العدد 2568 - الأربعاء 16 سبتمبر 2009م الموافق 26 رمضان 1430هـ

الرهان على إعطاء المناهج قدرة تدخلية في نقد الظواهر

نادر كاظم في برنامج «مسامرات ثقافية» والذي يبث اليوم على «الوسط أون لاين»:

يشدد الأكاديمي والناقد الثقافي نادر كاظم على أن الرهان في العلوم الإنسانية هو إعطاء المناهج قدرة تدخلية في نقد الظواهر، فيمضي بدأب وجدة متواصلة على قراءة المتخيل وتفكيك تحبيكاته السردية التي تصنعها الذاكرة رغبة في تخليص الجماعات من أمراض نسقية تبدو حتى هذه اللحظة مزمنة، ويروم صناعة وعي مستجد نحو توافق ربما تصنعه تعددية ثقافية ماثلة، رغم عيوبها الخاصة. يقف متناولا الظاهرة فينحت أو يشتق لها اسما كما يحلو له، ثم يمضي موصفا ومحاججا وناقضا ثم محذرا أو داعيا لمبدأ يراه مناسبا، معتمدا في تفنيداته على حجاج خاص به، وكثرة استشهاد موسوعي غائر في التاريخ، مبهر في تتبع الظاهرة، ثم ينبري موافقا أو مؤيدا، ولا حياد لديه في متبنياته بعد البحث والتقصي كان هذا دأبه في كتبه منذ تمثيلات الآخر إلى طبائع الاستملاك إلى استعمالات الذاكرة إلى كتابه في التعددية الثقافية والتي عبر بنا إليها في هذا الحوار الضافي.

تراهن مناهج العلوم الإنسانية بقدرتها على مقاربة الظواهر الاجتماعية بتوصيف علمي، فما الإطار المنهجي الذي تتبعه للغوص في تناول الظواهر التي تدرسها وما حدود تبشيراته؟

- إن هذا الرهان في معظمه كان ادعاء، فقيمة المناهج العلمية والنظريات في العلوم الإنسانية لا تقاس بقدرتها على تقديم توصيف علمي للظواهر لأنك حين تقدم توصيفا علميا للظواهر لا تنتج الشيء الكثير فالظواهر مطروحة في الطريق ويستطيع صاحب أي منهج أو نظرية أن يقدّم توصيفا علميا للظواهر والرهان هو في إعطاء المناهج المطروحة قدرة تدخلية وأن يكون لصاحب النظرية دور أو كلمة لما يجري حوله في العالم، داخل البلد الذي يعيش فيه أو خارجه، وأن تعاد إلى النظرية قيمتها النقدية وأن يكون لصاحب النظرية موقفا واضحا نقديا تجاه الظواهر السلبية ذات التأثير أو المفعول الاجتماعي الجماعي العام، هذا كان رهان العلوم الإنسانية في بدايات القرن العشرين إلى منتصفه إلى أن بدأت حركات وتيارات ما بعد الحداثة تشتغل في الغرب وقد طرحت سؤالا نقديا وجديا واعتراضيا على ما يمكن تسميته أوهام العلوم الإنسانية أو الأوهام العلموية للعلوم الإنسانية لأنها تستطيع أن تقدم توصيفا علميا متماسكا متكاملا للظواهر الإنسانية أو الاجتماعية وكان هذا المستوى مهما في لحظة من اللحظات لأن بدايات تأسيس العلوم الإنسانية كانت تتطلب أن تراهن على علميتها.

تراهن على تجذر المدونات التي تناولتها بالدراسة ومفصليتها، ما أهمية هذه المدونات وما هي حدودها وما الذي جرّك لدراستها؟

- هذا السؤال مرتبط بالسؤال السابق لكون القيمة أو الوظيفة التدخلية للنظرية للمناهج أو للمثقف بصورة عامة تتطلب منه أن ينتبه إلى الظواهر أو للمدونات أو للخطابات والممارسات ذات التأثير الفاعل في حياة الناس، فهناك ظواهر تكاد تكون عديمة التأثير في حياة الناس، وبالتالي الالتفات إلى المدونات والنصوص والخطابات والممارسات والمواقف ذات التأثير المهم والفاعل في الحياة أو في العالم عموما هو شغل الناقد الثقافي أو المثقف بصورة عامة أو الدارس للظواهر فأنت تعرف أن أول كتاب كان لي المقامات والتلقّي كانت المدونة التي يشتغل عليها الكتاب من النصوص المؤسسة للأدب العربي فصاحب المقامات ابتكر فنا جديدا في تاريخ الأدب العربي وهذا النص كان نصا مؤسسا، الكتاب الثاني تمثيلات الآخر وتستطيع أن تقول أن مدونة كتاب تمثيلات الآخر هي كل التراث العربي أو ما وقع تحت يدي من التراث العربي فيما كتب عن الأسود والمواقف التي دارت حول الأسود والتصريحات والبيانات والأشعار والحكايات والنصوص المؤسسة وغير المؤسسة في التراث العربي كانت موضوعا للنقد والتحليل والتمحيص داخل تمثيلات الآخر بدءا من القرآن الكريم، كأول نص مؤسس في تاريخ المسلمين، فقبل هذا كان الشعر الجاهلي والأحاديث النبوية والحكايات والسير الشعبية وقصص ألف ليلة ولية والأشعار النكات المواقف تجارة الرقيق وما دار حولها من وظائف وصور نمطية تجاه الأسود بصورة عامة فهذه النصوص هي المؤسسة للتراث العربي وفي علاقة العرب بالآخرين بالأسود على وجه الخصوص، وهناك نقلة حصلت في كتابي الأخيرة في الاهتمام بالشأن البحريني.

ما سر ذهابك للمتخيل البحريني هل كان ذلك هربا من الدراسة العامة التي ليس لها من أثر كبير على المتلقي بشكل مباشر فدرست المتخيل البحريني لما له من أثر كبير في القارئ؟

- في البداية علينا أن نحدد مفهوم المتخيل وهو واحد من المفاهيم المهمة التي ظهرت في العقود الأخيرة كرد فعل على الدراسات ذات الطابع العقلاني المادي أو الماركسي، فقد كان الدرس الثقافي والعلوم الإنسانية على وجه الخصوص يدور حول المناهج العقلانية المادية التي بالإمكان تحليلها منطقيا وعقلانيا وبالتالي بالإمكان لمسها أو التحقق منها في العقود الأخيرة وتحديدا مع تيارات ما بعد الحداثة بدأ شغل حول كيان أو شبكة من التصورات والاعتقادات والانطباعات هي خارج النمط أو الانضباط العقلاني والمنطقي وهي صعبة وعصية على اللمس والتحقق منها هذه الشبكة من التصورات، المتخيل مجموعة من الصور والتخيّلات والتصوّرات التي تنتجها ثقافة من الثقافات أو جماعة من الجماعات حول قضية أو قومية من القوميات، هذا الاهتمام بدأ متأخرا في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وأنت تعرف أن في تاريخ الثقافة العريبة الحديثة أو المحدثة كلام كثير حول أن مشكلة الثقافة العربية أنها ثقافة خرافية وتقوم على الخيال أو ثقافة غير عقلانية وأن العقلانيين والماديين العرب طرحا أن المشكلة كلها تكمن في أن الثقافة العربية ثقافة غير مادية وغير عقلانية ولا ماديتها ولا عقلانيتها هي التي تبرز مفهوم المتخيل كواحد من المكونات الأساسية في الثقافة العربية بل في الثقافة الإنسانية عموما لأنه ليس هناك مجتمع ليس له متخيل والمتخيل هو مقابل للواقع فليس الواقع في مجال والمتخيل في مجال، المتخيل أيضا ليس خيالا بالضرورة المتخيل يتشكل بفعل مجموعة ممارسات ومواقف ونصوص وخطابات هي التي تؤسس المتخيل بصورة عامة، فلو بحثت عن صورة أي آخر داخل أي ثقافة فأنت تبحث في موضوع المتخيل لأنه كيان يكاد يكون خارج المراقبة والتمحيص لأننا في مجال الدرس لا نقترب من المتخيل من منطلق عقلاني منطقي وبالتالي نقيس عقلانيته ومنطقيته تحقق أو لم يتحقق هذه الأمور خارج قابلية أو نطاق المتخيل وبالتالي هو مهم لكون المتخيل إذا لم يلتفت إليه الناقد أو الدارس فإنه يشتغل بحرية ودون رقيب دون ناقد يراقب تحركات المتخيل وبالتالي مهمتي بدءا من تمثيلات الآخر إلى الكتب الأخيرة هي كيف أن تضع هذا المتخيل الذي يشتغل في الخفاء بعيدا عن عين الرقيب وعين النقد الفاحصة كيف تضعه أمام مجهر الفاحص أو الناقد.

تحدثت عن سر ذهابك نحو دراسة مقولات المتخيل ألا تعتقد أن الأمر قابل للتأويل خصوصا وأنه يتسع كثيرا ويحمل الظاهرة ونقيضها إيجابا وسلبا؟

- طبيعة المتخيل أنه عصي على الملاحظة الدقيقة ليس من حيث الدرس لأنه يشتغل عادة بطريقة لا منطقية لا عقلانية وهذه ليست سبة فيه أو عيبا فطبيعة المتخيل أنه يحمل الضد ونقيضه ففي درسي لتمثيلات الآخر الأسود في العصور الوسطى ستكتشف أن هناك نصوصا وممارسات ومواقف كانت إيجابية تجاه السود ضمن المتخيل العربي الوسيط ولكن هذا لا يمنع أن الموقف الغالب كان موقفا سلبيا تجاه الآخر الأسود بل موقفا مغرقا في سلبيته وبالتالي فإن المتخيل تجد فيه الضد وضده لأنه في الأخير لا يشتغل بطريقة منطقية عقلانية هو خارج هذا النطاق ويشتغل بطريقة شبه حرة، لذلك تكمن أهمية أن يدرس ويوضع تحت عين الفحص والنقد لأن كثيرا من الأمراض تأخذ من الجسم وتفعل فيه فعلها بالذات إذا كانت خارج عين الرقيب وما إن تقع العين عليها حتى تبدأ في مسيرة علاجها.

درست المتخيل البحريني حكاياته ذاكرته وفككت هذه الحكايات لكن ألا تعتقد أن هذا المتخيل حينما يلجأ إليه الإنسان البحريني فإنه يتجه إليه بسبب ضيق الواقع الاجتماعي والسياسي، وأن هذا الذهاب ما هو إلا حيلة تعويضية يلجأ إليها الإنسان بعد أن يضيق درعا بواقعه السياسي أو الاجتماعي؟

- أنا لا أنفي هذا الكلام فالمتخيل واحد من المساحة البشرية لطريقة التفكير والتخيل والتذكر البشري ومسبباتها لم تكن متأخرة عن عين الفحص عندي في الكتب الأخيرة بالذات، الكتب التي دارت حول الشأن البحريني المحلي فما كان شغلي فقط ينصب على المتخيل والذاكرة بشكل خاص إذ كان هناك واقع جرى درسه من طبائع الاستملاك إلى استعمالات الذاكرة وحتى الكتاب الأخير الذي سيصدر بعد أسبوعين (خارج الجماعة)، في الكتب الثلاثة هذه لم أكن أشتغل على المتخيل كوسيلة هروب من واقع قاس أو مؤلم يعيشه الإنسان البحريني بالعكس الواقع هذا كان موضع نظر في الكتب الثلاثة ولو لم يكن كذلك لما أثارت الكتب كل هذا الجدل الذي دار حولها ولو كانت حول المتخيل والذاكرة فقط لكان الأمر سهلا، أنا في الحقيقة لا أميل إلى التنظير للمتخيل على أنه فرع عن الواقع أو متأثر أو ناتج عن الواقع أو حالة انحراف للواقع بل إن الواقع نفسه مشبوك بمتخيل، وهو ليس صورا وخيالات فقط، هناك جزء واقعي وجزء مادي.

تضيق عليك الحدود أحيانا فتحيل القارئ إلى ما هو أخطر مما وجد في مقالاتك من جرأة، فما أنماط التلقي التي أحسست أن القارئ يؤطرك فيها وما أنماط القراء الذين يتعاطون مع كتابتك بشكل عام؟

- حين أكتب فإنني أكتب لنفسي فهناك قضية تشغلني وتؤرقني وتقلقني فأشتغل عليها، هذا هو المستوى الأول لمسببات الكتابة عندي، أما لحظة النشر فهي مختلفة عندي حيث يحضر القارئ بقوة فحينما أفكر في نشر ما كتبته في صحافة أو كتاب، ألحظ عدة اعتبارات من بينها اللحظة التاريخية التي أنشر فيها المقالات أو الكتاب فقد تحصل ظروف سياسية أو اجتماعية قد يساء فهم ما كتبته لو نشر في هذه اللحظة أو قد يؤول أو يستغل استغلالات أنت لا ترمي إليها وبالتالي حصل كثيرا أن حذفت بعض المقاطع من مقالات نشرت في لحظات سياسية متأزمة وخشيت أن تؤول، أو يساء فهمها أو استغلالها فالقارئ في لحظة النشر يحضر عندي بقوة، أما أنواع القراء الذين تقصدهم، فلا ينبغي أن يغيب عن بالك أن قرائي ليسوا من البحرين فقط بل قرائي الأساسيين أو الأوائل - مثقف كنادر كاظم عرف خارج البحرين أكثر مما عرف داخل البحرين- فهناك القارئ العربي وهو قارئ يتابع بحرص نادر كاظم منذ المقامات والتلقي إلى تمثيلات الآخر إلى الكتب المتأخرة، هذا القارئ بشكل عام من الممكن تصنيفه على أنه قارئ إيجابي يتفاعل مع ما أكتب ويتعاطف ويقدر ويدرج كتاباتي على أنها كتابات ريادية في النقد الثقافي، أما القارئ البحريني بصورة عامة فبحكم طبيعة الأمور أن هناك انقسامات هائلة في المواقف السياسية، ومن يريد أن يكتب شيء لا لون له ولا رائحة ولا طعم فبالتالي سيكتبه وستكون الاستجابة فيه موحدة، إذا أردت أن تكتب شيئا له قيمة ويقول شيئا ويتخذ موقفا، ويقدم نقدا لجهة معينة، أو لموقف معين فإنه في الأخير عليك أن تتقبل انقسام القراء حولك وهذا حدث فهناك قراء معجبون بنادر كاظم وهناك قراء متعاطفون معه ويتابعونه بحرص في المقابل أعرف أن هناك قراء متحاملين على نادر كاظم ويقرؤون ما يقرأ بشيء من الامتعاض لأنه يختلف عنهم في المواقف والطروحات النظرية أو الفكرية أو السياسية، فهذا موجود وذاك موجود وأنا أكتب ما أعتقده وما أراه صالحا للنشر وما أرى فيه مصلحة عامة للجميع في البلد على الأقل.

ألا تحيل التعددية الثقافية إلى حالة من تكريس الثيمات الخاصة والعصبويات واللجوء لداخل الجماعات والانحياز للذات في ظل عالم معولم كل يرى فيه الأخر كما يشاء؟

-هذا سؤال طرح أكثر من مرة بالذات حين بدأت أكتب حول التعددية الثقافية وسيثور الجدل حوله أيضا مع صدور الكتاب، بل ثار الجدل حوله مع صدور كتاب استعمالات الذاكرة لأن الأخير طرح الصيغة السياسية للتعددية الثقافية وهي الديمقراطية التوافقية، هو اتهام شائع للتعددية الثقافية أنها تكرس وتجذر الانقسامات الاجتماعية الدينية أو العرقية أو الطائفية فالعصبيات الدينية والطائفية بصورة عامة حين يكون لها شيء من الاعتراف من قبل الدولة يعطيها نوعا من الاستمرارية هذا واحد من الاتهامات الشائعة للتعددية الثقافية وطرح في أكثر من بلد ولا يدور النقاش حول البحرين فقط لأن التعددية الثقافية طرحت في كندا واستراليا وفي بريطانيا دار الجدل حول هذه القضية، وينبغي أن يكون الأمر واضحا فيما يتعلق بالتعددية الثقافية فهي بالمستوى الأول صيغة من صيغ التوافق السياسي أو الاجتماعي لبلد عجز عن إنجاز وحدته الوطنية عجز عن إنجاز اندماجه القومي وبالتالي هناك جماعات متجذرة في الأرض والجماعات هذه من الصعب الآن أن تعمل خضة وعملية دمج بالقوة والقسر لهذه الجماعات في جماعة واحدة لتكون وحدتها الوطنية أو الانصهار القومي هذا النوع من المجتمعات المبتلاة بالانقسام المزمن لا شفاء لها إلا بأن تبحث لها عن صيغ توافقية تمكنها من التعايش فيما بينها، التعددية الثقافية إحدى هذه الصيغ الديمقراطية التوافقية ، وفي تطبيق التعددية الثقافية ينبغي أن يكون هناك مستويين الأول يتعلق بصيغة الحقوق المدنية والسياسية العامة وهي حقوق موحدة لا تختلف باختلاف الجماعات وانتماءاتها فهذه حقوق موحدة، والاختلاف يجري في الحقوق الثقافية المرتبطة بالدين وبالمذهب وبالقومية وبالعرق وبالأمور التي عليها خلاف ثقافي وتختلف الجماعات فيما بينها في هذه الحقوق هنا الصيغة المطروحة في التعددية الثقافية هي المعاملة المتفاوتة والمتمايزة في أن يكون لكل جماعة حقوقها التي تختلف عن الحقوق الثقافية التي لجماعة أخرى.

العدد 2568 - الأربعاء 16 سبتمبر 2009م الموافق 26 رمضان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً