العدد 2024 - الجمعة 21 مارس 2008م الموافق 13 ربيع الاول 1429هـ

من يضعف مكانة المعلم ويسقط هيبته أمام طلابه؟

في أحد المجالس تحدث عدد من أولياء الأمور عن مكانة المعلم أيام زمان، فقالوا لم يكن معلم الأمس يعاني من أزمات أخلاقية مع طلابه ولا مشكلات مع أولياء الأمور، لأنه هو السيد الذي لا يشق له غبار ولا يعصى له أمر، فكل طلباته أوامر كما يقولون، ولا أحد يستطيع أن يتفوه عليه بكلمة واحدة... ولا أبالغ إذا قلت إن الطالب لا يجرؤ أن يقول في وجه معلمه «أف»، إذ كان يعتبر في أوساط المجتمع الأب الثاني الذي لا يعترض على أقواله وأفعاله أحد، ومن المستحيل أن يجلس الطالب في مكان واحد مع معلمه حتى ولو كان ذلك المعلم قريبه، ولهذا كان الطالب يعتبر معلمه صندوقا مغلقا لا يستطيع أن يتعرف على ما بداخله.

كان إذا يدخل إلى الفصل يسكن كل شيء وتحبس كل الأنفاس وتزداد دقات القلوب وترتعش الأبدان، فكان الوحيد الذي له حق الكلام كيفما يشاء ومتى يريد، وكانت له الصلاحية الكاملة في اختيار الأسلوب الذي يتعامل به مع طلابه، بإمكانه ممارسة صلاحياته التي أعطيت له من أولياء الأمور ومن المجتمع حتى خارج المدرسة، ولهذا كان الطالب حذرا في تصرفاته وسلوكياته وتعامله مع أسرته حتى يبعد نفسه عن محاسبة وعقوبة معلمه في المدرسة.

أتذكر في يوم من الأيام صادف مرور معلم مادة الرياضيات على بيت أحد الطلاب، وإذا به يسمع صراخ طفل بصوت مرتفع، ظن أن صاحب الصوت هو الطالب الذي يدرسه. في اليوم الثاني وقبل بدء الدرس نادى الطالب المشتبه فيه وقام بالتحقيق معه بأسلوب قاس، ومن شدته ارتعدت فرائص جميع الطلاب، وكان يهدده بعقوبة قاسية إن هو كذب عليه، لم يصمد الطالب وقتا طويلا حتى انهارت أعصابه واعترف بأنه هو صاحب ذلك الصوت المرتفع، فحكم عليه بعقوبة بدنية ومعنوية قاسية جدا، إذ بدأ بتنفيذ العقوبة من الحصة الأولى وما انتهت إلا في نهاية الحصة السادسة وحرم من الأكل أثناء الفسحة، كان ينقله معه من فصل إلى آخر، وفي كل فصل يقرعه أمام أقرانه الطلاب ويبدأ بعد ذلك بجلده.

عندما تسأل المعلم آنذاك، لماذا تعاقب الطلاب بهذه القسوة؟ يرد عليك مباشرة ومن دون تردد «حتى يكون عبرة لمن يعتبر»، لماذا يمارس معلم ذلك الزمان مثل تلك الأساليب العنيفة؟ لم يمارس المعلم هذا الأسلوب القاسي إلا بقبول ليس له حدود من المجتمع في كل الخطوات التي يتخذها مادامت في نهاية المطاف تصب في مصلحة الطالب كما يعتقدون، حتى ولو أدت تلك الأساليب إلى تحطيم الطالب معنويا ونفسيا، فمعلم الأمس لا يتعرض لمساءلة عن أسلوبه العنيف والمفرط لا من وزارة المعارف آنذاك ولا من أولياء الأمور ولا من المجتمع، فكل الأطراف تقف خلفه وتؤازره بكل قوة على أبناء ذلك الزمان، فلهذا لم يجرؤ أحد من الطلاب على أن يشتكي على معلمه عند والده، وإن حصل ذلك من أحد الطلاب قامت قيامته في ذلك اليوم، لأن الأب يعتبر ذلك الفعل من ابنه منافيا للخلق السوي، وعنده كل ما يفعله المعلم حسن وكل رد فعل من ابنه قبيح، فلهذا كان يذهب ولي الأمر إلى المعلم ممسكا بيد ابنه وهو يردد عبارة للمعلم «أعطيك لحما أريدك أن ترده علي عظما»!... هذه الرؤية غير الواقعية أكسبت المعلم هالة واسعة وقد تكون مبالغا فيها، ما جعل البعض يبطر ويبالغ في قسوته.

طالب الأمس كان يتعلم بالترهيب، وليس في قاموس معلم الأمس ما يسمى بأسلوب الترغيب (التحفيز)، كان معلم الأمس يصعب عليه أن يبتسم أمام الطلاب، كان يلزم نفسه بأن يكون عابسا في كل الحالات والظروف، فإذا نسي في يوم من الأيام وابتسم يكون يوم عيد عند الطلاب ويكون حديث الساعة طوال اليوم. نحن نتكلم عن الصورة العامة للمعلم، وأما المعلم الذي يتعالم بإنسانية ولطف مع طلابه يكون شاذا وينعت بالضعيف! في أحد الأيام دخل معلم على طلاب الصف الخامس الابتدائي ممسكا بيده عصاة مكنسة يزيد طولها على المتر، ومن دون مقدمات خاطب الطلاب قائلا: «أنا نقلت إلى مدرستكم لأنني فقعت عين أحد الطلاب في المدرسة التي نقلت منها، وعندي الاستعداد التام بأن أفقع عين أحدكم إذا رأيته يقل أدبه»! وأنهى كلامه بعبارة «لقد أعذر من أنذر»، وأما معلم اليوم فقد خسر كل تلك الامتيازات إن صح التعبير، لا الطالب اليوم يسمع كلامه ولا الأب الذي عايش معلم الأمس يتعاون معه، ولا الأسرة تقدره، ولا القوانين تقف معه في حال التجرؤ عليه، فأصبح معلم اليوم يتعامل مع طلابه بالترغيب المفرط ويبتعد عن الترهيب بمختلف أنواعه المعنوية والبدنية خشية من ردود الفعل العنيفة التي تدخله في متاهات ليس لها آخر مع أولياء الأمور ووزارة التربية والتعليم، وقد تعرضه لمواقف محرجة وتجره إلى مواقف لا يحمد عقباها هو غني عنها.

معلم اليوم يدخل الفصل وهو ممسك بأعصابه حتى لا تلفت منه ولا يدري عن مصيره بسبب التسيب المفرط عند أكثر طلاب هذا الزمان، وهناك من أولياء الأمور من يقف له بالمرصاد، ففي اليوم الذي يسمع الأب فيه من ابنه رواية عن معلم ما حتى ولو كانت مختلقة وغير حقيقية تراه في اليوم الثاني يذهب إلى المدرسة قبل الدوام المدرسي لافتراس ذلك المعلم بلسانه قبل دخوله إلى المدرسة، وإذا ما تطورت الأمور يستخدم يده أمام ابنه!... إن حصل هذا الموقف من المؤكد سيسهم في إضعاف هيبة المعلم أمام طلابه عمليا، وفي ذلك اليوم لن يكون له قرار في أي فصل يدخله.

ومن العوامل المؤثرة في هذا الجانب أن تعامل الوزارة ليس فيه دلالة واضحة على تقديرها للمعلم سواء كان ذلك بصورة مباشرة وغير مباشرة، قد تقصد الإساءة للمعلم، ولكن لا يختلف أحد أن لها تأثيرات سلبية على مكانة المعلم، على سبيل المثال لا الحصر، في اليوم الذي يقوم أحد الموجهين أو أحد المسئولين بزيارة لمعلم في الفصل، كيف يتعامل مع المعلم أمام طلابه؟ هل يحاول تعزيز مكانة المعلم أم أنه من خلال تعامله معه يسقطه معنويا؟ ويتعامل معه بأسلوب يوحي بأن الزائر سيد والمعلم عبد، هكذا ينظر الطالب لمثل تلك الزيارات التي من المفترض أن تترك أثرا إيجابيا في نفسية المعلم والطالب معا، فقلما نسمع أحد المعلمين يتحدث عن زيارة موجه أو مسئول له في الفصل بإيجابية، لماذا؟ لأن الموجه عندما يزور المعلم لا يحاول إظهار أدنى احترام أو تقدير للمعلم حتى بنسبة 10 في المئة، وكأنه جاء لتصيد الأخطاء ليس إلا، ما يساعد على إضعاف مكانة المعلم بين طلابه. لم نسمع أن موجها امتدح معلما أمام طلابه إلا نادرا، وجوده في الفصل يشعر الطلاب بأنه جاء لكشف أخطاء المعلم في التدريس وفي معاملته ليس إلا، فلهذا ما إن يخرج الموجه من الفصل حتى يمطر الطلاب المعلم بالأسئلة المحرجة، ولو حاول تلميع الزيارة لم يفلح لأن ما يرونه خلاف ما يقوله المعلم، وهذا ما يضعف مكانة المعلم في زوايا مختلفة، فتغير الأساليب المتبعة في الزيارات للمعلمين مسألة تربوية ملحة.

بطبيعة الحال ما نقوله سيفيد العملية التربوية والتعليمية في مفاصلها المختلفة. ولا ننكر أن المعلم له الدور البارز في إضعاف أو تقوية مكانته. في إحدى المرات سألت إحدى التلميذات من الصف الثاني الابتدائي عن رأيها في معلمتها، ردت ببراءة «كانت زينه»، لفتت إجابتها انتباهي، قلت: والآن؟ قالت «مو زينة»، سألتها عن السبب الذي جعلها تغير رأيها بنسبة 100 في المئة عن معلمتها، قالت إنها وعدت التلميذات أكثر من عشر مرات برحلة ولم تصدق في وعدها لا هي ولا إدارة المدرسة، وعندما نذكرها بوعودها ترد علينا بكل بساطة «انسوا هذا الكلام»، الآن كل البنات ينظرن إلى المعلمة على أنها غير صادقة في كلامها وأقوالها، وبعضهن كره المدرسة بسبب نقض المعلمة والإدارة لعهودهما. انتقلت إلى فئة الأولاد وسألت أحد طلاب المرحلة الإعدادية عن نظرته للمعلم عموما، أجاب ومن غير تحفظ، «فيهم زينين وفيهم مو زينين»، سألته كيف تعرف أن هذا المعلم «زين» والآخر خلاف ذلك؟ قال المعلم «الزين» يعرف بإخلاصه وتفانيه في التدريس وصدق كلامه وحسن ألفاظه وتطابق أقوله مع أفعاله، والمعلم الذي لا يكترث بعمله ويحاول التلاعب بوقت الحصة وألفاظه بذيئة ويدخن أمام الطلاب نحكم عليه أنه ليس معلما فاضلا.

من خلال متابعاتنا لهذا الموضوع تبين لنا أن إضعاف مكانة المعلم في أوساط طلابه يؤدي إلى تدني مستوى تحصيل الطلاب، واتضح لنا أن من يساهم في إضعاف مكانة المعلم بعض المعلمين الذين لا ينظرون إلى مهنة التعليم بشمولية، والبعض من وزارة التربية والتعليم الذين يعتقدون أنهم يحسنون صنعا عندما يتعاملون مع المعلم بجفاء، وبعض أولياء الأمور الذين لا يتورعون عندما يتكلمون بسلبية عن المعلم أمام أولادهم، والتربية تتحمل الجزء الأكبر في هذا الأمر لأن بيدها أن توجد قاعدة متينة أساسها تقدير المعلم بالقول والفعل، ولو أرجعت مكانة المعلم وهيبته المبنية على أسس تربوية راقية من المؤكد أن ذلك سيؤثر إيجابيا على مستوى التحصيل عموما، لأن إذا حرص المعلم على أن يعطي كل ما عنده في المجالين التربوي والتعليمي، ولو وضع الموجه التربوي في أجندته عند زيارته للمعلم في الفصل دعم المعلم معنويا أمام طلابه، ولو أولياء الأمور تفهموا أهمية تقدير المعلم أمام أولادهم وانعكاساته الإيجابية على مستوياتهم التحصيلية، لأصبح حال التعليم والمعلم أفضل بكثير مما هو عليه الآن.

سلمان سالم

العدد 2024 - الجمعة 21 مارس 2008م الموافق 13 ربيع الاول 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً