العدد 290 - الأحد 22 يونيو 2003م الموافق 21 ربيع الثاني 1424هـ

في العراق نجح بريمر وفشلت واشنطن

عصام فاهم العامري comments [at] alwasatnews.com

.

شكلت مسيرة بول بريمر الحاكم المدني الأميركي الاعلى للعراق خلال الاسابيع الماضية نوعا من الخيبة في الفصل الديمقراطي الذي عول الكثيرون على واشنطن لكتابته في هذا البلد الذي من المفترض أن يكون كرة الثلج التي تنقل الديمقراطية الى دول أخرى في المنطقة التي ظل الكثير من دولها عصية على تبني النموذج الديمقراطي، بل وتحولت هذه الدول الى مزرعة لتفريخ الارهاب في المفهوم الأميركي.

ووصلت خيبة الامل لدى البعض الى درجة برزت معها تحذيرات بين أوساط القيادة العسكرية الأميركية من انفجار انتفاضة عسكرية شاملة في العراق ضد قوات الاحتلال.

بل إن السفير جون سويزر ممثل رئيس الحكومة البريطانية في العراق والذي يعد الشخص الثاني في الادارة المدنية، انضم بدوره لمنتقدي بريمر، اذ نسبت تصريحات له وصف فيها الادارة المدنية لسلطة التحالف في العراق بقيادة بريمر بأنها أكثر المنظمات التي عمل بها على جميع المستويات فوضوية؛ وقال «إن حالة فوضى تسيطر على عملها، فضلا عن افتقارها لأي توجيه استراتيجي الى جانب نقص الكفاءة وسوء الادارة».

من جانبهم (العراقيون) لا يعلمون ما الذي ترغب فيه سلطة التحالف أو ما إذا كانت بالفعل مستعدة للقيام بمهمتها. والسياسيون من العراقيين والمحسوبين على واشنطن صاروا بدورهم أكثر حيرة إزاء توجهات بريمر وقراراته. فالرجل حال توليه منصبه في الادارة المدنية ألغى الخطط التي كان متفقا عليها بين الجنرال المتقاعد جي غارنر والسياسيين العراقيين بشأن اختيار الشعب العراقي حكومته الداخلية الخاصة به، وانتهى به المطاف الى جهة إعلان تشكيل فريق من المستشارين الذين من المقرر أن يختارهم بنفسه، ومحاولا تهميش دور القوى السياسية في العراق عمليا بعد أن كانت تصريحاته قد قللت من شأن هذه القوى.

واذا كان الكثير من القوى السياسية التي عادت للعمل في العراق بعد احتلالها رأت في قرار بريمر حل حزب البعث واقصاء كوادره من هياكل الدولة ومؤسساتها إجراءا ضروريا لتطهير الدولة والمجتمع من مفاسد النظام السابق. فإن الامر على يبدو على هذا النحو بالنسبة للكثير من العراقيين. يقول طاهر البكاء الرئيس الحالي للجامعة المستنصرية في بغداد «إن قرار حل حزب البعث شيء وتسريح أعضائه من مؤسسات الدولة شئ اخر. ويجب النظر الى هذا القرار من زاوية أن نصف مليون عراقي قد ألقوا على رصيف البطالة وأضيفوا إلى طابور العاطلين عن العمل، ومعنى ذلك أن نحو 500 ألف عائلة أو أقل فقدوا مصدر اعالتهم وعيشهم. وفضلا عن ذلك إن مثل هذا القرار المتسرع أبطأ اعادة تاهيل مؤسسات الدولة بمختلف أشكالها للعودة إلى العمل». ويضيف البكاء «وعلى سبيل المثال أكثر الجامعات العراقية فقدت من جراء هذا القرار ما بين 20 في المئة الى 50 في المئة من كوادرها التدريسية. ومؤكد أن هذه النسبة ستتضرر بها العملية التعليمية وستولد انعكاسات خطيرة».

وفي الحقيقة إن بريمر ذهب بهذا المعنى أبعد من تطهير الدولة والمجتمع من بقايا النظام السابق بدلالة الاعداد الكبيرة من الاطباء والقضاة والمهندسين الذين واجهوا الطرد مع أن معظمهم انضموا الى الحزب منذ نعومة أظافرهم ولكنهم لا يكنون له أي ود.

بدوره قرار حل الجيش ووزارة الاعلام والاجهزة الامنية المختلفة اضفى بعدا آخر على عملية تقطيع أوصال الدولة وضخم من آثار الحرب والفوضى والنهب التي لازال يعاني منها المجتمع.

القضية بدت للكثير من المراقبين مجرد تسرع وارتجال من جانب بريمر الذي تنقصه الخبرة في الشأن العراقي،بدلالة تداعياتها التي برزت في تصاعد وتيرة أعمال المقاومة ضد قوات الاحتلال من جانب وفي ارتفاع التذمر والاستياء في الشارع العراقي الذي بات يغلبه الاحباط واليأس والرغبة في استمرار العيش بأي شكل كان وبأية كلفة كانت. والدليل على ذلك الاعلانات و الشعارات التي باتت تكتب. فحافلة لنقل الركاب كتب فيها إعلان يقول «مطلوب للعمل رئيس جمهورية للعراق، ليس بالضرورة أن يتمتع برضا الناس ولكن المهم أن يحكم الناس». وشعار اخر كتب في اكثر من جدار وفي مكان بارز من شوارع بغداد يقول «بالروح بالدم نفديك يا هو جان - أيا كان». وشعار «بالروح بالدم نفديك» كان شعارا مرفوعا في النظام السابق و مخصصا لرئيسه صدام. وسخرية رجل الشارع العراقي عبر هذه الاعلانات والشعارات تعبر عن رغبة في الخلاص من الوضع المأسوي الذي يحياه ومن دون شروط. بمعنى أن هناك اتجاها في الشارع العراقي بات يميل للقبول بأية حكومة تنصبها قوات الاحتلال. ومما يؤكد مثل هذا الاتجاه في الشارع هو الحديث المتواتر في أن الابقاء على الازمات الحياتية والخدمية دون حل وتركها تتفاقم هو محاولة من جانب الأميركيين لنزع الارادة لدى العراقيين. يقول أبو عبد الله من سكنة حي الجهاد «لقد تحسنت الكهرباء قبل أسبوعين واصبح انقطاعها لا يزيد عن ثمان ساعات يوميا. ولكن الان عاد الانقطاع ليصل الى عشرين ساعة او ثمان عشرة ساعة يوميا. إنهم يعاقبون العراقيين على المقاومة العسكرية التي تزايدت».

فيما يرى ثامر محسن مزارع في منطقة الرضوانية أن الأميركيين يريدون استمرار الاوضاع الراهنة من دون أن يفهم لماذا، ويقول «لقد بدأت الدوريات الأميركية في الشوارع تأخذ من سياراتنا الاموال التي تجدها»، ويضيف «وقد حصل معي هذا، أخذوا مني مبلغ 250 ألف دينار، وآخرون أكدوا أن المداهمات التي يقومون بها للمنازل بحثا عن الاسلحة المخبأة تشمل الاموال والذهب ليأخذوا منه ما يرون أنه مناسب. ليس فقط لم يقبضوا على السراق بل تحولوا هم الى لصوص، لا افهم لماذا يعملون ذلك».

أشياء كثيرة، عدم إصدار عملة جديدة؛ والاصرار على دفع رواتب الموظفين بالعملة العراقية التي تتوسطها صورة الرئيس المخلوع صدام حسين، ودفعها حصرا بفئة العشرة آلاف دينار التي يرفض التجار في السوق التعامل بها بدوره يثير علامات الاستفهام.

ولكن تظل علامة الاستفهام الاكبر في شأن بريمر الذي يلقى رضا الادارة الاميركية، فيما تبدو واشنطن قد فشلت في العراق بدلالة تصاعد اعمال المقاومة ضدها فيه. يقول سياسي عراقي محسوب على واشنطن «لقد بدا الرئيس بوش راضيا على السفير بريمر عندما التقاه في قطر».

وعلامة الاستفهام الاخرى المثيرة لاهتمام المراقبين، لماذا بدأت إدارة بريمر تقوم باعادة تشكيل الاجهزة الامنية بما فيها الامن العام والمخابرات؟ وقد كلفت عناصر محسوبة على النظام السابق بالانضمام اليها، هل شعر بريمر بخطأ قراراته، فعمل على تصحيحها... ولذلك اتخذ قرارات باعادة تشكيل الاجهزة المنحلة بما فيها الجيش؟

مؤكد أن خبرته المعدومة بالشأن العراقي لم تكن هي الهدف في اختياره لمهمته في العراق، وانما خبرته الاخرى كانت هي المطلوبة. وتاريخ الرجل يقول إنه خبير في الربح مع رعب الحرب وفي مساعدة الشركات الاميركية متعددة الجنسيات على صنع المال في أماكن قصية حيث لا تحظى لا بالشعبية ولا بالترحيب... ووفقا لهذه الخبرة تأخذ عملية التطهير التي قام بها بريمر معنى جديدا، فهو لا يعمل فقط من أجل التخلص من أعضاء حزب البعث، بقدر ما انه يشتغل ايضا من أجل تقليص كل القطاع العام بحيث تصبح المستشفيات والمدارس وحتى الجيش امكنة مفضلة للخصخصة على يد شركات أميركية؟

وهكذا بما أن إعادة الاعمار هي الذريعة بالنسبة للخصخصة، فإن عملية التطهير تبدو عملية مستترة من أجل تضخيم المجالات التي تحتاج لاعادة الاعمار، إنه رجل مثالي للعمل على زيادة أرباح الشركات المكلفة باعادة الاعمار. وهذا يفسر رضا البيت الابيض عنه، فهو ينفق معظم وقته لا في المجادلات العقيمة مع سياسيين عراقيين من أجل البحث في تطورات المستقبل السياسي للعراق، وانما في مناقصات إعادة الاعمار. وهذا هو «أساس مهمته في العراق يكمن في توفير القاعدة لليبرالية الاقتصادية التي حتما ستنجب الديمقراطية»، هكذا يعلق دبلوماسي من دولة أوربية رفضت الحرب الاميركية البريطانية على العراق. ويضيف الدبلوماسي «إنه رجل يتجه لهدفه، لذلك لم ينتظر أن تعود الكهرباء إلى بغداد أو أن يستقر الدينار أو أن يتوفر الامن، عندما كان قد أعلن في 26 مايو/أيار أن العراق، مفتوح للأعمال»

العدد 290 - الأحد 22 يونيو 2003م الموافق 21 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً