العدد 273 - الخميس 05 يونيو 2003م الموافق 04 ربيع الثاني 1424هـ

عقبات

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

حتى الآن تبدو الوعود الأميركية مجرد وعود تستنسخ إدارة بعد أخرى والباب لايزال موصدا أمام «حل» لا يحتاج إلى كل هذا العناء واللف والدوران. الحل يحتاج فقط إلى ضغوط دولية ـ أميركية جديدة على «إسرائيل» تفرض عليها تطبيق قرارات صدرت في هذا الشأن.

الوعود الأخيرة كانت تلك التي صدرت عن لقاء ميناء العقبة. ويبدو من منطق الوعود أن أمامها الكثير من القمم والعقبات حتى تصل إلى حد أدنى... والحد الأدنى بحاجة إلى أدنى ليصل إلى الحد الذي يناسب «إسرائيل». وما يناسب «إسرائيل» غير واضح حتى الآن على رغم مرور أكثر من نصف قرن على تأسيسها. ماذا تقول الوعود الأخيرة؟ الرئيس الأميركي أكد التزامه بقيام «دولة فلسطينية» ووافقه رئيس الحكومة الإسرائيلي الرأي. هذا كلام عام. الكلام الخاص يحتاج إلى دقة أكثر، وأكثر من الدقة التدقيق في الكلام. دولة فلسطينية لا تعني الشيء الكثير في الكلام المجرد، لأن السياسة تقتضي السؤال عن حجم تلك الدولة، مكانها، موقعها، مساحتها، حدودها، هويتها، حريتها وسيادتها واستقلالها.

ترافق الكلام المجرد عن «دولة فلسطينية» بكلام آخر يعطي فكرة عن هذه «الدولة». قال ارييل شارون إنه يعد بأن تكون الدولة «متصلة جغرافيا». ماذا يعني الكلام عن الاتصال الجغرافي؟ الدولة متصلة جغرافيا بمن... بالبحر، بالنهر، بالأردن، بفلسطين 1948، أو ـ وهذا هو الأهم ـ متصلة ببعضها بعضا؟

هل الكلام عن الاتصال الجغرافي يعني أن شارون تكفل بتوسيع الطرقات التي تربط مدن الضفة الغربية ببعضها؟ والكلام هذا يعني ضمنا أن المستوطنات الإسرائيلية (150 مستوطنة) باقية في مكانها ولن تقدم تل أبيب على تفكيكها. فالتفكيك غير وارد كما يبدو من الكلام المبهم، الأمر الذي يفتح باب الطرقات الالتفافية مجددا ضمن ملف مختلف عن المرة الأولى. سابقا ادعت «إسرائيل» أنها لا تستطيع الانسحاب من الضفة الغربية بذريعة حماية أمن مستوطناتها... وحتى تضمن أمن مستوطناتها كان لابد من إقامة المتاريس والحواجز ونقاط التفتيش والثكنات والمخافر في الأعالي والمرتفعات. وأمن المستوطنات قضى أيضا باعتماد سياسة الربط بين مستوطنة وأخرى باختراع ما عرف لاحقا بالطرقات الالتفافية التي تلتف حول المدن والقرى الفلسطينية وتكون بإشراف القوات الإسرائيلية ورعايتها. هذا الالتفاف حوّل الضفة الغربية إلى ما أطلق عليه «جلد النمر»، فكل بقعة فلسطينية محاطة بطريق التفافية وكل طريق التفافية تربط مستوطنة بأخرى، الأمر الذي وصل المستوطنات وقطع الطرقات على الفلسطينيين وعطّل إمكانات تحركهم من قرية إلى أخرى ومن مدينة إلى أخرى.

الآن يعد شارون بدولة فلسطينية متصلة جغرافيا. أي أنها في أحسن حالاتها ستكون دولة مرتبطة ببعضها من طريق طرق التفافية تلتف بدورها حول المستوطنات والحواجز ونقاط التفتيش والثكنات في الأعالي والمرتفعات. وهكذا، إذا صدقنا كذبة شارون، ستكون الضفة الغربية أشبه بخرائط طرق التفافية واحدة تربط المستوطنات وأخرى تربط قرى ومدن «الدولة» ببعضها.

لا يقتصر اللف والدوران على الكلام الفضفاض والهوائي عن دولة فلسطينية متصلة جغرافيا، بل يذهب اللف والدوران إلى مسألة المستوطنات. فشارون وعد بوش بأنه سيعمل (يبذل جهده) من أجل إزالة «المستوطنات العشوائية».

الوجه الآخر لمثل هذه الألفاظ يعني ضمنا أن شارون إذا صدق (وهذا احتمال غير وارد) سيقوم بإزالة المستوطنات «العشوائية» ويبقي على المستوطنات غير العشوائية. وماذا يقصد من كلامه؟ فهذا سر لا يدركه إلا العارفون في شئون علم الغيب. ماذا يعني بـ «العشوائية»؟ هل يقصد تلك التي أقيمت حديثا من دون إذن حكومته بدءا من شهر ابريل/ نيسان الماضي (بعد احتلال القوات الأميركية للعراق) حين تحدت مجموعة من المستوطنين كلام شارون وطلبه بعدم استفزاز الدول العربية (أو إحراجها) بعد ضرب العراق واحتلاله؟... أم المقصود المستوطنات التي أقيمت بعد اندلاع الانتفاضة الثانية قبل أكثر من سنتين؟ أو تلك التي أقيمت في عهد إيهود باراك، أو بعد توقيع اتفاق شرم الشيخ، أو القاهرة، أو اتفاق البيت الأبيض (عهد بيل كلينتون)، أو ذلك الاتفاق الذي تم توقيعه في أوسلو (قبل عشر سنوات) وتعهدت فيه «إسرائيل» بإزالة «المستوطنات السياسية» كما قال يومها رئيس حكومتها آنذاك اسحق رابين؟

المسألة إذا لفظية. والاختلاف بين رابين وشارون عشر سنوات من تكرار توقيع الاتفاقات والتعهدات والوعود بأن «إسرائيل» ستعمل (ستبذل جهدها) على إزالة المستوطنات غير الشرعية (وكأن المستوطنات الأخرى شرعية) وحتى الآن لم يتغير في الميدان سوى الكلام: رابين وعد بإزالة المستوطنات «السياسية» وقُتل قبل أن يفي بوعده، وشارون يعد الآن بإزالة المستوطنات «العشوائية» وحتى الآن لم يوضح ماذا يقصد بالعشوائية مثله مثل سلفه رابين الذي رحل قبل أن يشرح معنى مقصده من كلمة «المستوطنات السياسية».

الكلام إذا لا معنى له، والوعود هي مجرد وعود ويمكن تجاوزها في كلام آخر ووعد آخر مادامت الولايات المتحدة باتت الآن في موقع واحد من ناحية عدم الانتصار للشرعية الدولية، ورفض الاستماع إلى آراء ومصالح الدول الكبرى... وأخيرا التمرد على ميثاق الأمم المتحدة وما يصدر عن مجلس الأمن من قرارات. أميركا الآن تساوت مع «إسرائيل» في قلة احترامها للشرعية الدولية وميثاق الأمم المتحدة واتفاقات جنيف... وبالتالي أصبحت في موقع لا يحق لها إلزام الطرف الآخر بالنصوص في وقت هي باتت لا تحترم النصوص وتفضل استخدام القوة لفرض شروطها ونصوصها.

انتهى الآن لقاء العقبة على وعد... وهناك بعد الآن الكثير من العقبات حتى نصل إلى الحقيقة. والحقيقة ليست في الكلام المبهم والعشوائي بل تؤخذ من التجربة. ومختلف التجارب علمتنا في ميدان السياسة أن «إسرائيل» دولة غير شرعية ومن يفتقد الشرعية لا يستطيع أن يعطي الشرعية لغيره

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 273 - الخميس 05 يونيو 2003م الموافق 04 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً