العدد 358 - الجمعة 29 أغسطس 2003م الموافق 02 رجب 1424هـ

الغموض الأميركي

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الغموض هو سيد المواقف الأميركية في العراق. فإدارة البيت الأبيض لاتزال مترددة في البوح بالأسرار أو قول الحقائق التي دفعتها لشن الحرب. والرئيس جورج بوش يتخبط في سياسته في وقت أشارت الاستطلاعات إلى ميل الرأي العام نحو المزيد من الابتعاد عن استراتيجية الحزب الجمهوري الهجومية. فالرئيس الطامح نحو تجديد فترة رئاسته لدورة ثانية وجد نفسه في وضع لا يحسد عليه قبل 14 شهرا من الانتخابات. فالاقتصاد يتراجع وعجز الموازنة يتضخم شهريا إذ وصل إلى أكثر من مليار دولار يوميا. والسياسة الخارجية بدأت تصطدم بحواجز يصعب تجاوزها إلا إذا قررت «البنتاغون» توريط الرئيس في مزيد من المغامرات العسكرية.

المشكلة أن الرئيس الأميركي اكتشف أن استراتيجية «الحروب الدائمة» مكلفة ماليا ومردودها السياسي أقل بكثير من النتائج المتوقعة. وما تسميه الإدارة الأميركية بخطة «مكافحة الإرهاب» في كل مكان وأي زمان لم تثمر وجاءت النتائج أقل بكثير من التوقعات. ففي أفغانستان مثلا فشل الاحتلال الأميركي في ترتيب دولة تستطيع الوقوف وحدها من دون دعم اقتصادي ومساعدة عسكرية. فالقوات الأميركية اكتشفت أن «النظام البديل» الذي ابتكرته بعد حربها على «طالبان» و«القاعدة» وصل إلى حال من الضعف لا يستطيع الصمود بضعة أسابيع إذا قررت واشنطن الانسحاب من كابول.

العراق أسوأ من أفغانستان في الحسابات الأميركية. وحتى الآن لاتزال إدارة البيت الأبيض غير قادرة على تكييف الشعب العراقي مع وجودها وفشلت في اقناع مختلف الفئات والطوائف والمذاهب والمناطق على قبول الأمر الواقع وتطبيع عادات وتقاليد الناس مع الاحتلال.

حتى الآن لايزال «النظام البديل» في العراق يبحث عن تغطية عربية لشرعيته في وقت فشل في كسب ثقة الناس وضبط انفعالاتهم السياسية التي تبدو غير منسجمة مع نتائج الحرب على رغم ارتياح الشرائح الاجتماعية من سقوط النظام السابق. هناك إذا أكثر من مشكلة. والمشكلات الممتدة من أفغانستان إلى العراق تؤكد مجددا أن استراتيجية «الحروب الدائمة» نظرية فاشلة في عصر بلغت فيه «العولمة» درجة متقدمة على مستوى السلوك الإنساني وحاجات دول العالم إلى بعضها بعضا. أميركا تريد فرض سطوتها العسكرية بذريعة مكافحة الارهاب، والعالم يريد المزيد من التعاون لكسر الاحتلال وتقليل سلبيات السطوة العسكرية.

ومن هذه النقطة تبدأ سلسلة مفارقات ستنتهي في آخر الشوط إلى انهيار استراتيجية «الحروب الدائمة». فأميركا تضغط على دول العالم دافعة إياها إلى فتح أسواقها وإلغاء الرسوم الجمركية على البضائع المستوردة ووقف دعمها لصناعاتها الوطنية وتسهيل المعاملات المصرفية وإصدار قوانين تشجع على حرية انتقال الأموال والاستثمارات من دون شروط أو قيود. كل هذا تطلبه واشنطن وتضغط على مختلف دول العالم لقبوله شرطا لدخول عصر «العولمة» وفي المقابل تتجه إدارتها في الداخل إلى مزيد من الانغلاق واتباع أساليب متشددة في مرقابة مواطنيها وملاحقة المقيمين فيها من جنسيات مختلفة. أميركا تريد من العالم الانفتاح عليها وقبول شروطها تمشيا مع مصالحها وفي الآن نفسه تتجه إدارتها إلى غلق حدودها أمام القادمين إليها ومنع الناس (وأحيانا الدول) من الاستفادة من ثرواتها. أميركا تريد مشاركة العالم وترفض العالم مشاركا لها. وهذا ينطبق على السياسة كما هو حاصل في الاقتصاد.

أمثلة أفغانستان والعراق وفلسطين وغيرها تشير إلى وجود خلل في الاستراتيجية الأميركية. وهذا الخلل يفسر التناقض في سياساتها وسلوكها وترددها في المضي قدما أو الرجوع من حيث أتت.

الغموض هو سيد المواقف الأميركية في العراق. فإدارة البيت الأبيض تطلب من «الدول الصديقة» مساعدتها في إرسال قواتها لضبط الأمن وترفض في الآن ذاته إعطاء دور خاص ومميز للأمم المتحدة لقيادة مسيرة التحول أو إعادة البناء. وأميركا فشلت في مهمتها ولكنها مترددة بين الانسحاب المحدود من وسط العراق وتفريغه من القوات وبين إرسال المزيد منها (30 ألف جندي) بذريعة مكافحة الارهاب من «بغداد إلى القدس» كما قال بوش.

كل خطوة لها ثمنها السياسي وكلفتها المالية. ولأن نظرية «الحروب الدائمة» قامت أصلا على سلسلة أوهام (جنون العظمة) فإنها في النهاية ومهما عاندت واشنطن حقائق التاريخ ستنتهي إلى نتائج كارثية لن تكون الولايات المتحدة بعيدة عنها

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 358 - الجمعة 29 أغسطس 2003م الموافق 02 رجب 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً