من الغريب أن يكون لظما الوجدان هذا السحر وهذه القوة التي ترغم الأخ العزيز لحدان الكبيسي على العودة الى الشعر، والأكثر غرابة من ذلك أن ترغم كاتب السطور على العودة - ولا أظن العود أحمد - إلى الكتابة ومداعبة الورق بأنامل من لوحة مفاتيح - بعد أن طلقت الصحف عملا وقراءة طلاقا بينا بينونة - أظنها - كبرى بعد أن تجاوزت المدة فترة العدة وبلغت أكثر من سنة ولم يبق لي من حبها سوى زواج المتعة، ولا أستيطع هنا سوى تأكيد شدة (عنصريتي) للمحرق التي انجبت لنا من صلب ترائبها... ظما الوجدان.
أعود هنا لأتجاوب مع ما كتبته في الأسبوع الماضي عن عزوف الشعراء والشاعرات عن صفحة (تراث)، هذا المولود الجميل الذي طال انتظاره - صدقا وليس نفاقا - وكيف لا يكون جميلا وولده جعفر وأمه ابداعاته.
سيدتي الفاضلة، لا وجود للمشكلة أبدا في هذا الشأن، وإن ابيت الا ان تجعليها مشكلة ففي رأيي المتواضع والفقير انها تتلخص في ثلاثة محاور كما يقول الصحافي فرحات براقع في (فارس بلا جواد):
المحور الأول هو المعد نفسه، وأقول محورا وليس مشكلة، اذ ان المعد نذر لصفحته الابداع أو ربما نذر للابداع صفحته، وكلمة الابداع (مطاطة) نوعا ما، لانها تعني في جانب كبير منها الجمال، والجمال كما هو معروف نسبي ولا يمكن تقييده، وكل له ذائقة من نوع ما قد نتفق معها وقد نختلف.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، الأمر كله يعود إلى الشاعر نسفّه، فهذه عكاظ سوق مفتوحة يحتكمون الى من يشاؤون من العارفين بالشعر والأدب، ولا يجعلنا اختلافنا مع هذا أو ذاك من الناس أن نسفه احلامهم أو نطعنهم في ذائقتهم أو شاعريتهم، فجعفر يرى المضمون أولى للنشر وهو أقرب الى الحداثة بل هو الاقرب لي من بين الموجود توجها، ومعد آخر يرى الوزن والقافية ميزانا للنشر وهو والدنا وكبيرنا الذي علمنا الشعر، رضي من رضي ورغما عمن أبى، وأن كنت لا أحبذ تقليديته ولكن يجب ألا يبعدنا الحماس والتعصب عن الواجب الشرعي بالنص الصريح الصحيح (أنزلوا الناس منازلهم)، وآخر رقيق في قلبه يتأرجح، حداثي في نفسه تقليدي في ميزانه، لا يريد أن يرد احدا خائبا طيب المعشر خدوم في طبعه يحاول ان يتمرد على القيود ولكن واقعه لا يترك له المجال فما له سوى التسديد والتقريب قدر المستطاع، ورابع فيه زرقة البحر وحنانه غنائي التوجه لين الجانب يحب السهل الممتنع، وإني هنا لا أفضل في الاشخاص أحدا على أحد، فكلهم مخلصون ومتفانون وأقرب من شغاف القلب، وكل يحاول خدمة الساحة بطريقته، ولا تنسوا الفضل بينكم سيدتي، فلو لم ينشر لنا السابقون نتاجنا لما تمكنا من الوصول الى جعفر، كما سيأتي يوم ونتعاون مع شخص رابع وخامس وسادس لهم موازين مختلفة، فحنانيك حنانيك وقليلا من نفيحاتك والطاف الله في المحرق.
وبالنسبة إلى المحور الثاني، فأنا مؤمن تماما ومتفق معك كل الاتفاق بأن هناك من (العصايد) الكثير التي تجد طريقها للنشر، وهذا امر اختلفت فيه مع الدوسري طيلة سبع سنوات (عجاف) ولا أزال اختلف، اما الاستاذ العماري فلا استطيع لمكانة الوالد وأقولها صراحة ولا اخجل منها، وكان الرد الوحيد الذي أجده هو ان هذه الصفحات ما هي الا متنفس للجميع (والزين يفرض نفسه)، ولو طبقنا المقاييس التي يطالب بها البعض (الكثير) فلسوف تجد كثيرا من الشعراء لن يكونوا شعراء، بل لن تجد قصيدة واحدة حتى للمعد، ومن الطبيعي الا يرضى الشاعر عن نفسه، واقرب دليل على ذلك هو العماري نفسه الذي بعثر نفسه جمعا لغيره وهو لديه من نفائس شعره قديمه الستيني اجمل من جديد فطاحل القرن العشرين على مستوى الخليج ولا يرضى أن ينشر.
وصدقيني سيأتي يوم على الجمري ويتنازل ولو قليلا عن ميزانه، وسينحني انحاء السنبلة الى ان تمر العاصفة بسلام ويحتفظ هو بلذيذ القمح.
أما المحور الثالث، فهو التنوع المطلوب والطبيعي، والاختلاف رحمة من رب العباد فلماذا حولتموها الى نقمة، ولولا اختلاف الاذواق لبارت السلع.
بل إني ارى ان تنوع الفاكهة المطروحة وخليط المسك والعود والعنبر والبخور أمر من نفحات الجنان، وهذا يصب في مصلحة الشاعر أولا واخيرا، فإن كتب حديثا فملجؤه جعفر وإن كتب وزنا وقافية فملجؤه الاستاذ العماري وان تأرجح بين الأمرين فملجؤه الدوسري وهكذا، كما لا أنسى في معرض الحديث الأخ العزيز يونس سلمان الذي هو ايضا يخدم من جانبه بصورة جميلة.
كما لا ننسى أن من حق الجميع احترام مشاعرهم وإن كانت عصايد لا تروق لنا نحن (المضمونيين) - واسمحي لي ان أعد نفسي منكم وان كنت أقل شأنا منكم ومنكن - ويجب ألا نسعر نار الخلاف أو الاختلاف ونهدم ما بناه السابقون لمجرد خلافات ربما شخصية وربما مهنية.
لا أحد يستطيع ان يفرض شيئا على أحد، فالنشر أمر عائد للكاتب اختيارا وليس خوفا، وهاأنذا أكتب هذا المقال قبل ساعتين فقط من اجتماع مع من تظنين انهم مرعبون ارهابيون، بل اني لا أزال أعمل على تعليق (تراث) على لوحة الاعلانات، فليس من أحد ان يصادر حق النشر لأحد، بل ان ذلك موضة قديمة عفى عليها الزمن.
اصدقك قولا ولا أكذبك شعرا، الابداع في الشعر كاللوحة السريالية كل يقرؤه حسب رؤيته (وهذا اجمل اللي كان في الصورة)، وهذه سوق مفتوحة فيها الرائج وفيها الكاسد ولا يكون ظنك إلا سيئا (في التجارة) - قاعدة وضعها لنا الامام الشافعي في ديوانه - فاتركي هذا العناء واتحفينا بلذيذ الاطايب من موائد شعرك، فكل فيه الخير ولا نزكي على الله أحدا
العدد 323 - الجمعة 25 يوليو 2003م الموافق 26 جمادى الأولى 1424هـ