العدد 259 - الخميس 22 مايو 2003م الموافق 20 ربيع الاول 1424هـ

خيار الوحدة في المشهد الوطني ... لِمَ يبدو خيارنا مفترقا؟

سلمان عبدالحسين comments [at] alwasatnews.com

كاتب

يبدو أن المشهد الوطني بحاجة إلى الكثير من الحفر والتنقيب في مدلولاته في سبيل الوصول إلى أرضية تلاق تجنب هذا البلد الاهتزازات البينية في العلاقات والمصالح المشتركة، وضمن هذا السياق يأتي شعار الوحدة الوطنية والإسلامية الذي تلهج به وتخطب وده أغلب النخب من علماء ومثقفين في هذا البلد، عدا من شذ منهم، ممن في نفسه مرض أو غير ذلك، إلا أن الأحاديث تبقى أحاديث النخب، ويبقى شعار الوحدة شعارا مغريا ضمن مكوناته النظريه، أما تطبيقاته العملية، فتحتاج إلى المزيد من التواضع أولا، والبراءة من المواقع الوهمية ثانيا، والنظر إلى مكونات الوحدة الحقيقية ثالثا.

بداية، يجب التأكيد على ضرورة معالجة هذا الشعار في إطاره المحلي، قبل أن ننطلق إلى الحديث عن آفاق الوحدة في دائرتها الإسلامية الكبيرة، لأن «من قدر على نفسه فهو على غيرها أقدر»، والحديث عن الإطار العام من دون الخاص لا يخدم أساس الوحدة كمنطلق لآفاق أخرى، وإنما يميعها، ويختزل رغبة أنانية في الاحتفاظ بالمواقع، وإبقاء الحال كما هو عليه، ويعطي إحساسا مكثفا بالهروب المتقن من أي مواجهة أو مجالدة مع الذات، ما يجعل هذا الأفق أشبه بالمجاملة المبيتة في الداخل في أي حالات التقاء غير متوقعة.

هنا في البحرين، نعاني كثيرا من التقارب المزمن، التقارب غير المجدي في مدلولاته وواقعه العملي، نعاني كثيرا من الشعارات والمزيدات والود المتكلس في بقايا الأحاديث، والغزل الذي لا يهيج مشاعر أحد، والرؤى المطاطة التي لا تقرب ولا تبعد، فنحن بين بين، جيرانٌ ولا جيران، أهلٌ ولا أهل، مصيرٌ ولا مصير، مشهد غريب يراوح مكانه منذ عقود ... من المسئول عنه؟ هل الناس؟ الناس الذين لا يودون التقارب؟ لا يودون الوحدة؟ أم أن هناك مشهدا آخر، وخط سير يسير فيه البعض، ويجمع كل مخزونه التاريخي والرمزي في دائرته ليعكف على الاتجاه الواحد الذي لا يعدله أي اتجاه، بل لا ينبغي أن يقطع عليه المسير فيه أي اتجاه، إذ لا مجال للمراجعة ولا للتوقف، فكلاهما رهان خاسر بكل المقاييس!

وبالنظر إلى المشهد الوطني ورجالاته، لا نجد رغبة جدية عند كثير من الرموز لتجاوز الشعار، إذ لا توجد محطة تاريخية تدلل على تجاوز المألوف في التعاطي مع هذا الملف، عدا زيارتين يتيمتين للشيخ عبدالأمير الجمري والشيخ عيسى بن محمد آل خليفة، لم تتجاوزا في أبعادهما الحالة الرمزية وأدواتها المعروفة في تحريك الخيارات، وهذا يدلنا على حجم الإهمال والتكلس وراء المواقع والموروثات التاريخية والمكاسب الرمزية والقيادية لكل طرف، وهو ما ينبغي تجاوزه إذا ما أريد لهذا الملف أن يتحرك في غير دائرة رموزه، ونتمنى أن نشهد ذلك اليوم الذي يكون فيه الرمز من أحدى الطائفتين الكريمتين رمزا لكل أبناء الوطن، فالمشهد السعودي شاخص بكل جلاء، والحيف الذي أصاب طائفة بعينها حرك الكثير من الرواكد، وبدأت دعوات التكفير والخيانة وعدم الوطنية تتراجع، بل ربما أصبحت دعوات منبوذة في ظل المعطيات الجديدة للأوضاع في المنطقة، وارتفع صوت العقل، وعاد لسان الإنصاف إلى سجيته وعفويته في رفض هذه الكلمات ورفض أصحابها، لأنهم تحسسوا الخطر القادم إليهم، وأدركوا أن بقاء الوطن وحدات ومواقع مجزأة لا يخدم وحدة ومصير الوطن.

ونحن هنا في البحرين لم نبلغ المستوى الذي وصل إليه السعوديون في تعاطيهم مع بعضهم البعض، فقد وصل الأمر بهم هناك إلى مستوى الافتراق والطلاق السياسي، أما نحن فالود الظاهر لازال موجودا، ويمكن أن يعزز هذا الود إذا ما خلصت النوايا، كما أن الأدوات السياسية هناك تعدت المألوف إلى درجة القتل والتفجيرات وقى الله أرض الحرمين شرها، أما هنا فخيار السلم الأهلي هو خيار الجميع على رغم كل حالات الاحتقان، وعلى رغم التباينات السياسية الحادة، فنحن جيران وأقارب وعائلات مندمجة مع بعضها البعض، وعلينا أن نؤدي حق الجيرة، ولتعتلي أصوات العقلاء من الطرفين بأن هذا المشهد الراكد المزمن في غيبوبته حرام أن يستمر، حرام هذه المجاملات وهذا الود في ظل استفراد الواقع الرمزي بأريحية فئوية لا تتعدى دائرة الطائفة أو الجماعة، حرام هذه المواقع العديدة في قلب الوطن الواحد، حرام ... حرام ... حرام.

من جانب آخر، نستحضر مقولة يطلقها الكثيرون للتدليل وعي الناس لحقيقة مصالحهم «الناس لا تتآمر على نفسها، ولا تتآمر على مصالحها»، هذه المقولة توقفنا عند نقطة فارقة في فهم حقيقة المصالح الخاصة والعامة، وحركة القوى والتيارات في قلبها أو تثبيت الناس عليها، ويأتي السؤال: لم أصبح مصير الطائفتين الكريمتين مفترقا في أغلب حالاته؟ لم التقدير السياسي للمصالح والمفاسد يأخذ هذا البون الشاسع بينهما؟ كيف نفهم هذه المقولة في ظل تضارب المصالح، وتضارب التقديرات السياسية المختلفة لها على مستوى القضايا الوطنية والمصيرية؟ هل يحدث ذلك في الدائرة العامة أم الدائرة الخاصة؟ أم أن المصالح مجزأة في هذا الوطن؟ كيف يفهم كل طرف المعايير القيمية التي تحكم حركة البشر وتعاملاتهم على مستوى المصالح الكبرى؟ كيف نفهم قيم الإسلام في دعوته إلى العدل والإنصاف وعدم ظلم الآخرين؟ هل هذه القيم مجزأة أيضا في فهمها وتطبيقها؟ أم أنها تجزأت بفعل فاعل وحركة قوى وإسقاط مصالح خاصة عليها؟ سؤال قد لا يحير ذهن العامة بعفويتهم وطيبتهم المعروفة في الإجابة عليه، فمنطق رفضهم وقبولهم العفوي غير الموجه هو الإجابة، لكن السؤال بكل مضمراته وبواطنه وتعقيداته موجه إلى النخب لتجيب عليه بكل صدق في هذه المرحلة الحرجة.

نعم، الناس لا تتآمر على مصالحها، ولن تتآمر على مصالحها في يوم من الأيام، ولن تكون المصالح الضيقة بابا من أبواب استغفال الناس وحجب الحقيقة عنهم، في ظل وجود الحراك السياسي الظاهر والمعلن للقوى السياسية على الأرض، لأن حركة القوى الظاهرة ستعيد التقدير الدقيق للمصالح والمفاسد عند الناس، ما يجعل جميع القوى السياسية والدينية والمجتمعية مرهونة لحكم الناس عليها، لا حكمها وتسييرها إلى الناس، وحتما سترتفع مراكز الثقل والنفوذ، وتتساوى الأرقام الصعبة والهشة في لعبة الحراك السياسي المعلن، فإما تبقى وإما تسقط.

أبسط مثال حي وشاخص بكل جلاء، ما يجري هذه الأيام في «محرق النضالات» من تصاعد للرقابة الشعبية على المجالس البلدية والنيابية، بصورة اختفت معها كل القوى من معادلة تقدير المصالح والمفاسد، وبقيت مصالح الناس هي الحاكمة وحدها على ذلك، فارتفع الشعار وجاء الحساب بامتياز، وتساوت كفة الميزان، فلم يعد هناك طرف قوي وآخر ضعيف، فالطرف الذي خسر استحقاق الانتخابات البلدية أو النيابية في المحرق، أخذ يراقب ويحاسب، أما الناس هناك، فالمشهد عندهم بدا شفافا أكثر من ذي قبل، ما يجعل الخيارات الحالية والمستقبلية للتيارات السياسية، محكومة بعين الناس التي لا تخطئ الحساب، ولا تتآمر على مصالحها، بعد أن خاضت تجربة عملية مع كل طرف رفع شعارا ولم يسع إلى تطبيقه.

هذه دعوة موجهة من المحرق إلى كل البحرين، بأن خيار الناس هو الأقوى مهما غيبت الخيارات، وهي دعوة أيضا إلى جميع القوى السياسية في البحرين أن تنظر إلى خياراتها بعين الناس، لأن حساب الناس لها سيكون عسيرا إذا ما أخطئت تقدير المصالح أو تعمدت ذلك، لأن رهان الحراك السياسي المعلن لا يبقي الأشياء والأسماء ولا المواقع في مكانها، إلا أنه يحتفظ للناس بحق الوجود وحق تقدير المصالح دائما.

يبقى أن نناقش هذه المعادلة في الوجه الآخر للعملة. مع بداية الإصلاحات، أطلق أحد الكتاب في عموده اليومي صيحة مدوية إلى الطائفة الشيعية بأن تستنقذ أختها من الجمود السياسي ليطير طائر الوطن بجناحين لا جناح واحد، وألقى ما ألقاه على طائفته من تهم شتى، وهي في عمقها تستبطن استنهاضا سيئا تحريضيا على الفعل المضاد غير المرجو من المقال، ويمكن القول لهذا الكاتب: أن هذه الطائفة السنية العزيزة والشامخة في قلب الوطن وروحه وعقله، لا تحتاج إلى رهانك ولا إلى تحريضك، فما يحدث في المحرق لم يأت بفعل الطائفة الأخرى التي طالما كِلْتَ لها التهم والأباطيل، وإنما جاء بفعل الحراك السياسي المعلن، الذي أسس لحالة سياسية متنامية متقدمة، بعيدة عن الضغوط، وحركة القوى ومركزيتها في مواقع القرار، في حين بقي الوجه الآخر للعملة مهملا رسميا، وللأسف نخبويا وقياديا أيضا، فلا هو قادر على التواصل، ولا هو قادر على الإنكفاء، وهو الكتلة الحرجة الملتهبة المليئة بالمشاعر والأحاسيس والانفعالات، الكتلة التواقة إلى العدل والرحمة والتواصل، ولن نأتي في يوم من الأيام لنقول لك: تعال وأنقذنا من هذا الجمود السياسي، لأننا نؤمن بأن الحراك السياسي المعلن قادر على فعل المعجزات، وأن الاستنهاض يأتي من الذات أولا، ولازالت بواعث الاستنهاض موجودة عند العملة في وجهها الأول والثاني، وإنما الدعوة لأصحاب المواقع أن ينكفئوا قليلا، ليفسحوا المجال للحراك المجتمعي أن يأخذ دوره في صياغة حاضره ومستقبله، ورسم العلائق البينية بين قواه الشعبية والرسمية، وربما تعلم الكبار من الصغار، وربما تعلم القادة من الشعوب، وليس عيبا ما نقول.

يبقى ما تكلس من بقايا الحديث مسالا إلى النخب والعلماء في هذا البلد، دعوة نتمنى ألا تزكم أنوف أحد منهم، وإنما تستنهضه على تحريك جميع المواقع، فلن يضير رمز أو عالم أو مثقف أن يخطب ود الناس جميعا بدل أن يخطب ود فئة بعينها، لن يكون الخاسر إذا ما استطاع أن يسمع صوته لجميع الناس ويدافع عن جميع الناس، ويتحرك بين كافة أبناء هذا الشعب، ويلقى التقدير والاحترام من كل الشعب، لن يكون الخاسر بالتأكيد، وأي حجر على النخب والمواقع بالصورة التي نراها، سيكون موضع استغراب ما دامت فسحة الحركة بين كل هذه المواقع موجودة، أو موضع شبهة - والعياذ بالله - في دائرة التخمينات التي لا تنتهي. ويمكن لنا أن نقدم مجموعة رؤى أولية لتحريك رواكد العلاقات بين النخب، لتتحرك مصالح الناس بعدها، نتيجة حاكمية الطرف الأول على الثاني.

المقترح الأول: يجب على النخب والعلماء والمثقفين أن يصوغوا رؤية وطنية مشتركة، للقيم السياسية المتداولة، بحيث لا نسمع أصواتا نشازا تعزف على أكثر من وتر، إذ يجب ألا تُجزأ قيم العدل والحق والمساواة، وتخضع لحركة المصالح، وتُكثف في الدائرة الفئوية لتقطع حركة التواصل البيني بين عامة الناس، ويمارس عليها نوع من الحجر من خلال سياسية «الإغراق والتضييق»، التي ترجح فئة لتكون الفئة المختارة المكنوزة بالعطايا والمنن، وفئة أخرى المهملة المشحونة بالحرمان والإحباط.

المقترح الثاني: يجب البدء فورا بحوارات مباشرة وعلنية بين مثقفي الطائفتين الكريميتن حول مجمل القضايا السياسية والفكرية، وخلق آليات تواصل من خلال الزيارات الميدانية إلى مختلف مناطق البحرين، في أجواء من الاحتفاء الشعبي بمثل هذه الفعاليات، والتأكيد على محاربة الحرمان لكل المحرومين من الطائفتين، من خلال نزع صفة المظلومية المفردة لجهة بعينها، والبحث عن حرمان مشترك يحتاج إلى حل مشترك، وإرادة واعية وصلبة قادرة على انتزاع الحل للجميع من دون تمييز.

المقترح الثالث: ينبغي على علماء الدين تحديدا، وخطباء المساجد الذين تحتفي بهم شريحة كبيرة من أبناء المجتمع، ويمثلون مراكز ثقل في البلد، ينبغي عليهم حث أبناء الطائفتين الكريمتين على التواصل والتزاور بينهم، كما يجب عليهم شخصيا أن يقوموا بهذا العمل لجلاء مظاهر الوحدة ميدانيا وعلى الأرض، بعيدا عن الشعارات والمزايدات الكثيرة، ويقينا، فإن في زقاق المحرق أو المنامة أو سترة أو الرفاع من لا يملك قوت يومه، وهم بحاجة إلى مواساة الجميع، والنظرة الرحيمة من الجميع.

المقترح الأخير: ينبغي التأكيد على وجود هموم سياسية مشتركة تعكس تقنين المصالح وترشيدها، ووحدة حركتها في الأجواء السياسية، وليس ذلك من باب الاستعداء لأحد، أو التكتل في قبال أحد، ولكن ... يجب أن يكون ملف مثل ملف التجنيس بكل تداعياته الخطيرة على حاضر ومستقبل جميع أبناء البلد، وكذلك ملف التمييز الطائفي بما يحتويه من شجون وغبن وفصول مأساوية، همَّ الطائفة السنية قبل الشيعية، للتدليل على أن القيم السماوية والإنسانية لا تتجزأ في قبال المصالح المنفردة، وهذا ما أكد عليه رئيس جمعية المنبر الإسلامي صلاح علي، إذ أكد على أن التمييز الطائفي في الوظائف مدعاة لشعور الآخر بالغبن والحيف، وطالب بإنهائه وإعلان نفاذ صلاحيته في عهد الإصلاح.

أخيرا، فإن كل المدلولات القيمية إذا ما تجسدت على أرض الواقع بكل تجرد، فذلك كفيل بإظهار الحقائق، وحفظ المصالح، وما يتمتع به شعب البحرين من ألفة وحب لبعضه البعض، ومن صفح وعفو جميل، لا يجعله يستعدي بعضه البعض، لأن السلم الأهلي مقدس عند رموزه وأهله وناسه، ولن يكون شعب البحرين جبارا على نفسه، لن يكون ظالما إلى نفسه، لن يتآمر على أهله وناسه، فأرجعوا حقوقه يفوح لكم عطرا وأريحية وطيبا

إقرأ أيضا لـ "سلمان عبدالحسين"

العدد 259 - الخميس 22 مايو 2003م الموافق 20 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً