العدد 297 - الأحد 29 يونيو 2003م الموافق 28 ربيع الثاني 1424هـ

مدينة عريقة ضربها خراب عميق

بغداد... الخوف (1)

مصطفى الحسيني comments [at] alwasatnews.com

في نوفمبر/ تشرين الثاني 1978، زار كاتب هذه السطور بغداد ضمن فريق من «السفير» لتغطية القمة العربية التي انعقدت لبحث الرد العربي على قرار الرئيس المصري آنذاك انور السادات الذهاب إلى القدس سعيا إلى «السلام مع اسرائيل». في نهاية الزيارة قدّر هذا الكاتب او قرر انها زيارته الاخيرة لتلك العاصمة العربية على رغم ما يحمل لها من اعزاز. كانت فظاظة اجراءات الأمن العراقية، حتى مع من يفترض بحكم المناسبة ان تعتبرهم الحكومة العراقية ضيوفا عليها هي سبب ذلك التقدير او ذلك القرار، بدءا من مصادرة كل ما هو «اوراق» من امتعة الصحافيين الزائرين وليس انتهاء بمن يتبعك مثل ظلك اينما ذهبت حتى داخل الفندق حيث تقيم، إلى التصاغر الذي لا يخجل منه ولا يتحرج من يفترض انهم من «كبار المسئولين في النظام القائم وحزبه الحاكم» عندما يصل الحديث إلى ذكر «الرئيس المهيب» احمد حسن البكر، او «السيد النائب» صدام حسين. يبدو ان تلك «الظواهر اضيفت عندئذ إلى تراكم سابق عليها واضافت اليه، بدءا من الزيارة الاولى لبغداد في ربيع 1969 عندما فتح هذا الزائر عينيه في اول صباح له في «عاصمة الرشيد»، حاضرة «عصر المأمون»، على مشانق منصوبة في «ساحة الحرية» تتدلى منها جثث متهمين كان شاهد في ليلة وصوله الجلسة الاولى لمحاكمتهم منقولة مباشرة على التلفزيون العراقي. وكان هذا يوم عيد الربيع (النوروز) الذي تحتفل به كثرة من العراقيين.

إلى زيارة رابعة في 1976، حين عمدت سلطات الأمن إلى ابلاغه ان غرفته في الفندق «شرفت» بزيارة منها في غيبته، وكانت حال حقيبته المتواضعة محلا لعبث تركت علاماته ظاهرة عن عمد.

غير ان الزمن وحوادثه حملت هذا الزائر إلى بغداد للمرة السادسة، عضوا في بعثة «المنظمة العربية لحرية الصحافة» للاطلاع على اوضاع الاعلام العراقي بعد كل ما حدث وأخرجه من قهر منظم ومقيم إلى مواجهة مجهول أول معالمه احتلال أجنبي للبلاد.

لكن هذه التحقيقات لن تتناول تلك المهمة، فلهذه مجالها الخاص.

من خارج العراق تبدو شئون مستقبله على قدر من الوضوح. سلسلة من المعادلات، خطوات تؤدي كل منها إلى ما تليها، التشكك وارد، قد يتناول المدى الزمني لكل خطوة ولمجموع الخطوات. بل قد يتناول نوايا من يرسمون تلك الخطوات، لكن الشك في النوايا - وإن كان من حسن الفطن - فإنه لا يطعن بـ «حتمية» الخطوات في نهاية المطاف.

سلسلة الخطوات التي تبدو من كثرة تكرارها مرسومة ومقررة، بل ماثلة، على رغم انه لم يتحقق منها شيء بعد شهرين من بدء الحديث عنها، غنية عن الذكر: تشكيل مجالس ثلاثة، لكل منها وظيفته: مجلس اقتصادي يضم خبراء عراقيين لمعونة «السلطة» في «تشغيل الاقتصاد العراقي». مجلس سياسي يضم ممثلين عن القوى السياسية والجماعات القومية والعشائر، يكون بمثابة «حكومة مؤقتة» ذات صلاحيات محدودة تتزايد تدريجيا «بحسب الحاجة». ومجلس دستوري يضم سياسيين وقانونيين، مهمته الاعداد لعقد «جمعية تأسيسية» تضع مشروعا للدستور العراقي يجرى عليه استفتاء عام. بعد اقراره تجرى انتخابات برلمانية تؤدي إلى تشكيل حكومة ديمقراطية. «ثم ننسحب»، بحسب اللازمة التي يختتم بها «رئيس السلطة» بول بريمر تلاوته للخطوات.

الذين يرسمون الخطوات ويتحدثون عنها هم - طبعا - الاميركيون. أما شركاؤهم البريطانيون فصامتون وإن تركوا الانطباع بأن الأميركيين يتحدثون باسمهم... ألا يتحدثون (ويفعلون) باسم «قوات التحالف» أو «السلطة» في العراق بعد أن أضفى عليها مجلس الأمن الدولي شرعيته؟

أما على الأرض في بغداد - التي اقتصرت عليها زيارة هذا المراقب - فالامور تختلف.

ما إن تقترب من المدينة العريقة التي تقلبت حظوظها في التاريخ بين مواقع حنونة ومواقع قاسية، إلا انها استقرت فيه عاصمة للخيال، مرتعا لأحداث قصص «ألف ليلة وليلة»، يجوب شخوصها العالم من قلبه المعلوم إلى أطرافه المجهولة، لكنهم من بغداد ينطلقون وإليها يؤوبون.

ما إن تقترب من تلك المدينة بعد رحلة برية منهكة بدأت من عمّان، حتى تطالعك معالم الخراب. ليس الخراب جديدا على بغداد اذ ما أكثر ما داهمها على مدى تاريخها المديد، لكن هذا الخراب لا يشبه أيا من سابقيه الذين حملهم كاهل ذلك التاريخ. هذا ليس معظمه ما ألحقه بها الغزاة ولا ما اوقعه بها السلابون والنهابون الذين ألح علينا الاعلام بوسائله المتعددة والمتنوعة بأنبائه. انه خراب مختلف، أقرب وصف إلى حقيقته، وإنْ كان لا يوفيها مقتضاها، انه خراب عميق.

لعمق هذا الخراب الماثل أغوار

الظاهر منها هو ما ألحقته «قوات التحالف» من دمار. لكن الحرب من حول بغداد ومن فوقها جرت هونا بالقياس إلى الحروب، بما فيها ما يشنه الكبار الاقوياء الاغنياء على الصغار الضعفاء الفقراء. تقتحم العين ابنية لحقت بها درجات متفاوتة من التدمير، لكنها ليست كثيرة وتكاد تقتصر على ما له «قيمة رمزية»، مثل «المجمع الرئاسي» الذي يمتد على احدى ضفتي ما يخترق المدينة من نهر دجلة، بينما تحولت الضفة المقابلة - ضفة شارع ابو نوّاس - إلى واحدة من اقسى مفارقات تدمير البيئة: تحولت رئة بغداد إلى جرد قاحل على ضفة نهر، كأن البساتين اليانعة التي كانت تضم المقاهي والمطاعم والمنتزهات حرم عليها ورود ماء النهر.

كان هذا من مقتضيات «أمن الرئيس»

على ظاهر الابنية التي أصابتها تلك الدرجات المتفاوتة من التدمير، يغلب تراكم دخان الحريق على حجم الدمار. يقول البغداديون ان الحرائق اتت لاحقة على الدمار. ويقولون ان معظم الحرائق لم تكن من فعل قذائف الغزاة، انما قامت بها جماعات لم يكن همها النهب، انما كان همها الاخفاء، يضربون الامثلة البارزة بالابنية التي كانت تشغلها اللجنة الاولمبية على اطراف المدينة وتلك التي كانت تشغلها هيئة الشباب والرياضة وكان يرأسهما معا عدي صدام حسين. ويذكر المتحدثون أن تلك الابنية كانت تضم إلى مكاتب الهيئات التي تشغلها سجونا وأقبية تعذيب تنتهي إلى مقابر.

حتى هنا توالت علينا اغوار ثلاثة لما ضرب بغداد من خراب: التدمير والاحراق والاخفاء. الغور الرابع هو ان البغداديين الذين يصفون لك بعض ما شاهدوا ويروون لك بعض ما عرفوا يفعلون ذلك من دون انفعال او غضب او اشمئزاز او استنكار... يمكن ان تقول من دون احساس خاص. كأنهم يتلون عليك وعلى انفسهم ما سبق ان قرأوه. كأنهم يتجاذبون حديثا معتادا. يتحدثون عن شأن من شئونهم اليومية المألوفة. لا تستطيع مغالبة الاحساس بأنهم يعرفون ذلك الهول المفزع من قبل ان ينكشف. وانه من قبل الانكشاف كان قد اصبح خيوطا في نسيج ادراكهم لواقع حياتهم اليومية وعلى تعاقب الايام.

الغور الخامس هو كون هؤلاء الناس الذين يحدثونك عن تلك الاهوال بلهجة التقرير الباردة، لا يبدون رأيا في ما ينطوي عليه حديثهم من اهوال.

حتى لو سألت. اوضح ما يمكن ان تسمعه من «رأي» يدور حول معنى ان هذا ما كان يحدث. وان الناس كانوا يعرفون انه يحدث، وانهم كانوا يسلمون بأنه ليس بيدهم شيء.

وصف «أبو لينا» مشهد نساء عاريات تدافعن من اقبية اللجنة الاولمبية هاربات من الحريق الذي اضرم فيه ومن خطر الغرق في المياه التي تدفقت إليها. قال انهن كنّ فاقدات العقل، ربما من هول ما تعرضن له وما شهدن. «لا اعرف». أُخرجت جثث لنساء عاريات أيضا. «لا اعرف اين ذهبن ولا كيف دفنت الجثث». يمط شفتيه كأن الأمر لا اهمية له.

«أبو لينا» شخص عادي، يعمل سائقا لسيارة يمتلكها، صاحبه هذا المراقب على مدى خمسة من الايام الستة التي قضاها في بغداد، وصف بإيجاز مفعم بإحساس امتزج فيه الاعتزاز بالنفس بالاشفاق عليها ما بذل من كد ليجمع الثمن الباهظ لتلك السيارة القوية التي تضمن رزق عائلته «من دون أن اضطر إلى العمل تحت امرة أحد ما تبقى من حياتي بإذن الله».

الغور السادس لما لحق ببغداد من خراب هو الخوف. خوف متعدد الابعاد. ليس من تلك الابعاد اجتناب ابداء الرأي. هذا مرجعه ان عادة ابداء الرأي فقدت منذ زمن طويل. لم يعد ابداء الرأي من غرائز الانسان ولا ضمن ردود فعله التلقائية. لا تفوت ملاحظة المراقب العادي الطارئ على بغداد ان قدرة الناس على تقدير الاشياء تبدو في احاديثهم وجلة باهتة كأنها تصدر عن ماعون نضب ماؤه. تقرأ في الصحف المتكاثرة عبارات تتراوح ما بين «النظام السابق» وما بين «النظام المقبور»، بحسب درجة سابقة التورط معه او النأي عنه بالتزام الصمت او النجاة إلى المنفى. أما الشخص الذي تتحدث إليه في الشارع، فلا يقول شيئا يشبه ذلك. يقول «هم» او «كانوا». لا تملك إلا ان تحس ان صدام حسين ونظامه مازالوا ماثلين في اعماق وعي الناس الذي يتماثل مع خوفهم.

دعنا - مؤقتا - من المثقفين والمشتغلين بالشأن العام. سنبقى مع عامة الناس

ما ان يأنس إليك بعضهم، وخصوصا وأنت لست عراقيا، حتى تتلاحق اسئلته: كيف «اختفى» نظام الحكم بأكمله يوم 9 ابريل/نيسان الماضي. بل كيف اختفت الدولة؟ ليس فقط صدام حسين وابنيه ونائبيه ووزرائه، اين اختفى الجيش قبل ان يحله الاميركيون؟ وبعد حله، اين قادته وضباطه الكبار؟ وجيش القدس؟ والحرس الجمهوري؟ والحرس الخاص؟ وفدائيو صدام؟ وأجهزة الأمن التي يقدر البعض عددها بما يزيد على الثلاثين جهازا؟ والحزب الذي كان ماثلا جاثما في كل منحى وكل مكان؟ ألم يكن رامسفيلد (وزير الدفاع الاميركي) يتباهى بالتكنولوجيا الاميركية التي تستطيع رؤية ما بداخل كل كهف وتقدر على النظر إلى نهاية اي نفق مهما بلغ عمقه؟ اين هم رؤوس النظام الذي يقول الاميركيون انهم اتوا بغرض «تحريرنا» منه؟ اذا كان الاميركيون يعتبرونهم «غير مطلوبين» فلماذا؟ وماذا فعلوا بمن اصبحوا في قبضتهم من الـ 55 الذين وضعوا صورهم على اوراق اللعب، أليس من حقنا ان نعرف؟

تتلاحق الاسئلة لتصل إلى خاتمة مفتوحة هي «بيت القصيد».

ألم يكن هذا كله مرتبا ومتفقا عليه؟ ام انهم يخبئونهم في «اماكن آمنة» ليعيدوا «اطلاقهم علينا» اذا لم يستطيعوا تحقيق اهدافهم التي لا نعرف ما هي؟

يبدو هذا النوع من الاسئلة مغرقا في وهم المؤامرة. لكنك لا تستطيع قول هذا لشخص عادي في بغداد، طالما لا تستطيع ان تقدم إليه تفسيرا آخر يقنعه.

هذا هو حجم الخوف الذي يسكن العراقي العادي في بغداد وهذا هو نوعه. خوف من ماض مازال ماثلا، بل جاثما. كأنه لم يصبح ماضيا بعد. يعززه خوف من حاضر غير مفهوم. يعززهما خوف من مستقبل مجهول. مع مثل هذا الخوف لا يجد الحديث الذي يكرره الاميركيون ويتداول فيه السياسيون العراقيون، صدى عند العراقي العادي في بغداد. لا يلتفت هذا العراقي العادي كثيرا إلى الحديث عن المجالس الاقتصادية والسياسية والدستورية، التي تؤدي بعد اجل غير معلوم إلى انتخابات عامة واقامة «حكومة ديمقراطية» و«بعدها ننسحب» كما يردد كثيرا بول بريمر، رئيس «السلطة» التي اضفى عليها مجلس الأمن الدولي شرعيته.

غدا: طريق العراق الشاق والطويل

العدد 297 - الأحد 29 يونيو 2003م الموافق 28 ربيع الثاني 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً