هناك ربط بين طبيعة العمل والعرقية في البحرين سواء تحدثنا في الحاضر أو الماضي, إلا أن التقسيمات العرقية في الماضي تختلف عن الحاضر, في الحلقات السابقة درجنا على شرح أي موضوع بدءا من القديم متدرجين حتى الوقت الحاضر, ولكن في هذا الموضوع علينا أن نبدأ من الحاضر وذلك حتى تتضح الصورة, فنبدأ بهذا الخبر الذي نشر في إحدى الصحف المحلية: «وقد أبرزت آخر إحصائية لسوق العمل أن إجمالي عدد الموظفين العاملين البحرينيين (العمالة المحلية) قد ارتفع بـ 16 ألف و378 موظفا في الربع الأخير من العام 2008 إذ كان العدد 140 ألفا و96 شخصا في نهاية الربع الأخير مقابل 134 ألفا 718 شخصا في نهاية الربع الثالث من العام الماضي. أما غير البحرينيين (العمالة الأجنبية)، فتشير الأرقام إلى أن العدد الإجمالي بلغ 438 ألفا و211 شخصا في الربع الأخير من العام 2008 مقابل 417 ألفا و389 شخصا، أي بزيادة بلغت 20 ألفا و822 شخصا».
يلاحظ أن العمالة الأجنبية تقدر بمئات الآلاف وربما كان هذا العدد يفوق عدد سكان البحرين قبل سبعين عام, و يمكننا أن نرجع هذه الزيادة الكبيرة في العمالة الأجنبية للتطور الصناعي وللعقلية الربحية. فكلما زاد التطور والتحضر وفتحت المصانع المختلفة زادت الحاجة للأيدي العاملة, أما العقلية الربحية فتفكر بأعلى نسبة ربح ممكنة, فلذلك تحتاج لأكبر عدد من الأيدي العاملة بأقل كلفة, تحتاج لأيدي عاملة تعمل دون كلل في كل الظروف وكل المجالات دون تدمر وبأقل كلفة ممكنة, بالطبع هذه العقلية الربحية يجب أن تراعي القوانين والاتفاقات الدولية المعاصرة لجلب تلك الأيدي العاملة ولكن ضمن شروط تضمن أعلى درجة من الربح. أدى هذا الوضع لأن تكون هناك أعمال لا يعملها في الغالب إلا عمالة أجنبية ذات عرقية معينة, أو بمعنى آخر حدث ربط بين العرقية وطبيعة العمل. في الماضي القريب كانت هناك تقسيمات عرقية تختلف عما هي اليوم وكل عرقية مرتبطة بطبيعة عمل مختلفة.
طبيعة العمل والتقسيم العرقي في البحرين قديما
قديما وحتى عهد قريب كانت هناك لفظتان تميز عرقين في البحرين (العرب والبحارنه), وقد تحولت تلك اللفظتان من الدلالة العرقية للدلالة على اللهجة ومنها أصبحتا اسمين للهجتي المتحدث بهما في البحرين, ونحيل القارئ هنا لسلسلة البحوث التي قام بها البرفسور كلايف هولز من جامعة أكسفورد على مدى ثلاثين عاما عن اللهجات في البحرين والتي جمعها مؤخرا في كتاب «اللهجة والثقافة والمجتمع في شرق الجزيرة العربية» من ثلاثة مجلدات صدر منه مجلدين حتى الآن. مصطلح البحارنة لازال متداولا بينما مصطلح (العرب) لم يعد متداولا, ويصر هولز على استخدام اللفظة (العرب) للدلالة على الطائفة ذات الأصول القبلية في البحرين والتي تتحدث باللهجة المصطلح عليها بلهجة الخليج العربي والتي يسميها هولز (العرب). و يكشف هولز في سلسلة بحوثه عن التقسيم العرقي للأعمال المختلفة في مجتمع البحرين القديم بين (العرب) والبحارنة حيث يوضح أن العمل في الزراعة وصيد الأسماك والحلاقة وبيع الخضار والنسيج والفخار وغيرها تصفها جماعة (العرب) بالعيب وعليه بقيت تلك الأعمال مرتبطة بالبحارنة بصورة رئيسية, واستمر هذا التقسيم حتى نهاية الستينيات من القرن المنصرم على أقل تقدير. بالمقابل هناك أعمال ارتبطت بالعرب بصورة رئيسية, وعليه كانت جماعة البحارنة تعمل بصورة مستقلة عن جماعة العرب ولم يعملا معا إلا في المصانع التي ظهرت بعد اكتشاف النفط في بداية الثلاثينيات من القرن المنصرم, ولكن مع دخول الأيدي العاملة الأجنبية واندثار مهن مختلفة اضمحل الارتباط وتكوّن ارتباط جديد بين أعراق الأيدي العاملة الأجنبية والأعمال المختلفة في البحرين.
مهنة الغوص و العرقيات التي ارتبطت بها
بعد كل تلك المقدمة الطويلة نعود لمهنة الغوص, فهل كانت حصرية على جماعة دون أخرى؟, هنا لا بد لنا أن نتدرج في سرد الأحداث التي أدت لتطور الغوص والتي يمكن أن نقسمها حسب التسلسل الزمني إلى فترتين, ما قبل القرن التاسع عشر و ما بعد القرن التاسع عشر.
جميع الشعوب التي سكنت شواطئ الخليج العربي عملت في الغوص بدون استثناء ومنذ فجر التاريخ, وعندما نتحدث عن جزر البحرين فهي ليست استثناء فجميع العروق عملت بمهنة الغوص, ولكن على مر العصور حصل تغير في الكتل البشرية التي سكنت البحرين وقد ناقشنا ذلك بالتفصيل في الحلقات السابقة وقد أوضحنا أن البحارنة هي الجماعة ذات الامتداد الأقدم وأوضحنا أيضا أن الجماعات ذات الأصول القبلية أو ما تعارف عليهم بالعرب يرجع تاريخ هجرتهم للبحرين للقرون الأربعة الأخيرة وهذا يعني أن في الحقبة ما قبل ذلك كانت الجماعات الأقدم هي من تمتهن الغوص. وقد عملت تلك الجماعات إما بصورة مستقلة أو بإمرة القوى السياسية التي سيطرت على المنطقة. وبعد قدوم الجماعات الجديدة وحدوث استقرار سياسي نسبي في القرن الثامن عشر وتوجه رؤوس الأموال لمهنة الغوص عملت جميع الأطياف في هذه المهنة التي اعتبرت من أكثر المهن ربحا في تلك الحقبة.
في بداية القرن التاسع عشر زاد الطلب على اللؤلؤ وخاصة من قبل الأوربيين وما عادت الجماعات العاملة في الغوص تلبي تلك الحاجيات وكان لا بد للعقليات الربحية في تلك الحقبة أن تجد حلا لذلك. ما حدث في هذه الفترة شبيه لحد ما لما حدث في الحاضر من جلب الأيدي العاملة الأجنبية مع وجود فارق أن القوانين والتشريعات في القرن التاسع عشر تجيز الاستعباد بمعناه الحقيقي لا المجازي, فقد كانت تجارة الرقيق رائجة في تلك الحقبة. نلاحظ هنا كيف أوجدت العقلية الربحية في تلك الحقبة حلا عبقريا لها, فهي تشتري أيدي عاملة لتستعبدها فتجعلها تعمل دون كلل, وبتطبيق نظام السلفية والتسقام عليها بدت عملية الظلم جلية في حق الغاصة, ولضمان عدم تدمرهم من سوء المعاملة تم تأسيس محكمة صورية (سالفة الغوص) التي لم تحكم إلا لصاح تلك العقلية الربحية.
ونحيل القارئ هنا لأطروحة ماثيو هوبر الذي قدمها العام 2006م لجامعة كاليفورنيا لنيل درجة الدكتوراه والتي خصصها في دراسة التواجد الأفريقي في شرق الجزيرة العربية مابين الأعوام 1840م - 1940م, و قد سرد فيها تفاصيل تجارة الرقيق واستخدامهم في مهنة الغوص وأوضح هوبر أنه يتم شراء العبيد الصغار في السن ليعملوا تبابة لمدة عام أو عامين ومن ثم يتدرجوا حتى يصبحوا غاصة, و يتم تدريب هؤلاء الرقيق في أوقات غير موسم الغوص وذلك في البحر الأحمر أو بالقرب من جزيرة سوقطرة إذ إنه أقل خطورة من الغوص في الخليج العربي. وقد كان يتراوح عدد الرقيق العاملين في الغوص ما بين ثلث ونصف العاملين في هذه المهنة بحسب مشاهدات الرحالة الغربيين. ومنذ بداية توظيف الرقيق في مهنة الغوص بدت هوية العاملين في هذه المهنة تميل نحو عرقية معينة.
إحصائية لوريمر في العام 1907م توضح وجود 3634 بحارا من البحارنة يعملون في مهنة الغوص في مقابل 14000 بحار يعملون لصالح العرب (أنظر الجدول), بمعنى أن البحارة البحارنة كانت تمثل ربع العاملين في مهنة الغوص. وقد استمرت عملية توظيف الرقيق في الغوص دون توقف حيث توضح إحصائية العام 1905م وجود 4800 فرد من أصول أفريقية في البحرين وقد تضاعف هذا العدد ليبلغ 11000 فرد و ذلك في العام 1919م و هو ما يمثل 11% من سكان البحرين في تلك الحقبة. هذه الأرقام توضح باختصار كيف ارتبطت مهنة الغوص بعرقية معينة, تلا ذلك ارتباط الغوص بثقافة معينة, وقبل الحديث عن هذا الارتباط يجب أن نوضح تلك الثقافة قبل القرن التاسع عشر و بعده.
بدايات النهمة البحرية
النهمة هي الترنم بالمواويل والأهازيج أثناء العمل على السفينة وقد عرف منشد تلك المواويل والأهازيج بالنّهام وقد بدأت النهمة بالمواويل أو ما اصطلح عليها بأغاني العمل لأنها تصاحب العمل ثم تحولت لأغاني طرب حيث أدخلت عليها فنون الطرب والغناء الذي يغنى بعيدا عن الغوص, وبظهور هذا التمازج بين فن الطرب ومواويل العمل خرج فن متطور من النهمة الأصلية ليعطي ما عرف لاحقا بأغاني الغوص والتي بدأت تميل نحو الطرب بعيدا عن كونها أغاني عمل وقد أشارت لهذه النقطة الدكتورة كلثم الغانم في بحثها عن أغاني الغوص وأضافت «الاستطراب يتطلب المط والتطويل والتكرار والإعادة, ولا نعلم مدى تأثير ذلك الأسلوب في الأداء التطريبي على الأداء الحقيقي لألحان أغاني العمل علي سفن الغوص». ومن هنا توجب علينا قبل البدء أن نوضح أن أغاني الغوص في الأساس هي أغاني عمل بمعنى أنها كلمات ومواويل يتغنى بها أثناء تأدية الأعمال المختلفة التي تؤدى على ظهر السفينة من سحب المرساة (حبل الخراب) والخطف بالشراع وأثناء التجديف, وكانت بداية نشوء هذه الكلمات أو النهمة هي الصرخات والزفرات التي يتفوه بها العامل أثناء تأدية العمل نفسه فلم يكن هناك نهاما ليطربهم, فالعمل يستوجب صدور أفعال وحركات عفوية تتمثل في أصوات منغمة غايتها تنظيم توقع حركة الجسم والعمل على اتساقها من جهة وتخفي مشقة العمل من جهة أخرى, وبذلك بدأت تلك الكلمات البسيطة تنظم في فقرات قصيرة جدا حتى تتلاءم ألحانها في سرعتها واندفاعها وتوقيتها مع سرعة واندفاع وتوقيت البحارة في أداء عمل معين كحركة المجداف مثلا, و بذلك بدأت مواويل العمل بمواويل قصيرة أخذت في التطور حتى أصبح البحارة يتغنون بالمواويل المختلفة تماما كما فعل المزارعون أثناء ري الأرض بالماء, و كما نتجت لنا مواويل الزاجرة في الزراعة أصبحت هناك مواويل للغوص. والموال ضرب من الشعر يعتقد أن بداية ظهوره في العصر العباسي عند العاملين في الزراعة لكنه تطور بأوزان و أشكال مختلفة و أشتهر من بينها السبعاوي أو الزهيري وستكون لنا وقفة مطولة عن الموال في الحديث عن ثقافة الزراعة.
تمثل تلك الجمل القصيرة المسجوعة والمواويل التي تحدثنا عنها المادة الخام التي تداولتها العامة في الماضي بجميع أطيافها سواء في الزراعة أو الغوص, و لكن ما حدث في مهنة الغوص من تغير هو حالة خاصة حيث دخل العرق الإفريقي في هذه المهنة منذ القرن التاسع عشر بأعداد كبيرة, ففي السفن التي عمل فيها الأفارقة حدث تمازج ثقافي بين الكلمات و المواويل المتعارف عليها والألحان والموسيقى الأفريقية وتطورت مع الزمن. هذا النوع من الإندماج ليس حصريا على منطقة الخليج فعند الحديث عن تاريخ أغاني البحر الأنجلو- أميركية فنلاحظ الكتاب تتحدث عن أصلها الأفريقي وعن حدوث التمازج بين أغاني البحارة البيض والسود العاملين على سفينة واحدة وخروج نوعية من أغاني البحر بألحان وطرق مختلفة. فالأصل في الخليج العربي هي تلك المواويل والكلمات التي جاشت بها قريحة المزارعين والغواويص الأوائل في الخليج العربي قبل أن تدخل عليها الموسيقى واللحن الأفريقي لتتحول لنوع من أنواع الطرب, وبقي كذلك حتى نهاية مهنة الغوص يتداول كفن في دور الطرب فقط. ونظرة خاطفة لكلمات تلك الأغاني توضح كيف أنها مستقاة من جميع الأطياف في البحرين و الخليج العربي
أول بدينا و بسم الله سمينا
ثاني مجيلي على المختار صلينا
ويلاه صلينا ياعونة الله، علي ولي الحوض ساجينا (أي ساقينا)
علي ولي الحوض ساجينا
و من فن المجيلسي
أول ما نبدي وش نقول
ألف الصلاة على الرسول
و المرتضى سيدي علي أبو الحسن زوج البتول
هذه الكلمات وغيرها تعارف عليها المجتمع البحريني منذ قديم الزمان وليست بالجديدة عليه وإنما الجديد ما دخل عليها من فن وارتبط بها وتطور معها. ونحيل القارئ هنا لكتاب أولسن عن الموسيقى في البحرين ونقتبس من ترجمة الكتاب (ترجمة فاطمة الحلواجي) الذي نشر ضمن سلسلة كتاب البحرين الثقافية هذا النص:
«ينحدر جزء لا يمكن إنكاره من الشعب البحريني من أصول أفريقية ترجع سلالاتهم إلى عبيد عتقوا أو آخرين لجأوا للبحرين فارين من مناطق خليجية أخرى». و جاء فيه أيضا «احتفظ البحرينيون السود ببعض تقاليد أجدادهم الموسيقية التي استطاعت الإندماج بشكل أو بآخر في النمط الثقافي المحلي». هذا يعني حدوث الإندماج الثقافي بين كتل المجتمع لتخرج لنا صورة متطورة من الفن الذي تطور على أرض الخليج وبذلك يعود أولسن ليقول «هنا تتحد الثقافات والتقاليد الأفريقية والعربية والبدوية خالقة من اتصالها مبتكرا جديدا».
العدد 2554 - الأربعاء 02 سبتمبر 2009م الموافق 12 رمضان 1430هـ