العدد 2554 - الأربعاء 02 سبتمبر 2009م الموافق 12 رمضان 1430هـ

سيرة ليلى مراد في فضاءات مصر السياسية وتحولاتها الفنية

مسلسل «أنا قلبي دليلي» في تلفزيون البحرين

منذ الأول من رمضان المبارك بدأ تلفزيون البحرين بعرض المسلسل المصري «أنا قلبي دليلي» على حلقات تنتهي مع آخر الشهر الفضيل. المسلسل يستحق المشاهدة لكونه يلقي الأضواء على فترة مهمة في تاريخ مصر السياسي والفني والتحولات التي طرأت على أرض الكنانة منذ مطلع القرن الماضي.

متابعة الحلقات تعطي فكرة موجزة عن تكوين المجتمع المصري في القرن الماضي وتشكله من تيارات سياسية ومدارس عقائدية وفنية لعبت دورا في تأسيس شخصية الدولة المعاصرة وما لحق بها من إضافات وتعديلات اقتصادية وثقافية رسمت هيئة التكتلات الاجتماعية وحددت دورها واختياراتها في الفترات اللاحقة.

«أنا قلبي دليلي» يمزج بين سيرة أسرة فنية يهودية انتقلت من المغرب العربي إلى مصر في نهاية القرن التاسع عشر وعاشت في أحياء القاهرة وبدأت بالاندماج بروحها الشعبية والإنسانية والوطنية والفنية. فالمسلسل يتحدث عن سيرة الفنانة ليلى مراد ولكنه يبدأ من المربع واحد حين يعود إلى بدايات تكوين الأسرة فنيا وظهور اسم والدها زكي مراد في عالم الموسيقى والغناء والمسرح. والبداية جاءت في إطار عالم سياسي أخذ يتعرض للتحولات وخصوصا في فترة قائد الحملة الدستورية سعد زغلول ضد الاستعمار البريطاني (ثورة 1919).

وضع ظروف العائلة الفنية (مراد) في إطار التجاذب السياسي بين الحركة الوطنية المصرية والاستعمار البريطاني أعطى حيوية للسيناريو لأنه أشار ضمنا إلى وجود ولاءات متباينة في الجالية اليهودية بين فريق يعتبر نفسه جزءا من المجتمع المصري والحركة الوطنية وبين فريق آخر يؤيد الصهيونية ويشجع اليهود على الهجرة إلى فلسطين وعدم الاندماج بالحياة العامة للشعب.

الإطار كان موفقا في اختيار الواقعات ولكنه افتقر إلى حوار سردي متماسك يعطي الفكرة تلك القوة المطلوبة لتأكيد مقولة الافتراق والتنوع داخل الجالية اليهودية. وضعف السيناريو أدى إلى تكرار مقولات الاندماج بالهوية المصرية بأسلوب مسرحي تبسيطي بينما كان المطلوب إدراج أزمة الانتماء بطريقة عادية لا تحتاج إلى تلك البراهين اللفظية.

المسلسل أراد أن يوجه رسالة للمشاهد تؤكد أن عائلة مراد مختلفة وهي في تكوينها وتربيتها وثقافتها مصرية الانتماء والهوى والهوية وترفض مقولات الصهيونية وتحركاتها السرية واستغلالها لطيبة الناس وتهاون الحكومة لتمرير مشروع تهجيري واقتلاعي في فلسطين. الرسالة لاشك وصلت ولكنها تورطت في سيناريو مشوش وغير متماسك وكان يحتاج إلى إعادة قراءة حتى يتجاوز تلك الثغرات التي أضعفت لغة السرد وأخرجتها أحيانا عن سكة الحوار البسيط الذي لا يحتاج إلى ادعاءات الولاء للوطن والانتماء إلى الهوية المصرية.

عموما نجح المسلسل في أسبوعه الأول في تقديم مادة تاريخية عن أسرة مراد المغربية - اليهودية وبدايات اندماجها بالحياة السياسية والانخراط في الحركة الوطنية ومشاركتها في تأسيس وتطوير مدارس فنية في الموسيقى والغناء والمسرح. وشكلت هذه المادة على بساطتها في ترسيم حدود العلاقات بين المجتمع والأقليات (اليهودية والقبطية) ودور الفن في توحيد الأهواء الوطنية من دون إهمال لشروط التنافس بين مراكز القوى في إطار الدولة وتوزع قنوات اتصالاتها مع المجموعات العاملة في هذا الحقل الإبداعي.

التنافس الإبداعي في حقول الفن شكل بدوره مادة خصبة لتعريف المشاهد بالتيارات والرموز التي رافقت ثورة سعد زغلول الدستورية ونفيه خارج مصر وعودته ووفاته وظهور شخصية طلعت حرب ودوره الوطني في تأسيس قواعد اقتصادية للاستقلال السياسي المصري لاحقا.

هذا الجانب المهم لا يتعمق به المسلسل كثيرا ولكنه قدم إشارات جانبية أوضحت بعض الصور الفنية في فترة العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي التي تمثلت في رموز مسرحية وغنائية وموسيقية لا تزال حية حتى أيامنا (سيد درويش أو مسرح الريحاني مثلا).


أسرة مراد

عائلة مراد كانت من هذا الرعيل الكلاسيكي - الشعبي وشكل الأب (زكي) ذاك الجسر الواصل بين أسرة يهودية مهاجرة من المغرب وبين مجتمع طيب ومتسامح ومنفتح ولا يعرف التمييز والتفرقة. واعتمادا على هذه النقطة الحاسمة في هوية عائلة اختارت الاندماج وخلافها مع حركة صهيونية تخطط لإنشاء «دولة يهودية» في فلسطين دخل السيناريو في متاهات سياسية كان بالإمكان الاستغناء عنها لأن سيرة ليلى مراد فنية أولا قبل أن تكون أيديولوجية. ولكن المسلسل في أسبوعه الأول أراد كما يبدو تبرير سبب تسجيله حلقات عن فنانة تعرضت لاحقا لاتهامات أدت إلى تعطيل تطورها وتقدمها في عالم تسوده المنافسة والنميمة.

تركيز السيناريو على الهوية الدينية وصل أحيانا إلى حد المبالغة للتغطية على الجانب الفني وتطوره السريع حين دخل على خط التنافس الموسيقار محمد عبدالوهاب والفنانة أم كلثوم والمسرحي يوسف وهبي. فهذا الثلاثي الكبير قاد الحركة الفنية وأخذ رايات الغناء والموسيقى والمسرح من الجيل السابق الذي كان زكي مراد أحد فروعه وجداوله.

التطور الفني لعب دوره الأساسي في تجاوز الجيل الأول وليس العامل السياسي. ودخول الجيل الثاني إلى حقل التنافس أدى إلى تحولات في الأمزجة الشعبية وثقافة الموسيقى والغناء والمسرح. وهذا المتغير جاء نتاج تطور العلاقات الاجتماعية ونمو كتلة وطنية في الدولة أخذت تعمل في عهد الملك فؤاد على تأسيس قواعد اقتصادية (المصرف الوطني المصري مثلا) تمهيدا للاستقلال السياسي. والفن في هذا المعنى التاريخي يشكل واجهة ثقافية للمتغيرات الاجتماعية والتحولات الاقتصادية. وظاهرة عبدالوهاب - أم كلثوم الموسيقية والغنائية جاءت في إطار تلبية الحاجة الاجتماعية لنوع من الفن يتناسب مع تبدل الأذواق والأمزجة الثقافية سواء على مستوى العلاقات الأفقية مع الجماعات الأهلية في المجتمع أو على مستوى العلاقات العمودية مع مراكز القوى في الدولة.

حكومة طلعت حرب آنذاك كانت طموحة وأرادت أن تؤسس أنشطة تلبي حاجات النمو والتطور (صناعات، مصارف، استوديوهات فنية للتصوير، وغيرها من فروع إنتاج) لتكون مصر في موقع متقدم يسمح لها بإنجاز الاستقلال. وهذا الجانب الوطني المشروع اصطدم بطبيعة الحال بالهيمنة البريطانية وتدخل الاستعمار في الشئون الداخلية من جهة وبنمو نزعة صهيونية أخذت تحرك الجالية اليهودية وتستغلها لغايات تتعارض مع الاندماج والوحدة الوطنية من جهة أخرى.

بين الجهتين تحرك سيناريو «أنا قلبي دليلي» من دون أن يتوفق دائما في تقديم تصورات مقنعة عن مشاهد اضطر إلى تكرارها لتأكيد استقلالية أسرة مراد ووطينتها ومصريتها. فالفكرة وصلت من البداية ولم تكن بحاجة إلى الإعادة في سياق ملاحقة تطور سيرة ليلى مراد الفنية. فهذه الفنانة نجحت بتشجيع من والدها في تجاوز الحواجز الطائفية واندمجت في الحركة الإبداعية التي أسسها الجيل الثاني وتحولت إلى رقم مهم في المعادلة الفنية وما تفرع عنها من ألحان وأنغام أحدثت نقلة نوعية في تطور الموسيقى والمسرح والسينما في مصر الثلاثينات والأربعينات.

المسلسل بدأ أسبوعه الثاني بعد أن أعطى صورة عن أزمات فنية متداخلة بالسياسة والتاريخ. والأسبوع الثاني سيكون له محطة مهمة لأنه سينقل المشاهد إلى عالم ليلى مراد الخاص ومأزق علاقتها الفنية مع رموز الثقافة المصرية المعاصر. فهل تنجح مراد في الاندماج أم تتدخل السياسة وتفشلها؟ هذا ما سنشاهده في الأسبوع الجاري.

العدد 2554 - الأربعاء 02 سبتمبر 2009م الموافق 12 رمضان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً