حين فاز الفلسطيني ايليا سليمان، في العام الماضي، بإحدى الجوائز الزئبقية في مهرجان «كان»، مسجلا بهذا، ثالث انتصار سينمائي عربي دولي كبير بعد سعفة محمد الأخضر حامينا الذهبية، لدورة «كان» 5791، عن فيلمه «وقائع سنوات الجمر»، وجائزة ثانية فاز بها مارون بغدادي اللبناني في العام 1991 عن فيلمه «خارج الحياة» في دورة ذلك العام لمهرجان «كان» نفسه، هذا اذا وضعنا جانبا الجائزة التي منحت في «كان» 7991 ليوسف شاهين عن مجمل أعماله، اذ كانت شديدة الخصوصية والاستثنائية.
اذن، حين فاز سليمان آنذاك عن فيلمه «يد إلهية» كان السؤال: وماذا بعد؟ هل سيمكن لسينما عربية تعيش ازمتها الضخمة، على رغم تلك الانتصارات، ان تحقق بعد، نجاحا كبيرا على الصعيد العالمي؟
كان الرد سلبا هو السائد والمنطقي.
ومع هذا اتت المفاجأة من حيث وممن لا يتوقع أحد. اتت من اللبنانية رندا الشهال صباغ، التي كانت اعتادت ان تصخب كثيرا بشأن افلامها السابقة وتعد نفسها بالنجاح والجوائز، لكن النتيجة كانت ان تخرج دائما صفر اليدين.
لكنها هذه المرة «فعلتها»، وأين؟ في واحد من أهم المهرجانات في العالم اليوم... مهرجان «البندقية» في ايطاليا، الذي تفوقت دورته لهذا العام حتى على دورة مسابقة مهرجان «كان»، وقال كل الذين تابعوا دورته الستين هذه انه جاء أفضل مهرجان سينمائي في العالم منذ زمن بعيد.
والحال ان هذا الواقع يضاعف من أهمية الانتصار الذي حققته فيه رندا الشهال، اذ نال فيلمها الجديد الذي شارك في مسابقته الرسمية، جائزة «الأسد الفضي»، وهي ثاني جوائز المهرجان أهمية بعد «الأسد الذهبي» الذي اتى من نصيب فيلم «العودة»» الروسي الرائع.
بالنسبة إلى الذين يعرفون سينما رندا الشهال، قد يبدو الفوز غريبا، اذ ان هذه الاربعينية اللبنانية التي لم تتوقف عن تحقيق الافلام منذ بداية الحرب الاهلية اللبنانية في العام 5791، لم تبد اية موهبة حقيقية في اي من افلامها الروائية الثلاثة التي سبق ان حققتها، من «شاشات الرمل» إلى «الطفرة» إلى «متحضرات».
صحيح ان كلا من هذه الافلام حمل طموحاته ومزاياه، اضافة إلى التعبير عن رغبة مخرجته في ان تحقق سينما جادة وهادفة... ولكن، كان من الواضح ان اهتمام رندا الشهال بالاستفزاز، شكلا وموضوعا، ورغبتها الدائمة في اثارة اهتمام الجمهور الغربي بدلا من مخاطبة كل جمهور، في وهم غلب عليها، وفحواه ان طريق العالمية يمر عبر سينما الفضيحة والاستفزاز... كل هذا منع المخرجة من ان تستغل، بشكل فعال، موهبة كامنة لديها ومعرفة جيدة بفن السينما ولغتها. ومع هذا يمكن القول ان رندا الشهال كشفت في فيلم واحد قديم لها، على الاقل، هو «حروبنا الطائشة»، انها يمكن ان تكون سينمائية حقيقية لو ارادت. فهذا الفيلم الذي حققته قبل سنوات وكان تسجيليا يتحدث عن مشاركتها وأهلها في الحرب اللبنانية، اتى جيدا وصادقا ومشغولا بعناية. وكان النقاد الذين احتفلوا به وقتها يتوقعون للمخرجة ان تحقق من بعده افلاما لا تقل عنه اهمية. لكنها اختارت السهولة وضلت الطريق في فيلميها التاليين.
أما الآن في جديدها «طيارة من ورق» فها هي تستعيد المبادرة... وها هي تحصد اولى جوائزها الكبرى واعجاب النقاد والجمهور في آن معا... وها هي تعيد الوصل بأدائها الجيد في «حروبنا الطائشة».
يدور فيلم «طيارة من ورق» عند الحدود بين الجنوب اللبناني وسورية والجولان المحتلة من قبل «اسرائيل»، وتحديدا في بيئة درزية. وهذا امر تعمدته المخرجة لرغبتها في ان تطرح من خلال هذا الفيلم واحدة من القضايا الشائكة بالنسبة إلى الصراع العربي - الاسرائيلي، ولكن من خلال قصة حب... قصة تقول العقد والصعب من دون شعارات، وبشكل يصل الى القلوب مباشرة. أما قصة الحب في الفيلم فإنها تدور بين صبية درزية ومجند درزي - هو الآخر - في الجيش الاسرائيلي، يقوم بعمله العسكري عند الجانب المحتل من الحدود.
انه جندي يخدم الدولة التي جندته، لكنه في الوقت نفسه عربي درزي لم يختر لنفسه ذلك المصير. وهو اذ يحب الصبية لمياء، لا يرى حرجا في ذلك الحب. كما انها هي حين تحبه لا تبالي لكون وضعيته القسرية جعلت منه عدوا لشعبها. وهكذا، على خلفية هذا الحب الطبيعي جدا، والمستحيل جدا في الوقت نفسه، يقوم بناء هذا الفيلم الشفاف والعميق الذي ما ان انتهى عرضه في «البندقية» حتى صفق له الجمهور أكثر من ربع ساعة.
وعن فيلمها هذا، قالت المخرجة للصحافة بعد نيلها جائزتها المستحقة: «ان الخطأ في الحرب ممنوع لأنه قاتل. وانا بالتدريج تمكنت من ان اخطو الخطوات الضرورية، ليس لإزالة غضبي ازاء ما يحدث، بل لاستيعابه واستخدامه من اجل الفكرة.
هنا اروي حدوتة أو قصة بشر، وأروي قصة حب، لكنه حب يأتي على خلفية الاحتلال الاسرائيلي للجولان. وانا سعيدة لكون فيلمي تمكن من تسجيل هذا التطور لدي ومن تسجيل حالة حتمية جارية في المجتمع العربي».
العدد 373 - السبت 13 سبتمبر 2003م الموافق 17 رجب 1424هـ