في هذا اللقاء لفرصة لنا أن نحاور الأكاديمي المتخصص في اللسانيات وتحليل الخطاب بالجامعة الأردنية الناقد هيثم سرحان، وذلك في إطار قراءته للمدونة السردية القديمة، والذي وجد أن حجم الخطابات، في التراث، يكشف عن حيوية البنى المعرفية وخصوبة السياقات وفاعلية المتخيّل الثقافي»
تتلخص حكاية هذا اللقاء في أنه بينما كنت أتصفح باحثا في جنة السرد وآليات القراءة، عثرت على كتاب «الأنظمة السردية» لهيثم سرحان فشدني «وتأملت أن أعرّف قرّاء الملحق الثقافي «فضاءات» بهذا الجهد من خلال لقاء أحاول فيه تسليط الضوء على سر ذهاب الرجل نحو المدونة السردية، وملامح المنهج السيميائي الذي شدَّه أن يقارب به هذه المدونة، وتبشيرات هذا المنهج وفتوحاته، وأهم مكتشفاته في المدونة العربية وأهم التمثلات التي وجدها في المدونة خلال رحلته النقدية.
عكفتم على قراءة المدونة السردية عبر كتابكم «الأنظمة السيميائية» ما سرّ ذهابكم نحو المدوّنة السردية القديمة وقراءتها سيميائيّا؟
- أعتقد أنّ المدونة السردية العربية أعمق أثرا، وأغنى نصوصا، وأكثر تنوعا، وأشمل تمثيلا من المدونة الشعرية التي تراجع تأثيرها المعرفي بدءا من الإسلام. ولعل فحصا دقيقا للعبارة الذائعة «الشعر ديوان العرب» سيفضي إلى أنّ الشعر كان ديوان العرب وسجلا لمآثرهم وأخبارهم وأيامهم وبطولاتهم في الجاهلية. أما الإسلام، وبفعل المثاقفة اللسانية والمعرفية مع الشعوب الأخرى، فقد افتتح ديوانا جديدا هو «النثر» حيث حاجة الدولة إلى منظومة معرفية جديدة مؤسسة على العقل والمعاني الدقيقة خلافا للشعر المؤسس على الانفعالات والغموض والمبالغات. طبعا هذا الكلام لا يعني بأي حال الانتقاص من أهمية الشعر ومكانته في الوجدان الثقافي العربي.
وإذا كان أبو العباس المبرد قد سوّغ استشهاده بأشعار المولدين بـ«أنها أشكل بالدهر» فإنّ المدونة السردية العربية قد أصبحت، بدءا بالإسلام، أقدر على تمثيل هواجس الإنسان ومشكلاته وأحلامه؛ لأنها أشكل بالدهر.
أما ما يتعلّق بالشطر الثاني من السؤال فالجواب عنه أنّ القراءة السيميائية تتجاوز الأنساق إلى السياقات، فهي تتعامل مع النصوص بوصفها علامات مفتوحة تحيل إلى المرجع والعالم خلافا للبنيوية التي تنظر إلى النصوص بوصفها علامات مغلقة لا تحيل إلاّ إلى البنية، وخلافا للتفكيكية التي تنظر إلى النص بوصفه مجموعة دوالّ لا تملك أية إحالة أو مرجع، وخلافا للنقد الثقافيّ الذي يبحث في الظواهر والنصوص عن أنساق مضمرة طلبا لرؤى كلية.
ما حدود المدونات السردية التي تم قراءتها وتفحصها في كتابكم «الأنظمة السيميائية في السرد العربيّ القديم»؟
- حاولت الاشتباك مع المدونة السردية بحدودها التاريخية، والأسطورية، والأدبية، والقُدسيّة (المُقدّس)، والإنسانية؛ للكشف عن تمثّلات الأسطورة، والسُّلطة، والأنسنة، والجنس. ولعلّ هذه التجربة منحتني فرصة الاطّلاع على التقاطعات المعرفية بين الأدب وحقول المعرفة الأخرى، وهي تقاطعات غنية تقدّم للباحث رؤى وتصوّرات ضافية. وأشير مثلا إلى كتب الأخبار التي تُعدُّ كتبا في الرواية التاريخية في حين أنها ملآى بالمفاهيم المنتمية لعالم الأدب، وهذه القضية تفتح إشكالية التأليف الموسوعيّ، في الثقافة العربية القديمة، على مصراعيها، وإذا أخذنا، على سبيل التعيين، كتابي «أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار للأزرقيّ» و«المنمّق في أخبار قريش لابن حبيب البغداديّ» سنجد أنفسنا أمام مادة معرفيّة غاية في الثراء.
في ظل تعدد المداخل المنهجية، ما أهمّ ملامح المنهج السيميائيّ الذي اخترتموه في البحث؟
- المنهج السيميائي من مناهج «ما بعد البنيوية»، وهي المناهج التي ترفض مبدأي انغلاق البنية وموت المؤلف، وبهذا المعنى فإنّ هذه المناهج حاولت استكمال مبدأ البنية، الذي قالت البنيوية بانغلاقه، من خلال البحث في مقاصد المؤلف، وسياقات العلامات، والأثر الذي تحدثه دلالات النص في المتلقي تمهيدا لتحقيق الاستجابة، علاوة على انشطار دوالّ البنية وتشظيها.
ولعلّ السيميائية تقف موقفا متوسّطا بين هذه المناهج؛ فهي بنيوية من حيث إنها تقوم على رصد العلامات النصّية، وهي سياقيّة من حيث إنها تسعى للكشف عن سياقات العلامات ودلالاتها في الثقافة والمرجع والوجود، وهي ابستمولوجية من حيث إنها تقدّم تفسيرا لإنتاج المعنى. وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ مخطط جاكبسون هو محور الجدل بين المناهج النقدية. وكبقية المناهج فإنّ السيميائية، بوصفها منهجا، قد تعرّضت للتصدّع؛ إذ تشكّلت داخلها اتجاهات متعددة؛ فهناك اتجاه السيميائيات المنطقية ويمثّلها «سوندرس بورس»، وهناك السيميائيات التواصلية ويمثّلها التداوليون وخاصة شارل ويليام موريس، وهناك السيميائيات البنيوية التي يمثّلها رولان بارت وجوليا كرستيفا، وهناك السيميائيات التأويلية التي يمثلها توفيق بكار وغريماس وعبدالفتاح كيليطو، وهناك سيميائيات التلقي ويمثلها أمبرتو إيكو، علاوة على السيميائيات الثقافية التي ترى أنّ فعل الثقافة هو مولّد الأنظمة السيميائية وتمثّلها مدرسة موسكو.
وبهذا المنهج المستند إلى علامات النصّ يمكن تفسير المعنى الممتدّ من مقاصد المؤلف مرورا ببنية النصّ وسياقات العلامات وانتهاء بتأويل القارئ.
حفل النظر للتراث العربي بالتلازم بين الشعر والمنظور الشفاهي، ما حدود التلازم بين الشعرية والشفاهية في المدوّنة العربية القديمة وما أثره في راهن الثقافة العربية الآن؟
- لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هناك عوامل وأسبابا أدّت إلى صعود الشعر، ومن أبرزها ما أشرت إليه وهو الشفاهية، وهناك عامل آخر أدى لتعظيم مكانة الشعر وهي أنه مادة لغوية أساسية في تفسير النصّ القرآني، وهنا تكمن مفارقة جوهرية فإذا كان الشعر العربي «ديوان العرب» في جاهليتهم وصدر إسلامهم فإنّ المسلمين لجأوا إليه لتفسير غوامض القرآن المقدّس؛ لأنهم لا يملكون نصّيات غيره، علما بأنّ محمولات الشعر تخالف محمولات النص القرآني الدلالية، علاوة على أنّ النصّ القرآني شدد في مواطن كثيرة على قطيعة مع الشعر.
«الثقافية العربية لم تحسم خياراتها بين الشفاهية والكتابة حتى الآن»
ومن المعروف أنّ توافر نظامين معرفيين في ثقافة واحدة يؤدي إلى اختلالات منهجية على رغم أنّهما يتيحان غنى معرفيّا وفنيّا؛ فالشفاهية تعتمد السماع والانفعال والعاطفة (وهي أم الملكات بحسب ابن خلدون)، والكتابة تعتمد القراءة والتدبّر والفهم والعقل (وهي الصناعة التي يقوم عليها الـمُلك). والحاصل أنّ الثقافة العربية لم تتمكن من حسم خياراتها في هذا الشأن حتى يومنا هذا. لقد أدرك المسلمون الأوائل أنّ بناء الدولة يحتاج إلى صناعة الكتابة وما يترتب عليه من تعريب ودواوين. ولعلّ هذا ما يفسّر سلوك الأمويين عندما قاموا بتعريب الدواوين على رغم أنّ دولتهم كانت «عربية أعرابية» كما قال الجاحظ، وسلوك الخليفة العباسيّ أبي جعفر المنصور الذي لم يُقرّب الشعراء من مجلسه ولم يعطهم من المنح والعطايا ما كانوا يحصلون عليه في عهد بني أمية، بل على العكس من ذلك فإنّ المنصور كان يحسد الأمويين لأنّ الله قيّض لهم عبدالحميد الكاتب الذي عزّز دعائم ملكهم. وللمرة الأولى في العصر العباسيّ، تراجعت منزلة الشعراء وتقدمت منزلة الكتاب على رغم ازدهار الشعر وتطوّره.
من قراءتكم للمدونة السردية، ما الخطابات التي يرسمها السرد العربي القديم ولايزال أثرها مهيمنا حتى الآن؟
- كأنّ سؤالك يفترض أنّ الثقافة العربية المعاصرة هي امتداد للماضي. هذا الكلام ليس دقيقا ذلك أنّ الثقافة العربية القديمة أغزر إبداعا من ثقافتنا المعاصرة، وهذا يعني أنّ حجم الفاعلية الإنسانية كان أكبر بكثير مما هو عليه الآن على رغم التطورات الهائلة التي نعيشها في زمن الثورة الرقمية وعصر العولمة بما يتيحه من انفتاح وتواصل.
ما شدّ انتباهي في المدونة السردية القديمة ما أُطلقُ عليه «خطابات النوازل والمحن» التي كانت تحلّ بالعلماء، والفقهاء، والتنظيمات الاجتماعية، والطوائف، والفِرق، والخلفاء، والخلعاء، والـمُجّان، علاوة على خطابات السلطة، والجنسانية، والجنوسة، والفساد الديني، والفقهي، والقانونيّ.
ولعلّك تتفاجأ إذا ما علمت أنّ حجم الخطابات، في التراث العربيّ، يفوق حجمها في الثقافة العربية المعاصرة، وهذا يكشف عن حيوية البنى المعرفية وخصوبة السياقات وفاعلية المتخيّل الثقافي وحركية القوى الاجتماعية وجدلية المفاهيم وجمالية الإبداع الخلاّق.
لكل منهج تبشيراته وفتوحاته ما تبشيرات الدراسة السيميائية والفتوحات التي تعد بها على النقد العربي المعاصر؟
- «السيميائيات تتسم بطبيعة تجريبية»
على رغم حداثة السميائيات إلاّ أنّ استقبالها، في النقد العربيّ المعاصر، ترجمة وتنظيرا وتطبيقا كبيرٌ جدّا. ولا أبالغ إذا ما قلت: إنّ رواج السيميائيات وحضورها أكبر من المناهج النقدية الأخرى، السبب في ذلك أنها في جانب كبير من مستوياتها تُعدّ نقدا للعلم والمعرفة، فهي تتمتع بقدرة فائقة على الانفتاح على حقول العلوم الإنسانية النظرية والمعارف التطبيقية. إضافة إلى أنّ السيميائيات تتسم بطبيعة تجريبية فهي ليست فلسفة ثابتة وإنما هي مجال رحب لنقد العلمية التي تدّعيها المنهجيات. وهي عندما تقف موقفا متوازنا بين اللسانيات والمنطق من جهة والإيديولوجيات من جهة أخرى فإنها تقوم بجسر الهوّة السحيق بين تطرّف العلم وهذيان الإيديولوجيا.
لقد أفاد النقد العربيّ المعاصر من السيميائيات منذ عقد الثمانينيات في القرن الماضي بفعل صعود نظرية الأدب والمناهج النقدية، وبفعل موت الإيديولوجيا، وما بعد البنيوية. ولعلّ المتبصّر في سيرورة السيميائيات يجد أنّ لها حضورا تطبيقيّا أكبر من غيرها بكثير، كما أنّ نجاعة تطبيقاتها في الأدب وغيره بارزٌ بشكل لافت. كما أنّ عددا كبيرا من الباحثين والنقاد اللامعين قد تأثر بها واتخذها منهجا في دراساته ومقارباته ومن أبرز هؤلاء تمثيلا لا حصرا: نصر حامد أبوزيد، ومحمد مفتاح، وسعيد بنكراد، ورشيد بن مالك، وسيزا قاسم، وعبد الحميد بورايو، وعبد الفتاح كيليطو، وأحمد يوسف، وتوفيق بكّار، وعادل فاخوري، وسعيد الغانمي، وأنطوان أبو زيد، ومعجب الزهراني، وحنون مبارك، وعبد الملك مرتاض، ومحمد منصور أبا حسين، ومحمد الداهي، ورشيد الإدريسيّ، وبشير تاوريرت، وفيصل النعيمي. أما المجلات المتخصصة فيكفي الإشارة إلى مجلة دراسات أدبية ولسانية (فاس)، ومجلة سيميائيات (وهران)، وعلامات (مكناس)، وبحوث سيميائية (الجزائر) علاوة على مختبرات الدراسات السيميائية في أكثر من مدينة عربية. أما مجالاتها التطبيقية فتمتد من الخطاب السرديّ إلى الشعر إلى الإعلان، والمسرح، وجميع الأنشطة والفعاليات الإنسانية.
ما أهمّ التمثّلات المكتشفة خلال بحثك في السرد التي عبّرت بها النصوص عن أهم مكونات المجتمع العربي؟
- سؤالك يستدعي نظرية الانعكاس التي يقول بها الماركسيون وهي أنّ البنيات النصّية ليست إلاّ صدى للبنيات الاجتماعية والإيديولوجية، ولن أخوض في هذا التصوّر الإشكاليّ لكنني أفترض أنّ النصوص الأدبية تتجاوز تمثيل الواقع إلى بناء تخييل له. بمعنى أنّ الأدب لا يماهي بين وجود الأشياء في الواقع وصورتها في النصّ الذي يُفارقُ دوالّه الواقعية، ليغدو مجالا لإنتاج الدوال. فالنص يقطع مع الواقع بالقدر الذي يحيل إليه.
أمّا التمثّلات التي وقفت عليها فهي تمثّلات الأسطورة، وتمثّلات السلطة، وتمثّلات الأنسنة، وتمثّلات الجنس. وفي تمثّلات الأسطورة حاولت إعادة تركيب صورة المكان المقدس في السرد القديم، ولعله من الشائق أنّ أشير إلى أنّ للبيت الحرام أكثر من صورة ويعتمد الأمر على السرد التاريخيّ الوصفيّ وعلى السرد الأدبي العجائبي حيث تتمازج عناصر التخييل والتمثيل. وكذلك الشأن في رحلة ابن عربي إلى القدس حيث المفارقة الكامنة بين مستوى المعراج الصوفيّ والرحلة الواقعية بما تتضمنه من عبور المفازات ومواجهة الأخطار. والأمر نفسه يتعلق ببئر زمزم ومائه حيث نكتشف تعظيما وأسطرة لهذا المتخيل السردي بما يعاظم من حضوره في الوجدان الثقافيّ عند المسلمين. أما تمثلات السلطة فقد بحثت في تشكّلات المفاهيم الجامعة بين السلطة والمثقف. وأما تمثّلات الأنسنة فبحثت في نموذجي البخل والصداقة لاستخراج القيم الإنسانية وحضورها في التراث السرديّ. وأما تمثّلات الجنس فكانت بحثا في الجنسانية العربية ومحاولة لتوصيف المفاهيم والتصوّرات.
أخيرا ما أهم بحوثكم المقبلة وأهم مجالاتها؟
- أعكف حاليا على كتاب يتناول «الخطاب الجنسيّ في الأدب العربيّ القديم» أحاول فيه إنتاج جملة من التصوّرات والمفاهيم والرؤى التي تشكّل نظام الجنسانية العربية. ولعل المفارقة التي تنبغي الإشارة إليها تكمن في أنّ الأدب العربيّ القديم بمدوّناته؛ الشعرية والنثرية واللغوية والنقدية يحفل بالنصيّات الهائلة والخطابات الكبرى التي لا تملك توصيفا، والسبب في ذلك عدم امتلاك القدامى مفاهيم نقدية وتصورات منهجية ناظمة. ولا أدري إذا كان من المؤلم أو المفرح أنّ يكون كشف تراثنا محتاجا إلى منهجيات الغرب في إطار تفاعل حادّ يرافقه من الجدل الصاخب حول المنهج ما يعوّق لذائذ الكشف والتأويل.
العدد 2582 - الأربعاء 30 سبتمبر 2009م الموافق 11 شوال 1430هـ