العدد 336 - الخميس 07 أغسطس 2003م الموافق 09 جمادى الآخرة 1424هـ

العلاف... والخلط بين الكلام والفلسفة

فرق المعتزلة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في الجزء الثاني من كتابه «الفصل في الملل والاهواء والنحل» يقول ابن حزم الظاهري (الاندلسي) ان اقرب فرق المعتزلة إلى أهل السنة أصحاب الحسين بن محمد بن النجار، وبشر بن غياث المريسي، ثم أصحاب ضرار بن عمرو. وأبعد المعتزلة عن أهل السنة أصحاب أبي الهذيل العلاف.

لماذا صنف ابن حزم المؤسس الثالث للاعتزال في مرتبة بعيدة عن أهل السنة؟ الفقيه الاندلسي على المذهب الظاهري وهو مذهب سني اضمحل مع مرور الايام وكان يأخذ بظاهر القرآن ويرفض التأويلات والتفسيرات التي تقرأ باطن النص. فالظاهرية مذهب يرفض القياس والمنهج الاشعري (الكلامي) ويميل إلى الاجتهاد في النص كما هو ظاهر ويبتعد عن كل محاولة للاستقراء والاستبطان وهذا ما جعل ابن حزم يضع العلاف على مسافة بعيدة عن السنة. ويقول الجرجاني في كتابه «التعريفات» عن الهذيلية ان (العلاف) هم «أصحاب أبي الهُذيل، شيخ المعتزلة، قالوا بفناء مقدورات الله تعالى، وان أهل الخُلْد تنقطع حركاتهم ويصيرون إلى خُمود دائم وسكون» (ص 320).

مثل هذا الكلام يعتبر بدعة ضالة في رأي ابن حزم ومبالغة في تأويل النص واستبطانه. ويذكر الشهرستاني في «الملل والنحل» أن العلاف هو أول من فلسف مسألة التوحيد حين قال ان ذات الله لا كثرة فيها، وانما الصفات ليست وراء الذات معاني قائمة بذاته بل هي ذاته. ورأى العلاف ان التكوين (كن) يأتي لا في محل. وفي مسألة القدر فهو قدري الأولى وجبري الآخرة. ويؤكد مثل هذا الكلام الفخري في كتابه «تلخيص البيان» حين يكرر ان أصحاب الهذيل انفردوا باقوال وان فرقته قالت «ان أهل الجنة لا حركة لهم وان الله لا يقدر تحريكهم، بل يصيرون جمادا لا يقدرون على الحركة والبراح عن مواضعهم. فهم احياء يتلذذون، لكنهم لا يأكلون ولا يشربون ولا يجامعون». ويضيف، وقالت ايضا «ان الله ليس بخلاف خلقه» (ص 89 - 90).

أثار هذا النوع من التأويل الكلامي الكثير من الشكوك ودفع الكثير من شيوخ المعتزلة وتلامذته إلى الانفصال عنه والرد عليه. وأشهر ردود المعتزلة على شيخهم العلاف كتاب المرداد في تكفيره، وكتاب الجبائي في الرد عليه وتكفيره في مسألة المخلوق، وكتاب جعفر بن حرب المعروف باسم «توبيخ ابي الهذيل»، وذكر فيه ان قوله يجرُّ إلى قول الدهرية. فالعلاف احرج المعتزلة في اقواله حين انكر ان يوصف الله بالقدرة. فهو تأثر بكتب ارسطو طاليس واخذ عنه المنطق وحاول تطبيقه حرفيا على النصوص فوجد ان الله خلق خلقه لعلة، والعلة هي الخلق، والخلق هو الارادة والقول. وهكذا.

كان العلاف (محمد بن مكحول) من الموالي؛ فهو مولى عبدالقيس. ولد سنة 131 هجرية كما يقول ابن النديم في «الفهرست» ويقال سنة 134 هجرية واتفق على ان مولده كان بعد تأسيس الدولة العباسية في العام 135 هجرية. ويقال انه اخذ الكلام عن عثمان بن خالد الطويل، ولم يلق واصلا ولا عَمرا. وسمي بالعلاف - كما يقول البغدادي في كتابه «الفرق بين الفرق» - لأن داره كانت في منطقة العلافين في البصرة.

عاش العلاف كثيرا وبات شيخ المعتزلة في البصرة. ويقول الشهرستاني عنه كان «شيخ المعتزلة، ومقدم الطائفة، ومقرر الطريقة، والمناظر عليها». وبسبب عمره الطويل شهد في حياته الكثير من الحوادث وعاصر العهود المختلفة من الدولة العباسية من المنصور والمهدي والهادي وهارون الرشيد والأمين والمأمون إلى المعتصم والواثق والمتوكل. وهناك خلاف على تاريخ وفاته. بعض المؤرخين يقول انه توفي في سنة 226هـ في عهد المعتصم وهناك من يقول ان وفاته كانت في العام 235هـ في عهد المتوكل. الا ان المؤكد انه عاش طويلا ويرجح ابن النديم في «الفهرست» انه توفي في أول خلافة المتوكل في سنة 235هـ (وكانت سنه ماية سنة) ولحقه في آخر عمره خرف وضعف عن مناهضة المناظرين. والبعض يرجح انه توفي في سامراء سنة 226 هجرية وهو في 95 من عمره. ومهما كان من أمر وفاته فهناك شبه اجماع على ان العلاف هو من أوائل المنظرين في فرق المعتزلة ونجح في تأسيس مدرسة خاصة به في البصرة ثم انتقل الى بغداد ويقال سامراء في سنة 230 هجرية (حين كف بصره) وتوفي هناك مخلفا عشرات الكتب والاتباع والتلامذة والمريدين. فابن النديم يقول ان له عشرات الكتب في الفلسفة والفقه والحديث والمناظرة. وله ردود على الغيلانة (في الارجاء) وحفص والنظام (القدرية والمجبرة) وضرار وجهم وأبي حنيفة والقبائي والثنوية وأصحاب الحديث في التشبيه، وله كتاب في الصوت (ما هو الصوت؟). فالعلاف بسبب عمره المديد عاصر الكثير من العلماء والفقهاء والقضاة ودخل معهم في مناظرات وردود. كذلك تأثر كثيرا - بحكم وجوده في البصرة - بالمجوسية وطالع كتب فلاسفة اليونان واخذ عنها من دون تدقيق وتمحيص فدخل عقله وقلبه الشك. وله في هذا المعنى كتاب «الشكوك»، وكذلك كتاب «ميلاس». وميلاس كان مجوسيا ثم تحول الى الاسلام على يد العلاف، وكان سبب إسلامه انه جمع (عقائديا) بين ابي الهذيل وجماعة من الثنوية فقاطعهم العلاف فأسلم ميلاس.

وكان للعلاف ولد اسمه الهذيل وكان متكلما ولا كتاب له، ومن أصحابه كان محمد بن شداد (أبويعلي) المعروف بزرقان وهو صاحب ثلاثة كتب.

الا ان أهم تلامذته كان الشحام (أبويعقوب) الذي سيكون له شأنه الكبير في الاعتزال وسيأخذ رئاسة المعتزلة في البصرة بعد رحيل استاذه.

يعتبر العلاف حلقة مهمة في سلسلة فرق المعتزلة فهو الثالث من ناحية الترتيب الزمني. وأهميته انه جمع بين الاعتزال في كلامه البسيط واقوال المؤسسين وربطه بمجموعة تأويلات خلطت بين موروثات قديمة دخلت البصرة من جهة الشرق وترجمات حديثة بدأت في عهد هارون الرشيد وازدهرت في عهد المأمون. فالعلاف بهذا المعنى يعتبر حلقة وسطى بين الكلام في عهد الاوائل والفلسفة في عهد الجيل الذي جاء بعده. وبسبب تلك الظروف اختلطت في ذهنه الكثير من الامور وبالغ في التأويل والتفسير إلى درجة جعلت الخياط (أبا الحسين) وهو من كبار شيوخ المعتزلة لاحقا يعتذر عن ابي الهذيل لما لحق الاعتزال من ردود سلبية بسبب كلام العلاف عن «فناء مقدورات الله حتى لا يكون بعد فناء مقدرواته قادرا على شيء».

اعتذر الخياط عن العلاف في هذا الباب شارحا قوله عن الحركة والحوادث قائلا عن هذه المسألة: ان الآخرة دار جزاء وليست دار تكليف.

العلاف اذن، وكما يقول ابن حزم، أبعد المعتزلة عن أهل السنة. وهو - كما يقول البغدادي - من أوائل من قسم المعارف بين الايمان والعلم. وفي رأيه أن الأول اضطراري وهو معرفة الله ومعرفة الدليل الداعي الى معرفته. والثاني اكتسابي وهو العلوم الواقعة عن الحواس أو القياس، وهو علم اختياري يأتي من طريق الاكتساب.

أدخل العلاف المعتزلة في جدل طويل تشعب إلى حقول وميادين شتى طاولت الايمان والعلم والعقل. وبسبب هذا التشتت لاحظت الدولة العباسية دورها السجالي في اثارة قضايا حساسة لها صلة بمعركتها السياسية الخاصة ضد العلماء والفقهاء والقضاة سواء ضد أهل السنة أو ضد آل البيت... فالخلافة العباسية كانت تبحث عن مذهبها الخاص لتركيز عناصر القوة في الدولة وحين تخاصم المنصور مع آل البيت رفض فقهاء وعلماء وقضاة أهل السنة الوقوف معه في معركته... فاتجهت الدولة من بعده الى البحث عن قوة ايديولوجية (عقائدية) تبرر وجودها ودورها، فوقع اختيارها على المعتزلة. ومنذ تلك اللحظة لحظة التقاء المصالح تقدمت المعتزلة الى محطة جديدة في تاريخها وهي الانتقال من القعود عن السياسة الى الكلام فيها. وكان أول من قاد المعتزلة الى الدولة أحد شيوخها وصديق الخليفة المأمون: ثمامة بن اشرس

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 336 - الخميس 07 أغسطس 2003م الموافق 09 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً