطي الإدارة الأميركية جرعة من المعنويات في وقت يخوض الحزب الجمهوري معركة رئاسية قاسية ضد منافسه الديمقراطي. فالإبقاء على السرية لا يفيد واشنطن في لحظة زمنية صعبة تواجه إدارة بوش في العراق وفلسطين.

حاجة واشنطن

حاجة واشنطن لعبت دورها في كشف تلك الاتصالات واللقاءات والمفاوضات. فالإدارة تريد التأكيد للناخب الأميركي (دافع الضرائب) أن الولايات المتحدة التي أنفقت ألف مليار دولار على حروبها في السنوات الثماني الماضية بدأت تحصد سياسيا من خلال تأمين صفقات ترجح احتمال التساكن مع الجار الإيراني والتموضع في الداخل العراقي. والإدارة أيضا التي دعمت حكومة أولمرت الهزيلة بمئات الملايين من الدولارات سنويا اكتشفت وجود صعوبات في بناء دولة فلسطينية «ناقصة ومنقوصة» في الفترة المتبقية من السنة الأخيرة من عهد بوش. لذلك شجعت تل أبيب للإعلان عن وجود تفاوض على المسار السوري يوازي أو ينافس المسار الفلسطيني. والمسار السوري في الرؤية الإسرائيلية يعتبر أقل كلفة من المسار الفلسطيني لكونه يتركز على الجولان فقط ولا يتعاطى بالقدس والمستوطنات ومسألة العودة وغيرها من موضوعات تزعزع استقرار حكومة أولمرت الهزيلة.

السؤال الثاني، إلى أي مدى يمكن توقع نجاح تلك المفاوضات الثنائية؟ كل المؤشرات تدل على احتمال التوصل إلى نصف نجاحات. والنصف نسبة كافية للإدارة الأميركية في اللحظات الأخيرة من عهدها. الولايات المتحدة تطالب طهران بتجميد أو وقف أو تأخير تخصيب برنامج اليورانيوم النووي مقابل حوافز وإغراءات. وهذا الاحتمال بات من الممكن التوصل إليه بعد إعلان أجهزة المخابرات الأميركية عن توقيف إيران مشروعها العسكري في العام 2003. وأميركا تطالب حكومة بغداد التي صنعتها بمعاهدة أمنية لتغطية الانسحاب، وهذا الاحتمال ليس مستبعدا في حال تم تدوير بعض المواد التي تشرع الاحتلال إلى مدة مجهولة. أما الملف الفلسطيني الذي ينحصر أميركيا في مبدأ ضمان أمن «إسرائيل» فإن الولايات المتحدة تميل إلى ترجيح فكرة تطويل التهدئة أو الهدنة العسكرية على الدخول في مشروع حل سياسي شامل ومتكامل كما نصت بنود المبادرة العربية. وبسبب ترجيح الجانب الأمني على الجانب السياسي في الشطر الفلسطيني فإن واشنطن تميل إلى تشجيع التفاوض على المسار السوري لأنه أقل كلفة وأكثر ضمانة. وبهذا المعنى يمكن توقع انهيار التفاوض على المسار الفلسطيني مقابل تأكيد هدنة طويلة في الجولان وربما في قطاع غزة أيضا.

السؤال الثالث، ما هو الثمن الذي يمكن أن تدفعه الإدارة الأميركية مقابل تجميد أو تشطير الملفات الساخنة في إطار خطة ضمان أمن «إسرائيل» واستقرارها في المدى المنظور؟ عراقيا يرجح أن تتوصل المفاوضات إلى توقيع اتفاق إطاري يضمن التساكن السياسي بين الاحتلال الأميركي المشرعن والنفوذ الإيراني المحدود في بلاد الرافدين. وهذا الأمر يتطلب أولا التفاهم على صيغة دولية - إيرانية بشأن تجميد الشق العسكري من البرنامج النووي حتى يتكفل الجانب الأميركي بترضية مخاوف «إسرائيل» من الخطر الأمني على استقرارها.

الخاسر الأكبر في معادلة ما بعد مرحلة بوش سيكون لبنان وفلسطين. فبلاد الأرز يرجح أن تخضع من جديد إلى نوع من الثنائية القطبية الإقليمية تشبه إلى حد معين تلك التفاهمات التي حصلت في العام 1976. وأرض كنعان يرجح أن تدخل في إطار سياسي يجمد التفاوض مع الجانب الفلسطيني لتسهيل المسار على الجانب السوري بذريعة تخفيف الضغط على حكومة أولمرت الهزيلة والضعيفة. فحكومة أولمرت باتت على قاب قوسين من الانهيار ويرجح ألا تصمد كثيرا بعد الانتهاء من معركة الرئاسة الأميركية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. ومن الآن حتى اتضاح صورة الرئيس الأميركي المقبل يرجح أن تستمر المفاوضات الثنائية، وبعدها تبدأ مرحلة إعادة النظر في الحسابات بهدف تقاسم النفوذ في الدوائر الثلاث: العراق، فلسطين ولبنان.

«بازار» المفاوضات الثنائية بدأت وخرجت من نطاق السرية إلى العلنية وأخطر ما فيها أنها تعطل إمكانات التسوية السياسية تحت سقف الحل الشامل المضمون دوليا. فأميركا تفضل الانفراد بالتفاوض ضمن قنوات ثنائية تهمش الإجماع العربي، لأن السياق المنفرد يمنع الدول المنافسة من الدخول على خط تقاسم النفوذ ويرفع عن تل أبيب احتمالات التراجع عن الأراضي المحتلة أو التنازل عن المستوطنات ويضمن لها مقابل ذلك استقرار حدودها من التهديد وحماية أمنها من الاختراقات.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2109 - السبت 14 يونيو 2008م الموافق 09 جمادى الآخرة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً