العدد 284 - الإثنين 16 يونيو 2003م الموافق 15 ربيع الثاني 1424هـ

لماذا هذه الخفة في تأييد سياسة التهديدات؟

حتى لو فرض القانون ستبقى الأرض تدور!

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

الأحاديث والتصريحات كثيرة هنا وهناك، بين رفض قاطع لتهديدات وزير الإعلام من جانب الصحافيين والمؤسسات الحقوقية، وبين مسارعة للإعلان عن موقف التأييد المخلص من جانب رئيس مجلس النواب والنائب المعاودة، وخطورة موقف الرجلين ان القانون يراد تمريره من خلال المجلس قفزا على رؤوس الجميع، ولترغم أنوف الجميع! لكن وراء ما يجري على الملعب الصحافي هناك البعد الاجتماعي في القضية وانعكاسه على مستقبل البلد، فلا هي مسألة طائفية كما أرادوا إيهامنا، ولا هي قضية صحافيين يطالبون بأن يكونوا فوق القانون، ولا هم يحزنون... وإنما عندما يصل الأمر إلى النقاش الجاد يأتي دور التهويل والتهديد، ومحاولة إشغال الناس بالحديث عن موضوعات مستنسخة من هنا وهناك!.

ولكن الأرض تدور!

من منكم لم يقرأ قصة جاليليو مع كهنة العصور المظلمة؟ حتى تلاميذ وتلميذات المدارس الابتدائية قرأوا قصته. فكهنة القرون الوسطى كانوا قد تلقوا معارفهم القديمة المتوارثة من ألفي عام، وكانوا يعتقدون بان الشمس تدور حول الأرض التي تمثل مركز الكون، كما كان يقول علم الهيئة القديم من أيام الاغريق. وبما انهم يعتبرون أنفسهم سدنة العلوم وورثتها الشرعيين و«مركز الأرض»، فهم وحدهم قطب الرحى الذين يحق لهم ادخال من يشاؤون إلى حظيرة المعرفة، والقذف بمن شاؤوا في النار. ومن هنا يريدون أن يفرضوا تصوراتهم للكون والحياة على الجميع. وإذا كان أسلوب التهديد والوعيد لا يفلح مع الكل، فإن البعض يضعف أمام التلويح بالنار المحرقة، وخصوصا إذا ما شاهد سواه تلتهمه النيران، فيضطر تمويها لا اقتناعا إلى أن يقول «انكم افضل كهنة في التاريخ»! وهكذا لم يجد جاليليو بدا من الانحناء للعاصفة، ليس إيمانا بأقوال القساوسة، وإنما خشية من الإحراق. القساوسة ذهبوا في التاريخ مثلا يضرب على العنجهية والغرور ومقارعة الهواء، بينما ظلت الكلمة التي اطلقها جاليليو في غيظ مكتوم عند خروجه من محكمة التفتيش باقية ما بقي الدهر: «ولكن الأرض تدور». فأنت بإمكانك أن ترهبني بالسوط الذي تحمله بيدك، ولكنك أعجز من أن تقنعني بأنك على صواب، بل وتضيف دليلا آخر على ضعفك عندما تلجأ إلى الكرباج.

تهديدات في زمن الإصلاح؟

متى ندرك العبرة يا ترى؟ متى نعرف أن طريقة الفرض والتهديد والتلويح للصحافيين بان القانون يلاحقهم، وأن هناك رقيبا يتربص بهم من وراء الستار، على طريقة المخابرات، تعود بالوضع إلى الوراء؟ ولا أدري لماذا الإصرار على هذا الأسلوب القديم في التعامل مع الناس في فترة تجاوزنا فيها قانون أمن الدولة، وفي وقت غدا الإصلاح هو الكلمة الأكثر تداولا على الألسن وفي الصحف والندوات. لا أدري لماذا يرتاح البعض إلى أسلوب التهديد والوعيد، ولا يرتاح إلى طريقة التفاهم والحوار والأخذ والرد، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بحياة مئات الآلاف من أبناء البلد ومستقبله ولا يقتصر الأمر على مصالح وحياة العشرات أو المئات.

ولكي لا يتقوّل على الصحافيين من يحب أسلوب الوشاية والتقولات: لم يقل صحافي انه خُلق من طينة أخرى، وانه فوق المساءلة والقانون، بل انهم من أول المطالبين بتطبيق القانون على الجميع، لأنهم من أكثر المستفيدين من الاحتماء بمظلته، ولكن على ألا يكون القانون ممن ينظرون بعين واحدة، فيعامل الصحافي على أساس التهمة ويأخذه بالظنة. كما أن الصحافي الشريف من أكثر المدركين لمسئولية الكلمة وخطرها، إضافة إلى ان مهنته ليست كأية مهنة، فهو جندي محارب، لا يحمل في يده بندقية ولا سلاحا أبيض، وإنما قلما يخوض به كثيرا من المعارك، لا من أجل نفسه وعائلته ومصالحه، وانما من أجل الصالح العام حين يضع مصلحة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار، وهو الأمر الذي يشيب فيه الصغير ويهرم فيه الكبير على امتداد العالم العربي المكبل بالقوانين. ومادام الصحافي يعيش في وضع استنفار كهذا، فلابد من أن يطالب بحماية وهو يمارس مهنته، لا أن يجد نفسه في مواجهة قوانين ملغومة، وأناس يتربصون به الدوائر، فهو متهم ملعون، حتى يثبت العكس.

الصحافي الشريف في بلداننا يخوض حروبا ومعارك نيابة عن قطاعات كبيرة من الشعب الذي لا يُسمح له بالنطق، ولا يراد له أن يفهم ما يجري، ولا يُطلب منه غير البصم على الأوراق البيضاء. فإذا أتيحت له مساحة ملعب كرة سلة ليعبر فيها عن نفسه ركض الراكضون وهوّل المهوّلون لمحاصرة هذا البلاء (البدعة)، وفُصّلت القوانين لتطويق هذه الضلالة «التي ما سمعنا بها في آبائنا الأولين»!

محسودون على ملعب السلة!؟

الصحافي يعمل في بيئة تنتشر فيها الأمية القرائية والثفافية، يجهل الناس فيها حقوقهم وواجباتهم، ولا تتوافر مؤسسات تحمي حقوقهم، فلا يجد 140 عاملا حائرا خائفا على مصير عائلته من العاملين البسطاء في إحدى وزارات الدولة، فيسعون إلى تكوين نقابة للدفاع عن أنفسهم ومصيرهم ومستقبل أولادهم، وهم يرون بعبع البطالة يهددهم بالافتراس، فإلى من يلجأون؟

اننا ندفع ميراث قرن من الممارسة الصحافية في بلداننا العربية اليوم، التي لعبت عن طيب خاطر دور الدفاع عن مصالح المواطن البسيط، الذي يرى فيها الملجأ الأخير عندما يجد القانون لا يطبق إلا على الفقراء وأصحاب الجيوب الخاوية والظهور الضعيفة.

الصحف أصبحت منفذا يوصل فيه المواطن النكرة صوته إلى المسئول عندما تسد أمامه الأبواب ويكثر الحُجّاب وينقطع الرجاء في حل مشكلاته مع الاسكان وانقطاع الماء والكهرباء وفيضان المجاري وانتشار البعوض في موسم المطر...

الصحافة ليست ترفا ولا حياة هانئة مريحة، ولا وجاهة اجتماعية يتوارثها المرء عن أبيه أو تأتيه بالمجان. الصحافة التزام قبل كل شيء، ولذلك لا يحظى الصحافي باحترام القراء إذا كان يراوغ ويناور ويداهن، ولا يجيد غير تدبيج كلمات المديح وترديد أغنية: «ليس بالمقدور أفضل من الموجود».

التضييق على الصحافة تضييق على المواطن الذي تدافع عنه هذه الصحافة، وخنق لبقية الأمل الموجود بتحسين الأوضاع ونقلها إلى مستوى أفضل يحلم به المواطنون.

وإذا كان من المستحيل أن يفسح للناس باللعب في ملعب كرة قدم فليُتركوا يمارسون حياتهم في ملعب باتساع كرة السلة، ولماذا كل هذا الإصرار على إعادتهم إلى طاولة التنس، هل هي الرغبة في العودة إلى صحافة الرأي الأوحد والأجمل والأفضل والأكمل، إذ تطلق النكتة فلا يبتسم لها أحد، وترى شلة الحواة الراقصين من دون ألحان! فاتركوا الناس تتنفس، ليس من أجلنا نحن الصحافيين الذين لا يزيد عددنا على 300 مواطن، وإنما من أجل هذا الشعب الذي نتحدث عنه وننقل قضاياه، ومن أجل الجمعيات السياسية التي تتحرك في الساحة وتضم الآلاف، ومن أجل مستقبل أفضل يحلم به الجميع، لئلا تعود الصحافة للعب دور المهرج أو المصفّق أو الراقصة اللعوب.

وإذا كان النائب المعاودة، والرئيس الظهراني أسرعا في دعم تصريحات وزير الإعلام، فذلك ما نعتبره تسرعا غير جميل من سعادتيهما، ولنا مع التأييد المتسرع تجربة مرّة في السابق، ففي أول صدور القانون المتنازع عليه بين وزير الإعلام وبين المؤسسة الصحافية، هبّ البعض يهنئنا معاشر الصحافيين على مدار يومين كاملين في كتاباته بصدور هذا القانون العظيم، فلما قرأه أصحاب العلاقة ونشروا ما فيه انقلب السحر على الساحر، وأعيد القانون للمراجعة من جديد . فهل هي عملية تسرع أم غفلة أم استغفال؟

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 284 - الإثنين 16 يونيو 2003م الموافق 15 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً