العدد 2126 - الثلثاء 01 يوليو 2008م الموافق 26 جمادى الآخرة 1429هـ

موازنة الحرب الأميركية... سياسة أم اقتصاد؟

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

وقّع الرئيس الأميركي جورج بوش أمس الأول موازنة تغطية الحرب على أفغانستان والعراق للعام الذي ينتهي في الصيف المقبل. المبلغ الذي تم رصده من الكونغرس بموافقة الحزبين الديمقراطي والجمهوري وصل رقمه إلى 162 مليار دولار ويعتبر الأعلى في تاريخ موازنات الحروب منذ العام 1945. وتأخرت الموازنة التي تقررت في النهاية بعد مناقشات ومشادات اشترطت على الإدارة أن تضع مُسَوَّدة عمل غير ملزمة تجدول خطة انسحاب للقوات الأميركية. وبسبب رفض الإدارة الموافقة على الشرط المسبق تعرضت الموازنة لسجالات أدت إلى خفضها جزئيا مقابل وعد من واشنطن بتخفيف عدد القوات في بلاد الرافدين إلى 140 ألفا في شهر يوليو/ تموز الجاري.

الموازنة جاءت معدلة نسبيا ومن دون شروط سياسية وهي تضاف إلى نفقات هائلة وظفتها الإدارة لتغطية حربين وصلت مصروفاتهما منذ العام 2003 إلى مجموع يقدر بـ858 مليار دولار ويرجح أن ترتفع إلى تريليون (ألف مليار) في نهاية العام 2009. وهذا المبلغ الهائل يطرح أسئلة عن الجدوى الاقتصادية من حروب تثقل الخزينة الأميركية بالضرائب والديون مقابل خسائر بشرية ومادية وتكاليف غير منظورة يقدر الخبراء أنها قد تصل إلى ثلاثة تريليونات في السنوات الثلاث المقبلة.

الجدوى الاقتصادية مسألة مهمة في سياسات الدول الكبرى. والمجازفة في الإنفاق من دون تعويض للخسائر تؤدي إلى تكبيد الموازنة القومية العجز الاكتواري؛ مما يشكل لاحقا سلسلة تراجعات في النمو ثم الفشل في ضبط التوازن بين الصادرات والواردات. وفي حال استمر الفشل في عدم القدرة على ضبط التوازن بين الداخل والخارج فسيؤدي الأمر إلى خلخل بنيوي في الهرم الاقتصادي؛ مما يدفع الدولة إلى الانهيار والتفكك أو على الأقل تراجع موقعها في القيادة الدولية.

الجدوى الاقتصادية من الحروب شكلت نقطة مركزية في كتاب بول كيندي عن صعود الأمم وهبوطها حين أشار إليها خلال معالجته تاريخ الأمم وانهيار الدول الكبرى أو تراجع موقعها في القيادة الدولية. والخلاصة التي توصل إليها كيندي في مقارناته التاريخية يمكن تطبيق نموذجها على الواقع الأميركي في عهد بوش. فالمفكر الأميركي حذر من أن الانهيار يبدأ حين تعجز الدولة عن تحقيق التوازن بين نفقاتها العسكرية (الدفاعية) وقدراتها الاقتصادية. وعدم التوازن يؤدي إلى انتفاخ العضلات (القوة) وضمور الموازنة (المال)؛ مما يرتب على الدولة اتباع سياسة هجومية لتلبية النقص في الحاجات الداخلية أو تقليص الإنفاق على القطاعات المدنية (الصحة، التربية، الكهرباء، ضمانات الشيخوخة وغيرها) لمصلحة تلبية حاجات القطاعات العسكرية التي تتطلب دائما الدعم المالي حتى تواصل تطوير التقنيات الحربية في سياق التنافس مع الدول الكبرى الأخرى.

هذا التوصيف الذي توصل إليه كيندي في دراساته التاريخية عن تجارب الدول الكبرى يقارب إلى حد معين الوضعية السياسية التي توصلت إليها الولايات المتحدة في عهد بوش. فأميركا الآن في منطقة خطرة؛ لكونها تقف وسط طريق يفصل بين توقف عجلات النمو أو الانهيار. وهذا الأمر يفتح الباب أمام احتمالات صعبة ستضغط على الإدارة المقبلة لحسم خياراتها بين الانكفاء على الداخل واتباع سياسة العزلة الدولية لترميم الهرم الاقتصادي ومنعه من الانزلاق نحو التفكك والانهيار أو مواصلة سياسة الهجوم (تقويض الدول) بهدف تأمين أسواق خارجية (معادن وثروات) تلبي حاجات القطاع العسكري الذي لا ينمو أو يتطور تقنيا من دون حروب دائمة.

الجدوى الاقتصادية

الجدوى الاقتصادية مسألة سياسية مهمة داخليا وخارجيا لتأمين التوازن بين الصادرات والواردات. وتبرير الحاجة إلى الحروب يتطلب دائما إقناع الجمهور الأميركي (دافع الضرائب) بضرورة مواصلة هذا النهج لكونه يغذي الاقتصاد بعناصر القوة ويوفر للناس تلك الرغبة في الرفاهية الاجتماعية واتساع النزعة الاستهلاكية.

السؤال: ما الجدوى الاقتصادية التي حصدتها إدارة بوش من إنفاق نحو ألف مليار دولار على حروبها الخارجية؟ الأجوبة متعارضة حتى الآن وهي تتخالف في تقويم المحصلة النهائية بين تيار اقتصادي يقرأ الإنفاق بالأرقام وتيار سياسي ينظر إلى الأرقام في سياق التوظيف والاستثمار البعيد المدى الذي لا يظهر على الشاشة المرئية.

التيار الأول (السلبي) يرى أن الولايات المتحدة مقبلة على انهيار اقتصادي يقارب ذاك التوصيف التاريخي الذي توصل إليه كيندي في كتابه. وينظر التيار إلى أن انهيار قيمة الدولار ودخول اليورو منطقة التنافس في التجارة الدولية إشارة إلى تراجع مكانة أميركا الاقتصادية. ويقرأ التيار السلبي ارتفاع أسعار المواد الأولية وسلة الغذاء والطاقة (النفط والغاز) من منظار بدء التفكك والانهيار الذي سيضغط على المستهلك الأميركي ويدفعه إلى التراجع عن موقعه الراهن باتجاه الفقر والبطالة وخسارة الكثير من الضمانات والأمن والرفاهية الاجتماعية.

التيار الثاني (الإيجابي) يرى أن الولايات المتحدة خاضت تلك «الحروب العادلة» دفاعا عن الأمن القومي لحماية الدورة الاقتصادية من التنافس والعزلة الدولية والانهيار الطويل الأمد. فهذا التيار لا يعطي أهمية قصوى للأرقام بقدر ما ينتبه إلى القطاعات التي استثمرت فيه تلك المليارات من الدولارات خلال السنوات السبع الماضية. فهذه الموازنات الهائلة تم توظيفها في الصناعات العسكرية الأميركية لتطوير تقنياتها وقدراتها التدميرية وهي أنفقت في الداخل الأميركي لتأمين احتياجات أمنية وتلبية قطاعات تشكل نقطة حيوية في توازن الهرم الاقتصادي. فالأموال الأميركية ذهبت إلى الخارج واستعيدت إلى الداخل سواء على مستوى الرواتب والمعاشات وتوفير فرص عمل وتشغيل طاقات جامعية أكاديمية وبحثية أو على مستوى توسيع قطاعات إنتاج تتصل مباشرة بالأمن وتعزز آليات القوة للمحافظة على موقع القيادة للولايات المتحدة.

هذا الاختلاف في القراءة بين تيار يقرأ الخسائر بالأرقام المرئية وتيار يقرأ الفوائد من خلال رصد نمو حركة السوق غير المباشرة والتوظيفات الاستثمارية البعيدة المدى يفسّر الأسباب التي تدفع الحزب الديمقراطي المعارض نظريا لسياسة الحروب إلى الموافقة العملية على مشروع موازنة عسكرية تغطي نفقات العدوان على أفغانستان والعراق إلى صيف العام 2009. فالأموال هذه لن تنفق على إعادة إعمار كابول وبغداد وإنما لتغطية احتياجات القطاع العسكري داخل الولايات المتحدة.

في كل الحالات تعتبر الموازنة التي وقعها بوش أمس الأول الأخيرة في عهده وهي في مجموعها تغطي ما تبقى من فترة ولايته إضافة إلى ستة أشهر من ولاية خلفه الجمهوري أو الديمقراطي. بعد هذه الفترة المتأرجحة بين تفسير يحذر من الانزلاق نحو العزلة أو الانهيار وتفسير لا يرى في الإنفاق العسكري سوى فائدة لتوازن الاقتصاد الأميركي ستظهر على الشاشة الدولية في عهد الرئيس القادم معالم صورة يرجح أن تتشكل في تضاعيفها إجابات توضح المسار الذي دخلته الولايات المتحدة بعد مغادرة بوش البيت الأبيض.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2126 - الثلثاء 01 يوليو 2008م الموافق 26 جمادى الآخرة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً