العدد 319 - الإثنين 21 يوليو 2003م الموافق 21 جمادى الأولى 1424هـ

الولايات المتحدة الأميركية «الحائرة»!

إلياس حنا comments [at] alwasatnews.com

كاتب لبناني، عميد ركن متقاعد

تعرف الولايات المتحدة الاميركية في قرارة ذاتها، بأنها ومهما فعلت في العالم الإسلامي عموما، والعالم العربي خصوصا، ستبقى مكروهة، ومُصنّفة ضمن خانة الأعداء. وتعرف أيضا، بأن شعاراتها والتي أطلقتها بشأن نشر الديمقراطية، وحقوق الإنسان، لا تُصرف فعليّا في أي حي، أو شارع عربي أو مسلم. فالواقع المعيش يناقض شعاراتها. فرئيسها يُسمّي شارون رجل سلام، ويعزل عرفات في الوقت نفسه. وهو لم يتعامل منذ تولّيه السلطة في أميركا مع العرب، إلاّ من منطلق القوة، وحتى الاحتقار في بعض الأحيان. وهو رئيس اختار العالم العربي منطقة تجارب لاستراتيجيّته الكبرى. فيه يجرّبها، ينقّحها، ويعود فيما بعد، لتعميمها على مناطق أخرى من الكرة الأرضية. حتى أن خطاباته، وخطابات كل العاملين في إدراته، وكل المستندات الرسميّة التي تصدر عنها، تصف تحديدا العالمين الإسلامي والعربي، وكأنهما مصدرا الخطر الأساسيين على الأمن القومي الاميركي. لذلك لابد من استعمال القوة معهما.

كان العراق على لائحة محور الشرّ، و هو الآن بلد مُحتلّ من قبل اميركا. وتحتلّ أميركا بطريقة شرعيّة غير مباشرة، الكثير من الدول المجاورة للعراق. وهي تركّز على السعوديّة في حربها على الإرهاب. وتحاول عصر سورية بالتعاون مع «إسرائيل». وتهدّد لبنان، بعد ان تضع حزب الله على لائحة المنظمات الإرهابية. كذلك الأمر توسّع دائرة اتهاماتها لتصل إلى السودان وليبيا. وهي تطرح وتتفرّد في اقتراح حل للقضيّة الفلسطينيّة، لكن تحت غطاء تأمين كل ما ترغب فيه «إسرائيل». فهل ستكون محبوبة في العالم العربي؟ مستحيل.

إذا، كيف على أميركا أن تُقارب هذا العالم المعادي لها بقوّة، وخصوصا إنه أصبح يحوي تقريبا العظيم من قدراتها العسكريّة التقليديّة؟ وعلى ماذا يجب أن تقوم استراتيجيّتها؟

إذا تعذّر على أميركا أن تكون محبوبة في العالم العربي، فهي حتما تريد أن تكون مرهوبة الجانب. على كلٍّ، هذا كلّ ما تبقّى لها من خيارات. هكذا كانت نصيحة مكيافيللي لأميره، بأن يكون مرهوب الجانب إذا ما أراد أن يستمرّ حكمه. لكن الرهبة لا تأتي من دون توفّر البُعد المتمثّل بالقوّة، وكيفيّة استعمالها. فالقوّة حقّ، وذلك بحسب المؤّرخ اليوناني توسيديدس. لكنه لا يمكن قياس القوّة بدقّة. فهي تقوم على أبعاد عدّة، تتمثّل بالكم والنوع. هذا من دون إهمال العوامل النفسيّة والمعنويّة. فكم من القوى أخطأت في حساب قوتها، مقارنة مع قوّة أعدائها، فخسرت حروبها. هكذا أخطأ الرئيس صدّام حسين العام 1990 في حساب قوّته، مقارنة مع القوى المحيطة به، ومع التحوّلات الكبرى على صعيد النظام العالمي بعد سقوط الدبّ الروسي، فكانت الكارثة الكبرى على الخليج والعرب، والتي لا نزال نعاني من آثارها حتى الآن. لكن امتلاك القوّة، لا يعني ضرورة استعمالها لتحقيق الأهداف. فقد تضطّر القوى إلى عرض عضلاتها في بعض الأحيان، كرسالة ردع للآخر. هكذا فعل الرئيس كلينتون العام 1998 مع الصين، وذلك عندما بدأت هي بعرض عضلاتها ضدّ تايوان. كذلك الأمر، وجب على استراتيجية الردع، أن تكون مدعومة دائما بعامل القوّة، كآخر ملاذ لتحقيق الأهداف القوميّة. لكن الأكيد أن استعمال هذه القوّة بطريقة متكرّرة، قد يجعل الأعداء يتحسّبون أكثر، ويتحضّرون أفضل للصراعات المقبلة. فالاستعمال المتكرّر لهذه القوّة، يؤدّي إلى فضحها، وإظهارها إلى العلن. ويؤدّي أيضا إلى كشف نقاط ضعفها، كما إلى تقليدها في الكثير من الأحيان، وإلى اعتماد الاستراتيجيّات المضادة.

أين أميركا من هذا الأمر في العراق حاليا؟

قام السلوك الاميركي منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، على الاستعمال المتكرّر للقوّة لتحقيق الأهداف القوميّة. وقد أدى هذا الأمر إلى الابتعاد عن البُعد الدبلوماسي، وحتى إلى إهماله. وبدت أميركا تتحوّل في عقليتها تجاه علاقاتها الخارجيّة بشكل جذري. فهي كانت تعتبر أن استعمال القوّة، لا يأتي إلا كآخر وسيلة وبعد فشل كل الوسائل الباقية. أما الآن، فقد أصبح سلوكها يرتكز على بُعد القوّة فقط. وأصبح المعتدلون في الإدارة والكونغرس، متهمين بأنهم خونة، يعرقلون مسيرة الحرب ضد الإرهاب.

وصل العنف الاميركي في مسيرته إلى القلب العربي المتمثل بالعراق. استعملت أميركا قوتها العسكريّة على شكل حرب محدودة في هذا البلد مرتين. الأولى العام 1991، والثانية خلال هذا العام. وكانت المرحلة ما بين الحربين، أقسى على العراق وعلى شعبه من الحربين المذكورتين.

على رغم من وعودها بغد مشرق لأهل العراق، لا تزال أميركا مكروهة من العراقيين. ويبدو أن الخدمة الكبرى التي قدمتها لهم، تكمن فقط في إزاحة نظام الرئيس صدّام حسين، من دون غيرها من الخدمات. إذا، لا يبقى أمامها إلا أن تكون مرهوبة الجانب في هذا البلد. فماذا عن وضعها الحالي؟

- إن ما يقلق الإدارة الاميركية، هو ما تتعرّض له قواتها المحتلة في العراق، من هجمات متكررة، أصبحت كلفتها مقلقة حتى الآن. فالعمليات تقريبا مستمرّة، وبدأت معالمها تتشكّل، خصوصا بعد بث الشريط المسجّل للرئيس المخلوع صدّام حسين. فهي، أي أميركا، كانت قد أتت أصلا إلى هذا البلد، كمرحلة بسيطة من استراتيجيّة اكبر للمنطقة وللعالم. بكلام آخر، العراق حملة من ضمن حرب واسعة وشاملة.

- لكن العمليات العسكرية ضد القوات الاميركية، وضعت القيادتين الاميركيتين، السياسية والعسكريّة في وضع مقلق وحرج. فالغرق في المستنقع العراقي، من ضمن حرب عصابات مكلفة، وعدم إمكانية وضع حدٍّ نهائي لها بسرعة، سيؤدّي إلى الأمور الآتية:

- ستغرق أميركا في العراق، لتتخلّى مجبرة عن الأهداف الكبرى، والتي تتناول المحيط الأبعد من العراق.

- ستزداد العلميات ضدها في كل العالم العربي، خصوصا في الدول الحليفة لها. وستتسع رقعة عدم الاستقرار، لتصل إلى أفغانستان.

- وأخيرا وليس آخرا، ستصبح أميركا في العقل العربي والإسلامي، ليست مرهوبة إطلاقا، بعد أن كانت غير محبوبة فقط. فيتجرّأ كل من سنحت له الفرصة لمهاجمتها. وهنا تكمن المشكلة الأكبر لأميركا. فقد يؤدّي هذا الوضع إلى تعميم صورة الضعف الاميركي في العالم كلّه، لتصبح دولة عادية مثلها مثل غيرها من القوى العظمى.

تحاول أميركا حاليا، وعبر التغيير في القيادة الوسطى، إيجاد حل للمقاومة العراقيّة. كما تحاول إحياء الحلول السياسيّة، عبر خلق قيادة عراقيّة انتقاليّة.

ما صورة السلوك الاميركي في العراق حاليّا؟

تحاول أميركا خلق قوّة عراقيّة عسكريّة بحتة، قد تشكّل لاحقا مانعا أمام اتساع أرضيّة المقاومة العراقية المسلحة. بمعنى آخر، تحاول أميركا أن تقاتل المقاومة العراقيّة، بواسطة العراقيين أنفسهم.

بدأت المقاومة العراقيّة باستهداف القوى العراقيّة المسلّحة، والمتعاونة مع الاميركيّين. تبدو هذه الصورة مألوفة في التاريخ الاميركي الحديث. فأميركا جرّبت هذه الاستراتيجيّة في فيتنام، لكنها فشلت بعد انسحابها المخزي.

تحاول أميركا إحياء الجو السياسي في العراق. فهي تريد حتما مشاركة العراقيين أنفسهم في تحمّل مسئولية الأمن، والاستقرار.

تتّكل أميركا في سلوكها حتى الآن، على صداقة وتحالف الأكراد الأكيدة. وعلى الحياد الشيعي حتى الآن، وعلى إخلاص بعض السنّة العراقيين، خصوصا من المعارضة. لذلك هي حتى الآن مطمئنّة.

هل ما يصح في أفغانستان، يصحّ في العراق؟

طبعا كلاّ، لكن ما هو النموذج المعتمد في أفغانستان؟

تعتمد أميركا في أفغانستان النموذج الآتي:

تركيب حكم موال لها صُوري، تأمين استمراريّته.

السيطرة العسكريّة على نقاط محدّدة، من دون الانتشار الكلّي، مع عدم الاحتكاك مع الشعب قدر الامكان.

الاستعلام المستمر عن نشاطات القوى المعادية، وضربها بقوّة عند الحاجة.

عدم العمل على فرض الاستقرار في كل أفغانستان بالقوة، الأمر الذي يترك حرّية كبرى لزعماء القبائل في التصرّف، مع العلم بانه يمكن دائما شراء ولائهم بالمال.

لا يمكن تطبيق هذا النموذج في العراق. فالعراق مختلف في الجغرافيا وفي الأهداف. هو قلب العالم العربي، فيه النفط، ويحيط به العدو الأكبر للولايات المتحدة الاميركيّة، والمتمثل بالإرهاب. كذلك الأمر، لا يجب أن ننسى قرب العراق، من «إسرائيل» ومدى تأثيره على القضية الفلسطينية. إذا المطلوب استقرار تام في العراق، وهذا ما تريده أميركا، وهي عاجزة عن تحقيقه حتى الآن.

مما تخاف أميركا حاليا في العراق؟

علّمنا التاريخ، أن الشعوب تتعلّم من بعضها بعضا. فبعد مقاومة حزب الله «لإسرائيل» في جنوب لبنان، وانسحاب «إسرائيل». أصبح لمن يرغب مقاومة «إسرائيل»، نموذجا ومثالا يتبعه. تأثّر الفلسطينيّون بهذا الأمر، فكانت الانتفاضة وسيلة لتحقيق الأهداف السياسية.

هل سنرى في العراق تطبيقا لهذه النماذج؟

حتى الآن، بدأنا نرى ولادة المقاومة العراقيّة العسكريّة ضد الاميركيّين، كما كنّا قد عايشنا المقاومة اللبنانيّة في بيروت وفي الجنوب سابقا.

كذلك الأمر، شاهدنا الكثير من المسيرات والمظاهرات في العراق ضد الوجود الاميركي، لكنها، تضاءلت مع الوقت.

لكن الأكيد، أننا لم نشهد حتى الآن، انتفاضات عراقيّة ضد الوجود الاميركي، على غرار انتفاضة الأقصى. لكن لماذا؟

لا يكفي أن تقتصر المقاومة، أو الانتفاضة على قسم واحد من العراقيين. لكن الأكيد يبدو، وكي تنجح المقاومة أو الانتفاضة، في ضرورة مشاركة الشيعة العراقيين فيها، كونهم يشكّلون العامل الأكبر لنجاحها. هذا إذا اعتبرنا أن الأصدقاء الدائمين لأميركا في العراق، هم الأكراد حتما، الأمر الذي يضعهم مؤقتا خارج هذا التحليل. فهل الشيعة مستعدّون لذلك؟

حتى الآن كلا. فهم الغالبية في العراق، وهم الذين عانوا من حكم حزب البعث. وحزب البعث هو الذي يقود المقاومة حاليا بقيادة الرئيس المخلوع، والمتهم من قبلهم بأنه تسبب بمجازر جماعيّة بحقّهم. وهم الذين يسيطرون حاليا وبطريقة غير مباشرة على الثروات النفطيّة في الجنوب، وهم مستعدون لحمايتها. لذلك لم نشهد حتى الآن أيّة عملية تخريبية ضد المنشآت هناك. وهم الذين يعتق

العدد 319 - الإثنين 21 يوليو 2003م الموافق 21 جمادى الأولى 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً