العدد 2024 - الجمعة 21 مارس 2008م الموافق 13 ربيع الاول 1429هـ

الدول العربية بين دمشق وبغداد

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

نداءان صدرا في الأسبوع الماضي عن مواقع مسئولة في الإدارة الأميركية. الأوّل أطلقه المتحدّث الرسمي باسم البيت الأبيض طالب فيه الدول العربية بعدم حضور القمّة العربية في دمشق. والثاني أطلقه نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني من بغداد طالب فيه الدول العربية الحضور إلى العراق والاعتراف بحكومة نوري المالكي بذريعة المساهمة في وقف «النفوذ الإيراني».

النداءان يظهران على الشاشة السياسية في موقعين متعارضين فالأوّل يطلب من الدول العربية أتباع أسلوب التنابذ وعدم التفاهم على حد أدنى من المهمات الملحة آنيا. والثاني يطلب من الدول العربية أتباع أسلوب التوافق على دعم حكومة عراقية من صنيعة الاحتلال لتشكيل جبهة متراصة في مواجهة نفوذ طهران وطموحاتها.

التعارض موجود بين الطلبين ولكن القراءة الثانية تعطي صورة أخرى أكثر تجانسا. فالموقف من قمّة دمشق لا يعني أنّ واشنطن هي أساسا مع الإجماع العربي وتؤيّد مؤسسة جامعة الدول العربية وتدعم تقليد انعقاد القمّة السنوية ولكنها تعترض فقط على مكان الاجتماع وهويته السياسية. الموقف الأميركي هو أصلا ضد فكرة القمّة العربية وما يصدر عنها من بيانات وخطابات ومقررات بغض النظر عن المكان الذي تعقد فيه.

هذا الموقف السلبي من الفكرة العربية ظهر بوضوح منذ حرب الخليج الثانية (1990 - 1991) حين اعتبرت مؤسسات البحث ومعاهد الدراسات الأميركية أنّ الحرب أنهت مشروع الوحدة وأدّت نتائجها إلى تقويض فكرة لم تجد طريقها نحو التطبيق. ومنذ تسعينات القرن الماضي راهنت تلك المعاهد والمؤسسات على نظرية التفكيك لا التوحيد وأخذت تشجّع كل مظاهر الانقسام في المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج.

اعتمدت تلك البحوث والدراسات على مجموعة منطلقات لإنهاء الفكرة العربية ميدانيا وواقعيا متخذة من الوقائع اليومية خطة عمل مبرمجة تدفع نحو تسخيف المشروع والسخرية منه، والاستهزاء من مثالياته وتخلفه وعدم مجاراته العصر الحديث وشروط «العولمة» في معناها الأميركي.

الاعتراض إذا ليس على دمشق فقط وإنما على الموضوع من أساسه. فالإدارة الأميركية لا تريد للدول العربية أنْ تجتمع حتى شكليا في اعتبار أنّ مجرد اللقاء وأخذ الصور التذكارية يغذي فكرة الوحدة أو يعطي لذاك المشروع المثالي بعض الحيوية المفقودة التي يحتاج إليها للتذكير بوجود حلم يستحق التضحية. حتى الإحساس بالأمل لا تريده الولايات المتحدة لأنّ تكرار اللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات يساهم في بعث الصورة وترسيمها وتجديدها وإعطاء زواياها تلك الألوان الزاهية التي قد تمنع غيابها القسري أو السريع عن الشاشة الإقليمية.

الطلب الأميركي لعدم التوجّه إلى دمشق يصب أصلا في خطة مشروع التفكيك الذي اعتمدته واشنطن في التعامل مع الدول العربية منذ تسعينات القرن الماضي. فالإدارات دائما كانت تعترض على حضور عربي مشترك في أيّ لقاء دولي. حتى تلك المفاوضات التي جرت في مدريد بعد حرب الخليج الثانية اعترضت واشنطن على فكرة الوفد العربي الواحد وأصرت على أنْ تمثل الدول العربية المشاركة نفسها بوفود مستقلة تبحث فقط في قضاياها الخاصة من دون إشارة إلى القضية المركزية والمشتركة (فلسطين).

ضد القمّة العربية

التحفظ الأميركي على القمّة العربية في دمشق ليس جديدا. فالإدارات منذ فترة طويلة أبدت المواقف السلبية نفسها من مختلف القمم سواء عقدت في بيروت أو شرم الشيخ أو القاهرة أو تونس أو الجزائر أو الدار البيضاء أو الخرطوم أو الرياض. فالسياسة الأميركية من موضوع القمّة العربية لم تتغير؛ لأنها تنطلق أساسا من مبدأ عدم تقبّل فكرة المؤسسات الإقليمية (التكتلات) التي تبحث أفقيا أو عموديا في مشروعات خاصة أو مستقلة عن المظلة الأميركية وإشرافها المباشر أو البعيد. واشنطن لا تعترض على لقاءات عربية بحضورها وتحت سقفها الدولي (مؤتمر أنابوليس مثلا)، ولكنها تفضل أنْ تكون تلك اللقاءات ثنائية حتى تلعب دور الطرف الوسيط الذي ينقل وجهات النظر بين عربي وعربي.

هذا الأمر يفسّر الأسباب التي دعت تشيني إلى الطلب من الدول العربية الحضور إلى بغداد والاعتراف بحكومة الاحتلال ودعمها دبلوماسيا وسياسيا واقتصاديا في وقت كانت إدارته تدعو الدول العربية بالامتناع عن حضور قمّة دمشق.

التعارض في الدعوتين غير موجود إلاّ في ظاهر الصورة ولكنه يعكس في باطنها ذاك التوجّه الاستراتيجي الذي اعتمدته واشنطن منذ تسعينات القرن الماضي. والتوجّه يقوم على فكرة بسيطة وهي منع الدول العربية من الاجتماع حتى على الحد الأدنى مقابل استخدام العلاقات العربية وتوظيفها ثنائيا في سياسات لا تتلاقى في النهاية على أهداف مشتركة. وفكرة المسموح والممنوع التي تعتمد على ثنائية الربط والفك يمكن ملاحظتها من خلال تلك الجولات الموسمية التي تقوم بها الإدارة في المنطقة العربية في وقت تعطل وجود مظلة واحدة تجمع الدول على مواقف مشتركة. مسموح مثلا بعقد لقاءات أميركية منفردة مع كل دول عربية على حدة وممنوع أن تلتقي الدول العربية مجتمعة للبحث في تلك الرسائل والنقاط والهموم المشتركة التي تتداولها الوفود الأميركية في جولاتها وصولاتها من المحيط إلى الخليج.

المشهد متعارض في شاشته الواسعة ولكنه ليس كذلك إذا أخذ الموقف الأميركي من وجهة نظر إدارة تخطط للتفكيك وتنفذ مشروع التقويض انطلاقا من بلاد الرافدين. ودعوة تشينى الدول العربية للحضور إلى بغداد بغرض تقوية حكومة الاحتلال لمواجهة النفوذ الإيراني تبدو مضحكة ولكنها ليست كذلك إذا تمت قراءة المسألة من الجانب الأميركي. فإدارة جورج بوش تصنف إيران وسورية في «معسكر التطرّف» ولكنها تتعامل مع هذا المعسكر في موضوع العراق لكون طهران ودمشق تعترفان بحكومة المالكي. والإدارة نفسها تصنّف ما تبقى من دول عربية في «معسكر الاعتدال» ولكنها ترفض التعامل معها في موضوع إيجاد حل عادل (تسووي) للمسألة الفلسطينية. هذا التعارض المضحك يكشف فعلا عن انتهازية السياسة الأميركية في «الشرق الأوسط». فواشنطن تتعامل مع من يخدم مشروعها بغض النظر عن طبيعة النظام وتوصيفات «التطرف» و«الاعتدال». فهي تصنف طهران ودمشق في خط التطرف ولكنها تتعاون معهما في احتواء العنف في العراق. وهي تصنف الدول الأخرى في خط الاعتدال وتضغط عليها للذهاب إلى بغداد والاعتراف بحكومة الاحتلال لمواجهة النفوذ الإيراني. وهذا هو الجانب المبكي من المشهد السياسي.

التعارض المذكور يكشف بعض الزوايا الغامضة في مشروع التفكيك الأميركي للمنطقة العربية. ومثل هذا المشروع يتطلب التوضيح والرد عليه عربيا. والرد العربي يقتضي الآتي: الحضور إلى دمشق وعدم الذهاب إلى بغداد.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2024 - الجمعة 21 مارس 2008م الموافق 13 ربيع الاول 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً