العدد 290 - الأحد 22 يونيو 2003م الموافق 21 ربيع الثاني 1424هـ

البطء... الثقة... وما قل ودل

حسام ابو اصبع comments [at] alwasatnews.com

يمثل القاص عبدالقادر عقيل حالا فريدة من حالات إبداعنا المحلي، فهو غائب إن شاء وحاضر بقوة إذا أراد ذلك... وهو من الأصوات الأدبية التي أثبتت عبر تجربتها إمكانات متميزة على مستوى تناول القصة أو كتابة الرواية، سيما وأنه ينطلق في عوالمه من الواقع الذي يتفاعل معه بطريقة مبدعة لا يعتمد فيها التسجيل والنقل الحرفي، بقدر ما يقيم شبكة خاصة من التخييل، ما يستدعي بالضرورة إمكانات كبيرة على المستوى الأسلوبي والتقني، ويسهم إلى حد بعيد في بلورة خصوصية متفردة في التناول. للسبب عينه فمنذ مجموعته القصصية الأولى بكل ما فيها من عثرات البدايات حملت خصوصية معينة ربما غير ملحوظة وتتمثل في القبض على هاجس جمعي بنهج يؤمن شيئا من حلاوة اللقاء المبدئي، ونجح لاحقا في تقديم جملة من الإصدارات التي تجاوز بها منجزه السابق، وقدم في الآن نفسه قراءة لافتة للمعطيات الحياتية والإنسانية في صياغات تبتعد عن المطروح على الساحة المحلية، ولهذا السبب فإن الكتابة عند عبدالقادر عقيل بحث متجدد في قوالب القول، وفي آليات التوصيل والإيصال.

إن المزية الشاخصة في مجمل ما كتب عقيل تتمثل في ذلك الهم الإنساني الضارب بجذوره في صلب الروح، مازجا في ذلك بين الخاص والعام، بين الهم الإنساني البسيط والمشكلات العظيمة التي تتجاوز كل الحدود لتشمل ما هو شديد التعقيد. وحدود الكتابة عنده ليست منقطعة الجذور بل إن التراث لازمة من لوازمه الحاسمة في عمله، بغية أن تقف الكتابة على أرضية صلبة لا ترهن نفسها بمجرد حداثة معلقة في فضاء لا يحده سقف يصعب على الاختراقات العاصفة.

وجمالية مشروع عقيل أن الحلم بكل ما يتميز به من كثافة واقتصاد واختزال من متلازمات الكتابة عنده، بل إن الأحلام كمادة هي من نسج واقع بدرجة معينة ملهمة له دائما. كيف لا وقصصه لا تخلو من تلك الأجواء ذات الطابع الفنتازي التي تسهم في تنويع أشكال القص، وفي إضفاء لمسات خاصة لها وقع السحر. داخل هذا الإطار تتحدد الكتابة، وتتكون الرؤية ويستقيم المشروع الكتابي اللافت.

ففي روايته «كف مريم» - على سبيل المثال - فإن الأجواء العامة لا تبتعد عن النسق العام المشار إليه أعلاه، بل يمثل هذا النص امتدادا لكل المعطيات المذكورة ممزوجة ببساطة أسلوبية، ذلك أن بطل الرواية الذي يمثل المنظور العام «طفل» تتقاطع مع وجهات نظره مجموعة من الأحلام التي تحرف الخطاب العام عن مساره، بحيث تخلق خلخلة وتنوعا في الوقت نفسه. وعلى المستوى الآخر تتقاسم الرواية ثلاث حكايات أساسية: حكاية الطفل، حكاية الحلم، حكاية نكسة 67. والتي نقرأ من خلالها استجابة ذات حساسية في الإمساك بهذه الخيوط المتشابكة والمعقدة على المستوى النظري، لكن المفاجأة التي جمعت كل هذا الشتات هي الأيام القليلة التي سبقت الكارثة. هذه هي الخطوط المفصلية التي تحكم هذا النص الروائي، والذي نجح الراوي في تحقيقها بوساطة تضفير هذه الشبكة بسلاسة لغوية وبنائية، وبشكل يخلف لذة ويترك أثرا لافتا.

أجواء السخرية والنقمة كانت لها الغلبة في «استغاثات»، كابوسية مرعبة في «البلورات»، هيام وشطحات صوفية ووجودية متأصلة في «رؤى الجالس»، عشق غامر في «الشوارق رائحة الواقع وروح الطفولة في «الشوكران»، مزيج من هذا وذاك في «كف مريم»، وعلى المنوال نفسه تم نسج الحكاية في «أيام يوسف الأخيرة» وهو النص/ الرواية التي لم أتعاطف معها أبدا. والتحديد السابق - بطبيعة الحال - ليس نهائيا في ظل انفتاح النص - النصوص على مرجعيات متشابكة، ومتداخلة، أو من استقاء من هذا الجانب أو ذاك بنسب ومقادير مختلفة.

ولعل أولى الخصائص المتمثلة في منجز عقيل الإبداعي القصصي تلمسه الصريح لفكرة النقد الذاتي عبر كتابة ترنو باستمرار إلى تجاوز الأعمال المنشورة عنده، فغدا كل كتاب له يمثل جديدا في تجربته، وبعض الأحيان على مستوى التجربة المحلية برمتها... ولا تحتاج القضية عنده كهمّ إبداعي إلى متسع زماني حتى تحدث النقلة، أو يحصل الصوغ الجديد. ولذلك يتضح الفارق جليا بين تجربتي الشوارق ورؤى الجالس، أو بين الشوكران، والبلورات، أو هذه التجارب مجتمعة مع كف مريم وهكذا. لذلك فنصوص عقيل كالخزائن العاجة بأطياف الخرافة والتصوف والعشق ورؤى الطفولة المرعبة وبأحلام غامضة تضمر جمالا فائقا وبعدا غائرا في الرموز كما أن نكهة التراث لا تخطئها الأبصار

العدد 290 - الأحد 22 يونيو 2003م الموافق 21 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً