العدد 2114 - الخميس 19 يونيو 2008م الموافق 14 جمادى الآخرة 1429هـ

نحو عقد سياسي بين الدولة والمجتمع

الإسلاميون ومأزق السياسة في مجال الممارسة (الأخيرة)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

فرض البحث في موقف الإسلاميين من مسألة الديمقراطية ومأزق الأحزاب الإسلامية في مجال الممارسة السياسية التوقف أمام موقف السلطات العربية من المسألة ذاتها وأسلوب إدارة الحكومات للصراع السياسي، لذلك كان لابدّ من قراءة مفهوم الديمقراطية على المستويين الدولة والمجتمع، وفي إطارين نظري وواقعي، وتحديد الفترة الزمنية بين الثمانينيات والتسعينيات حتى لا يخرج الموضوع عن سياقه العام.

مع ذلك لابدّ من الاعتذار عن نقطتين: الأولى، التطويل، وهو شر لابدّ منه لقراءة المشكلة من جوانبها المختلفة. والثانية، التقصير إذ اقتضى الأمر إهمال الكثير من القضايا واختصار الكثير من التنظيمات (حزب الله في لبنان مثلا) والدول العربية ليتم التركيز على نقاط التماس الساخنة.

بشأن تعريف مفهوم الديمقراطية تبين أنّ هناك سلسلة وجهات نظر عن المسألة، وهو أمر أوقع الإسلاميين أنفسهم في تعريفات مختلفة للمفهوم، فهناك مَنْ يأخذ به ويرفض استخدام المصطلح، وهناك مَنْ يأخذ بالمصطلح والمفهوم معا، وهناك مَنْ يرفض المفهوم والمصطلح معا. فالبلبلة في وسط الإسلاميين نتجت أصلا عن البلبلة في المفهوم نفسه إذ تختلف المدارس الغربية (الأوروبية) بدورها على تقييم مشترك للمسألة الديمقراطية فهناك مَنْ يعزلها عن التاريخ والجغرافيا والثقافة والاجتماع وهناك مَنْ يربطها بكلّ تلك القضايا، وهناك مَنْ يعتبرها أوروبية الأصل ومن الصعب تعميمها على مجتمعات غير أوروبية، وهناك مَنْ يعتبرها عالمية المنشأ وإنْ اختلفت درجات نموها وتطورها بين منطقة وأخرى، وبالتالي يمكن تعميمها إذا جرى تطويعها أو تكييفها أو تأصيلها مع ظروف المجتمعات ومستوى تطورها الاقتصادي والسياسي.

إلى جانب الاختلاف على مضمون التعريف النظري وتاريخيته هناك خلافات على تحديد شكل الديمقراطية. فهناك مَنْ يرى أنها مجرد آليات لا واعية يمكن سحب نظامها العام على مختلف المجتمعات من دون اعتبار لخصائصها الثقافية، وهناك مَنْ يرى أنّ آلياتها واعية ولا يمكن سحبها إلاّ بتوافر الوعي والثقافة المتسامحة والإرادة المشتركة الحرة للجماعات السياسية.

إلى الاختلاف على المضمون والشكل هناك خلافات على تقييم الديمقراطية كتجربة تاريخية. فهناك مناطق نجح النموذج فيها وهناك مناطق أخفق فيها النموذج بسبب اختلاف بنية الجماعات السياسية. ويلاحظ أنّ المجتمعات المتجانسة (قاعدة الدولة الاجتماعية) أسهل عليها تطبيق الديمقراطية العددية (حكم الكثرة) بينما تواجه الديمقراطية العددية (الأكثرية والأقلية) صعوبات في المجتمعات المتعددة قوميا ودينيا ومذهبيا وطائفيا الأمر الذي يفرض إعادة قراءة المسألة في تجارب المجتمعات غير المتجانسة (لبنان والعراق مثلا).

بعد عرض وجهات النظر في تعريف الديمقراطية وتحديد شروطها كان لابدّ من مناقشة ما يسمّى بإعادة تعريف الديمقراطية، وينحاز البحث إلى ثلاث نقاط: أنها تتمتع بآليات غير واعية، أنها ليست أوروبية المنشأ، أنها تختلف بين مجتمع وآخر في تجربة التطبيق، وقبل أنْ يتوقف النقاش بشأن هذه المسألة تم تثمين دور التيار الداعي إلى إعادة التعريف، مع تأكيد ضرورة تجاوز حدود التعريف إلى إعادة إنتاج فكرة الديمقراطية على مستويين: المعرفة (تأصيل المفهوم) والتاريخ (ربط الفكرة بالتطور الاجتماعي وتراث المنطقة).

بعد هذا تمت قراءة مواقف الإسلاميين والتمييز بين طروحات المفكر الإسلامي والتنظيم الإسلامي، كذلك تمييز طروحات الإسلاميين وفرزها إلى ثلاث مدارس. الأولى ترفضها شكلا ومضمونا، والثانية تقبلها شكلا ومضمونا، والثالثة تقبلها شكلا وترفضها مضمونا.

إلى ذلك بالإمكان ملاحظة ما يشبه الإجماع بين الإسلاميين على قبول أفكار التسامح والتعدد والاختلاف شرط ألا تتجاوز المسألة حدودها وتعتدي على حرية المعتقد الشخصي للمسلم وحقه في ممارسة شعائره الدينية.

إن أساس الخلط القائم عند الإسلاميين الذين يرفضون الديمقراطية كمفهوم وآلية يعود إلى عاملين: الأوّل، الخلط بين الحكم لله وبين الحكم بما أنزله الله، وهو أمر يؤدّي إلى التباس بين الأحكام العامّة وبين الهيئة (البشر) التي تريد تنفيذها. الثاني، الأصول الاجتماعية والثقافية والتربوية لجيل الإسلاميين الجدد، وهو جيل في معظمه من نتاج التحديث وأصوله حديثة بينما سياسته ردة فعل على الحداثة، وهو يختلف من ناحية تكوينه الأيديولوجي والزمني عن الرعيل الأوّل من الإسلاميين العرب.

بسبب الخلط النظري والأصول الاجتماعية والتكوين الأيديولوجي كان لابدّ من الاختلاف مع الرعيل الأوّل والثاني من الإسلاميين إذ تباينت وجهات النظر وتعددت وتفرعت وتنوعت بحسب اختلاف البيئات المكانية والزمانية وظروف كل دولة عربية، الأمر الذي يزيد من صعوبة ملاحقة أفكار التشتت النظري بين الكثير من التنظيمات الإسلامية وإعادة حصرها في دائرة واحدة.

يؤكد الاختلاف المذكور مسألتين. الأولى، أنّ المنظمات الإسلامية منظمات سياسية قبل أنْ تكون دينية. الثانية، أنّ مشكلاتها الخاصة يمكن بلورتها وتنضيجها لو توافرت الظروف السياسية والمناخات الديمقراطية.

لا شك في أنّ الدول العربية (النخب الحاكمة) تتحمل مسؤلية إقفال أبواب التطوّر السياسي في المنطقة العربية، فالنخبة (السلطة) تحوّلت من طرف يقود التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية إلى هيئة مستبدة تعرقل التطور الاجتماعي وتحد من نمو المجتمع السياسي الأمر الذي سيعرض المجتمعات العربية لاحقا إلى مزيد من الانكفاء إلى الحلقات الصغرى من الهويات الثقافية الضيّقة كذلك سيعرض الدولة نفسها إلى الحصار والتفكك السياسي.

لإثبات وجهة النظر المذكورة تمّ تقديم نماذج سياسية عربية متفجّرة بدأت منذ عقدين من الزمن (النصف الثاني من الثمانينات والنصف الأوّل من التسعينات) وهي: مصر، السودان، الجزائر، تونس والسلطة (الحكم الذاتي) في بعض فلسطين. فمن خلال قراءة النماذج المذكورة هناك ما يشبه التجانس بين السلطات العربية حتى لو اختلف خطابها الأيديولوجي والسياسي أوتباينت في مستوى تطورها وتجربتها الزمنية ومستوى العلاقات بين الدولة والمجتمع. وأدى انزلاق النخب الحاكمة من إدارة الدولة إلى المواجهة المباشرة مع بعض الأطراف الإسلامية إلى إضعاف دور السلطة القيادي ودفعها إلى قوّة معرقلة للتقدم الاجتماعي والتوحيد السياسي.

إنّ تعدد وجهات نظر المنظمات والهيئات الإسلامية واختلاف مواقفها من مسألة الديمقراطية ودور السلطة (النخبة) في تعطيل المجتمع السياسي ومنع تبلور الاجتهادات في مناخات سلمية اهتز أخيرا بعد مصافحة العلمانيين والإسلاميين في تركيا. فالنموذج الأتاتوركي كان سابقا قدوة للنخب العربية العسكرية والحزبية الانقلابية وانتهى أخيرا إلى الانصياع للأمر التاريخي والقبول بصيغة ائتلافية تنتج ما يشبه التوافق والتراضي بين عناصر المجتمع وتكويناته.

انطلاقا من التجربة التساكنية التي آلت إليها تركيا لابدّ من الاستفادة والدعوة إلى ما يشبه التسوية التاريخية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه حتى لا تندفع الدول العربية في مغامراتها العسكرية إلى حدودها القصوى، وينعزل المجتمع ثقافيا إلى حلقاته الضيّقة الأمر الذي سيزيد من شدة الانغلاق والممانعة. تستند الدعوة لعقد التسوية التاريخية إلى مسألتين: الأولى أنّ التحديث القسري الفوقي أدّى إلى إنتاج شكلين اجتماعيين الأوّل حديث وتغريبي والثاني قديم وتقليدي. والثانية أنّ الانقلاب (التقليدي) على الانقلاب السابق (التحديثي) غير مجدٍ وسيؤدي إلى زعزعة المجتمعات وربما السقوط مجددا في الحروب الأهلية والتفكك الشامل.

المطالبة بإنتاج صيغة توافقية (عقد سياسي) لابدّ أن تقوم على التراضي بين الفريقين شرط أن توفرالدولة المناخ السياسي الحر وحرية الأفكار والمعتقدات لإنضاج فكرة التسوية مقابل أنْ تقبل القوى الإسلامية بحرية المختلف وعدم تخويف الأقليات السياسية والأيديولوجية بالأكثرية العددية. وحتى ينهض ما يشبه الوعي التاريخي المركب لابدّ من إفساح السلطة للناس دور المشاركة في التنمية والبناء وإطلاق الحياة السياسية ليلعب المجتمع دوره في بناء الدول التي لاتزال غريبة عنه، فالدولة تستطيع أنْ تلعب دور التوحيد السياسي إذا شاركت المجتمع في عمليات التنمية والتحديث.

إنّ الديمقراطية في النهاية لا تتطوّر في دولة ديكتاتورية مستبدة لذلك لابدّ من ديمقراطية توافقية (لا عددية أو حكم الكثرة فقط) تقوم على التراضي والتساكن وتحترم الأكثرية الأقلية السياسية وغير السياسية وتشاركها في أخذ القرار المشترك حتى لو كانت في المعارضة، وهذا لاشك يتطلب المزيد من الوعي المركّب وهو مطلب مثالي، لكنه في النهاية فيه جوانب واقعية يمكن انتزاعها من الجهتين الدولة والمجتمع. وأساس واقعية الطرح حاجة النخبة للمجتمع لحماية مواقعها ودورها وحاجة المجتمع إلى الدولة لتوفير الحريات التي تطلق العقل من الأسر وتدفعه إلى المزيد من التفكير والاجتهاد.

افترضت النظريات الحديثة أنّ النموذج الأوروبي سينجح بسرعة في التغلّب على النماذج غير الأوروبية من خلال سياسة إلحاق الأطراف (العالم) بالمركز (أوروبا). ولكن ما حصل أنّ النموذج الأوروبي فشل في «مهمته التاريخية» ولم تؤدِ محاولاته لاجتثاث المجتمعات العريقة تاريخيا، التي سبقت نشوء العلاقات الرأسمالية، أو ما يسمى بنهضة أوروبا، إلا إلى مزيد من الانهيار الذي عبّر عن نفسه بمزيد من الانقسام والتفكك في هذه المجتمعات القديمة.

وبدلا من «الوحدة» قامت «الثنائية». فنشأ إلى جوار «المجتمع القديم» المتأصل في جذوره الدينية والتاريخية والثقافية وسلوكه الاجتماعي (علاقات، عادات وتقاليد) ما عرف بـ «المجتمع الحديث» المرتبط بالنموذج الأوروبي.

في إطار هذا الانقسام يمكن تفسير الكثير من تعقيدات الصراع القائم في منطقتنا الإسلامية - العربية، كما نستطيع من خلاله فهم وتركيب هذا الصراع وتراتبه (جواني وبراني. شرق وغرب. أسلام ومسيحية. سيطرة وتمرد. تبعية واستقلال. تحديث وتقليد. غني وفقير. استعمار وثورات. أحزاب وعصبيات). أمام هذه الثنائيات المتداولة لابدّ من عقلية تسووية تلبي حاجات الأمر التاريخي الذي يتمثل في إعادة إنتاج نموذج خاص يعتمد معادلة العقد السياسي (التساكن والمصالحة) بين الدولة والمجتمع

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2114 - الخميس 19 يونيو 2008م الموافق 14 جمادى الآخرة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً