العدد 2553 - الثلثاء 01 سبتمبر 2009م الموافق 11 رمضان 1430هـ

مفارقات ديمقراطية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في الأسبوع الماضي جرت أربع دورات انتخابية في بلدان مختلفة وجاءت النتائج مثيرة للجدل. الأولى كانت الانتخابات الرئاسية في أفغانستان. الثانية الانتخابات النيابية في اليابان. الثالثة الانتخابات الرئاسية في الغابون. والرابعة انتخابات فرعية في ثلاث ولايات ألمانية.

جاءت المفارقة في الديمقراطيات الأربع أن القوى المتنافسة تعاطت مع نتائج صناديق الاقتراع بطرق مختلفة. في أفغانستان أعلن الرئيس البشتوني فوزه ورد عليه منافسه على المنصب المترشح الطاجيقي فوزه أيضا بالرئاسة. في اليابان اعترف رئيس الحزب الليبرالي بالخسارة بعد أن حكم حزبه البلاد نحو نصف قرن من دون أن انقطاع إلا فترة بسيطة لا تزيد عن 11 شهرا. في الغابون أعلن ثلاثة مترشحين فوزهم بالرئاسة خلفا للرئيس عمر بونغو الذي حكم البلاد لمدة 41 عاما متواصلة. في ألمانيا اعترفت المستشارة انجيلا ميركل بالخسارة في ولايتين من ثلاث معتبرة أن النتيجة وجهت رسالة قاسية للحزب المسيحي الديمقراطي الذي يواجه معركة ساخنة في الانتخابات النيابية العامة التي ستعقد بعد أربعة أسابيع.

أربع ديمقراطيات الأولى في غرب آسيا، الثانية في شرق آسيا، الثالثة في غرب إفريقيا، والرابعة في شمال غرب أوروبا. وكل هذه الدورات يطلق عليها في القاموس السياسي مصطلح «ديمقراطية». أما في الواقع الاجتماعي العمراني تشير النتائج وأسلوب التلقي إلى وجود مفارقة بين الديمقراطيات تثير إشكالية سياسية في معنى المصطلح وتضغط باتجاه البحث عن إعادة تعريف.

إعادة تعريف المصطلح لا تعني بالضرورة الخروج بنتيجة سلبية والقول بأن الديمقراطية فكرة سيئة أو هي مشروع غير قابل للتطبيق في مجتمعات متأخرة (متخلفة أو نامية) أو هي منظومة علاقات غير مناسبة أو لا تتناسب مع هياكل اجتماعية لم يتوصل وعيها إلى طور ينسجم مع فرز أوراق التصويت في صناديق الاقتراع.

إعادة التعريف تحتاج إلى قراءة نقدية أو مراجعة تاريخية تشجع على البحث عن جذور المشكلة بقصد تطوير الاجتهاد النظري والعمل على احتواء تداعيات الأزمات التي تنجم عن كل دورة انتخابية. فالديمقراطية من أهدافها ضبط العنف وإعطاء فرصة للاحتجاج والرأي المضاد والقبول بفكرة تداول السلطة وعدم إقفال الباب أمام المعارضة (الأقلية) للمشاركة في العملية السياسية.

إذا كانت هذه بعض أهداف الديمقراطية وهي في النهاية تشكل ذاك الإطار السياسي الناظم لانفعالات المجتمع بين «نعم» و«لا» فما معنى هذا المصطلح حين يعطي نتائج معاكسة لأصل المفهوم؟ ما قيمة الديمقراطية إذا تحولت إلى واسطة لتفجير العنف ومنع الاحتجاج ورفض الرأي المضاد وعدم القبول بتداول السلطة وإقفال الباب أمام حق المعارضة (الأقلية السياسية) بالمشاركة في صنع التحول السياسي والاطلاع على القرارات المصيرية والسيادية المشتركة؟

هناك أجوبة مختلفة عن هذه الأسئلة. بعض علماء الاجتماع والسياسة يعتبر الديمقراطية فكرة أوروبية خالصة ولا يجوز تصديرها إلى عالم غير أوروبي أو مجتمعات تمتاز بتاريخ من العنف. البعض يرى في الديمقراطية مسألة اجتماعية - ثقافية وليست وعاء للتنفيس عن الاحتقان السياسي وبالتالي فهي تحتاج إلى علاقات تمهد الطريق لاستقبال الفكرة حتى لا تعطي نتائج مخالفة للمصطلح. البعض يرى الديمقراطية مجرد شكل هيكلي يمكن تعميمه من دون تمييز عنصري بين شعب وشعب وحضارة وحضارة وبالتالي يمكن نقلها من مكان إلى آخر بصفتها تشكل ذاك المشترك الإنساني. البعض يرى الديمقراطية مفهوما مدرسيا يمكن تلقينه للشعوب بواسطة التعليم والتدريب والتأهيل حتى تصبح الثقافة في طور متقدم يتقبل الفكرة من دون حاجة لانتظار التقدم الاجتماعي الذي يأخذ وقته.

أجوبة كثيرة حاولت الإجابة عن سؤال: لماذا تفشل الديمقراطية في بلدان وتنجح في بلدان أخرى؟ معايير الفشل والنجاح معطوفة بدورها على سؤال آخر: هل الفكرة بضاعة مصنعة في أوروبا ويمكن إسقاطها بالمظلات في كل الأمكنة وتعطي النتيجة نفسها أم أنها موجودة في ثقافة كل الشعوب ويكفي رفع الغطاء عنها في مختلف تراث الأمم حتى تعود إلى الحياة وتبدأ بالنشاط الاجتماعي بحيوية كاملة ومن دون عقبات وحواجز؟

اختلافات الأجوبة طرحت الكثير من الصيغ وصلت ردودها إلى ضفاف عنصرية تؤكد أوروبية المصطلح وتشير إلى ضرورة عدم المبالغة في المراهنة على نجاح «الديمقراطية» في بلدان لاتزال تمرّ في طور «ما قبل الدولة» وتعيش انقسامات أهلية وتلتزم بولاءات اجتماعية محكومة بالعصبيات القبلية أو اللونية أو المناطقية أو الأقوامية أو المذهبية والطائفية.

ردود أخرى رفضت التوصيف العنصري معتمدة في أجوبتها على نجاحات حققتها «الديمقراطية» في بلدان غير أوروبية أو أميركية. جنوب إفريقيا استطاعت أن تتخطى حواجز العنصرية واللون حين نجحت الجماعات الأهلية في الخروج بنظام سياسي يسمح بتداول السلطة من دون عنف. بناء على هذا النموذج الخاص يرى الاتجاه المذكور أن الديمقراطية عالمية المنشأ وليست خاصة بتاريخ وحضارة وثقافة وقارة وهي موجودة في الجوهر في مختلف الشعوب حتى تلك القبائل المنعزلة في غابات الأمازون.


من نصدق؟

بين الحدين يستخدم تيار محايد مقولات التوسط للتوصل إلى نشر الديمقراطية من دون أوهام. ويعتمد هذا الاتجاه منطق التربية الاجتماعية للتوعية والسلوك التجريبي لتغيير القناعات من خلال تكرار التمارين مرة بعد أخرى حتى تصبح الفكرة مقبولة ولا يمكن التخلي عنها بسبب المكاسب التي حققتها للناس على أرض الواقع.

حتى الآن لم يتوصل علماء الاجتماع والسياسة إلى التوافق على صيغة إجابة موحدة للسؤال عن معنى الديمقراطية في بلد تتكاثر فيه العصبيات وتحتاج جماعاته الأهلية إلى شروط اجتماعية للتقدم والتفاهم والتعارف والخروج من العزلة التاريخية أو الجغرافية؟

الاختلاف بين المدارس الفلسفية يبدأ من تعريف المصطلح. هل الفكرة عالمية تصلح لكل الشعوب في عصر العولمة أم أنها خاصة بالقارة الأوروبية وهي بضاعة إنسانية أقرب إلى المفهوم الثقافي وليست سلعة منتجة (سيارة مثلا) يمكن تصديرها واستخدامها بسهولة في كل قارات العالم؟

المشكلة في المسألة أنها تحولت إلى سياسة دولية وأحيانا أصبحت تشكل قاعدة أيديولوجية ترسم خيوط اختلافات مصلحية بين الدول الكبرى. فالتيار العنصري الذي يرفض تصدير الديمقراطية إلى شعوب غير جاهزة ثقافيا لتقبلها انشطر بدوره إلى تيارين: الأول يتمسك بنظرية عدم تناسب الفكرة مع كل الشعوب والأمم. والثاني استغل «المشروع الديمقراطي» واستخدمه ذريعة لتغطية سياسة التوسع والاحتلال أو التدخل الخارجي كما جرى في عهد جورج بوش وأيديولوجية «تيار المحافظين الجدد».

بسبب استغلال الدول الكبرى لمشروع نشر الديمقراطية تحركت الكثير من لوبيات مؤسسات التصنيع الحربي وشركات الطاقة لترويج فكرة تصدير المصطلح وفرضه بالقوة على الأنظمة بذريعة أن الشعوب تتطلع إلى الحرية وتنتظر تلك الفرصة لأخذ حقوقها الإنسانية ولو بمساندة خارجية.

نظرية «الاستقواء بالأجنبي» اعتمدت عليها مجموعات المعارضة العراقية للتفاهم مع إدارة بوش والتنسيق مع الأجهزة لإدارة الصراع والتمهيد إعلاميا للتشجيع على المعركة واحتلال بلاد الرافدين والإطاحة بالنظام وتقويض الدولة. وبناء على هذه النظرية التآمرية يرى البعض أن خطوة بوش كانت فاشلة في جانبها الإنساني (دمار، خراب، قتلى، فوضى، اقتتال أهلي) ولكنها أيضا ناجحة في جانبها السياسي «الديمقراطي» لأنها أعطت فرصة للشعب العراقي بالتخلص من «الاستبداد الشرقي» وأفسحت أمامه مجال الاختيار بين الأحزاب والقبول بفكرة تداول السلطة.

نموذج العراق (الخراب الديمقراطي) ليس بعيدا عن نموذج أفغانستان (القبائل الديمقراطية). النموذجان مهمان لإعطاء فكرة عن المسار السياسي لبلدين تعرضا للاحتلال الأميركي في السنوات الثماني الماضية وكلفا مئات المليارات من الدولارات وجرفا أكثر من مليون قتيل وثلاثة ملايين جريح وخمسة ملايين مهاجر ومشرد في دياره. النموذجان أحبطا أصحاب النظرية المضادة التي تؤكد عالمية الفكرة وأن الديمقراطية موجودة في كل ثقافات الشعوب وليست بحاجة إلى تصدير أو إسقاط بالمظلات أو إدخال قسري من طريق القوة العسكرية.

بسبب الفشل الأميركي في نشر الديمقراطية وفق النموذج الأوروبي في أفغانستان والعراق انتعشت نظرية «الخصوصية» وعدم مناسبة المنظومة السياسية المتقدمة في هياكلها الإطارية لكل الشعوب وتحديدا تلك التي تتكاثر فيها العصبيات وتعيش لحظة تاريخية سابقة لطور «الدولة».

المسألة إذا لم تحسم وذلك لعوامل بعضها يتصل بغموض المفهوم وتشعبه وبعضها يتصل باختلاف التجارب بين دولة وأخرى. فاليابان تتقبل النتيجة وأقدم رئيس الحزب الليبرالي على تقديم استقالته والتنحي من موقع المسئولية استجابة لمزاج الشارع. في ألمانيا تعترف المستشارة بالخسارة وتتخوف من أن تكون إشارة إلى احتمال فشل حزبها في الانتخابات العامة التي ستحصل بعد شهر. أما في أفغانستان فهناك مخاوف دولية من إعلان المنتصر في الانتخابات الرئاسية بسبب ذاك الفائض في الشكاوى من شرعية النتائج النهائية. وفي الغابون هناك مشكلة تنتظر إعلان النتيجة بعد أن أعلن ابن عمر بونغو فوزه «بسهولة» في وقت أعلن المترشحان المنافسان فوزهما. من نصدق؟ الجواب ليس في الديمقراطية ويتجاوز بالتأكيد صناديق الاقتراع.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2553 - الثلثاء 01 سبتمبر 2009م الموافق 11 رمضان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً