العدد 291 - الإثنين 23 يونيو 2003م الموافق 22 ربيع الثاني 1424هـ

الفقراء يقلدون الأغنياء

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في بحثه عن تطور التاريخ الانساني توصل المؤرخ والفيلسوف الفرنسي فرديناند بروديل إلى مقولة مفادها: الأغنياء يقررون حياة الفقراء. توصل بروديل إلى هذا الاستنتاج النظري بعد بحث طويل في وقائع التاريخ فاكتشف أن التطور (الاستهلاكي المدني) يخترعه الأغنياء بسبب بحثهم الدائم عن الراحة والرخاء. فالغني الذي يراكم المال والثروات يريد ان يستخدم الفائض في تطوير حياته المدنية - الاستهلاكية فيلجأ إلى التفكير في اختراع الوسائل المناسبة التي تسهل حياته وتخفف عنه عناء «الفائض» من الوقت.

تلك الوسائل تبدأ مع الأغنياء للترفيه عن انشغالهم اليومي في اكتناز الثروة إلا انها مع الأيام تتحول إلى حاجة ويبدأ الناس على اختلاف فئاتهم وطبقاتهم وأطيافهم باستخدامها، فتتحول من خطوة ترفيهية إلى مشروع تجاري فتزداد ثروة الغني وتتسع الفجوة بينه وبين الفقير.

هذا جانب من قراءة بروديل. وهناك الكثير من الأسباب والعناصر والعوامل التي فكر فيها كأساس لقراءة التاريخ البشري والدوافع التي أسهمت في تقسيم المجتمع إلى أغنياء وفقراء وثم تقسيم العالم إلى أمم غنية وأمم فقيرة. وفي كل الحالات والمحطات والتطورات كان بروديل يعود إلى حجر الزاوية في تلك القراءة وهي: الأغنياء يقررون حياة الفقراء.

الفقير برأي بروديل مسكين لا وقت لديه للتفكير في الرفاهية فهو يعمل (ليل نهار) لانتاج رزقه اليومي وهو ملاحق بالديون ومنشغل بتأمين الحد الأدنى لعائلته ولا وقت لديه للتفكير في الوسائل التي تخفف عنه ثقل اليوم. فالساعات تمر وهو منكب على العمل ولا راحة عنده ولا مجال للنظر إلى المستقبل. فالأيام عنده متشابهة تتكرر وعمره يضيع في الركض وراء رزقه. الغني يختلف وضعه عن الفقير في علاقته بالزمن. فالساعات عنده منبسطة واحيانا يشعر بالملل من قلة العمل وكثرة أيام العطل ومجالات اللهو.

منطقة الفراغ هذه تتيح للغني التفكير في اختراع وسائل أو استحداث آلات تسلية لتمضية الوقت. فيبدأ بالتخطيط لتحسين شروط الرفاهية والعبث بالوقت وتقطيعه بين الجد واللهو. وبسبب اختلاف الظروف كان الأغنياء يحثون العمال عندهم على تصميم أشياء تسهل حياتهم وتزيد من راحتهم.

من هنا ينطلق بروديل للقول: ان معظم الاختراعات التي توصل إليها الانسان كانت اساسا لخدمة رفاهية الغني ثم تحولت مع الأيام إلى حاجة انسانية يريدها كل المجتمع من الاغنياء والفقراء. لماذا يريدها الفقراء؟ يرد بروديل المسألة إلى التقليد. الفقراء دائما يقلدون الأغنياء ظنا منهم ان ذلك يساعدهم على التماهي معهم فيصبحون شكليا مثلهم فيتصرفون على منوال عاداتهم طمعا في تعويض وضعهم البائس واليائس. وبسبب لجوء الفقراء إلى تقليد الأغنياء يحصل التطور في التقدم الانساني على مستوى الطموح المشترك في امتلاك الأشياء ذاتها. وهكذا تتحول الأدوات التي اخترعها الغني لزيادة رفاهيته إلى عبء جديد على الفقير.

وفي عصرنا الحديث تكرر الأمر نفسه. فالسيارة قبل مئة عام بدأت للخاصة ولتخفيف تثاقل الغني على السير وتحولت بعد مئة عام إلى وسيلة نقل يمتلكها الفقير والغني على السواء. كذلك الشاشة المرئية (التلفزيون) بدأت لتسلية الغني وتقطيع وقته وتحولت إلى وسيلة لهو (وفائدة) لمختلف طبقات المجتمع. وأيضا الملابس الفاخرة، وأدوات التجميل، والكثير من الوسائل الاستهلاكية التي ابتكرها الغني لانفاق الفائض من أمواله فتحولت إلى وسائل عيش يطلبها الفقير حتى لو أرهقت موازنته ووضعته في حال صراع مع الوقت لتسديد الفواتير والسندات، بينما يشتريها الغني لأنه يملك المال الكثير الذي لا يعرف كيف يستثمره.

هذا القانون (المقولة) الذي اكتشفه بروديل في علاقات الأفراد داخل المجتمع الواحد وأسس عليه فرضيته التاريخية - الفلسفية: الأغنياء يقررون حياة الفقراء لأن الفقراء يقلدون الأغنياء... يمكن تطبيقه ايضا على علاقات الدول بين الأمم الغنية والأمم الفقيرة.

القانون نفسه يمكن سحبه لتفسير بعض ذاك الاختلاف القائم بين الدول الغنية والدول الفقيرة. الدول الغنية ايضا تلجأ إلى تحديث وسائل العيش والرفاهية واللهو لشعوبها مستخدمة الفائض من موازناتها أو تلبية لطموحات شركاتها الوطنية (والمتعددة الجنسية) لتوفير فرص عمل للفقراء من جهة وزيادة أرباحها من جهة ثانية. وحين تنجح الدول الغنية في التقدم خطوة اضافية على مستوى زيادة الرفاهية للناس ومراكمة الارباح للشركات تبدأ الدول الفقيرة في طلب الشيء نفسه ظنا منها انها اذا فعلت ما فعلته تلك الدول تصبح على صورتها ومثالها وترتقي سلم التطور المدني وتحتل مقعدها على السوية الاقتصادية نفسها.

الدول الفقيرة كالافراد الفقراء... إنها تميل دائما الى التقليد حبا في التماهي (وأحيانا التباهي) للقول بأنها حققت ما نجحت الدول الغنية في تحقيقه، فتطلب من الدول الغنية (الشركات المتعددة الجنسية) وضع الخطط والمشروعات والتصاميم التي لا قيمة استثمارية في معظمها وانها تصب في دائرة الاستهلاك (التسلية واللهو) فتتورط الدول في سلسلة من الديون التي ترهق الخزينة من دون فائدة اقتصادية تذكر.

حصل هذا الأمر قديما في مصر بعد شق قناة السويس واضطر «خديوات» القاهرة رهن القناة وتأجيرها لسد الديون التي ارهقت الخزينة بعد لجوء الدولة الى الانفاق غير المدروس بسبب نزعة التقليد ومحاولة التماهي مع الاجنبي (الأوروبي آنذاك). وتكرر الأمر حديثا. في الجزائر مثلا لجأت الدولة الى «التصنيع الثقيل» وانتهى المشروع إلى ارهاق الموازنة وافلاس الخزينة في وقت توقفت المصانع «الثقيلة» و«الخفيفة» عن العمل.

هناك عشرات الأمثلة عن افلاس دول افريقية وآسيوية ولاتينية بسبب لجوء الانظمة الى التهامي (والتباهي) مع الدول الغنية فتورطت في مشروعات غير منتجة وشيدت الملاعب والفنادق والابنية الضخمة وشقت الطرقات العريضة وانفقت الكثير من المال على وسائل اللهو والرفاهية ظنا منها ان هذا هو «التطور الاجتماعي» وان تقليد الاغنياء في حياتهم وتصرفاتهم يكفي للانتقال من واقع اجتماعي إلى آخر. ما حصل مع الدول حصل ايضا مع الأفراد. فهناك الكثير من الفقراء يشترون السيارات الفخمة وأجهزة التلفاز المتطورة ويتصرفون وكأنهم في عالم غير عالمهم توهما منهم ان ذاك التصرف يرفعهم الى سوية أعلى بينما واقع الأمر يقول انهم يخدعون أنفسهم فهم مضطرون بعد شهور الى بيع كل تلك الأشياء لتسديد القروض وفوائدها.

المأساة في مقولة بروديل ان العالم هو هكذا، وسيستمر على هذا المنوال. والسياق التاريخي لم يتغير منذ القدم: الاغنياء يقررون حياة الفقراء لأن الفقراء يقلدون الأغنياء. هذا ما عرفه التاريخ في سياق تطوره الانساني وهذا ما نشاهده اليوم في المنتديات الاقتصادية التي تجمع الغني والفقير في قاعة واحدة من دافوس في مرتفعات سويسرا إلى بلدة الشونة على شاطئ البحر الميت في الأردن

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 291 - الإثنين 23 يونيو 2003م الموافق 22 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً