العدد 386 - الجمعة 26 سبتمبر 2003م الموافق 30 رجب 1424هـ

قراءة سياسية في معضلة لبنان الراهنة

في ضوء التحولات الاستراتيجية الدولية

إلياس حنا comments [at] alwasatnews.com

كاتب لبناني، عميد ركن متقاعد

عند التغييرات الكبرى، تحمي الدول الصغيرة رأسها. المهمّ بالنسبة إليها هو الاستمرار، والحفاظ على امنها القومي. فهي تحاول في مرحلة التغييرات الكبرى، تقليل الخسائر قدر الامكان. وتبدو الخيارات امامها تقريبا محدودة جدّا، جدّا. فإما أن تعاند فتدفع. أو تصطفّ وراء المؤيّدين، فتركب القطار، لتقبض فيما بعد المكافأة حسب قدر المساهمة في الاستراتيجيّة الكبرى للقوّة المهيمنة.

يقول الكاتب والمفكّر الاميركي جوزف ناي في كتابه «معضلة القوّة الاميركيّة» إن عظمة اميركا الحاليّة، هي بسبب ما تملك من قوّة طريّة، وقوّة صلبة.

تتمثّل القوّة الطريّة بالقيم التي تسعى أميركا إلى نشرها على كل مساحة الكرة الارضيّة. فنشر الديمقراطيّة هي ابتكار اميركي بامتياز. فقد اعتبر احد الآباء المؤسّسين للولايات المتحدّة الاميركيّة، الرئيس توماس جفرسون، ان القوّة هي ليست السبيل الوحيد لبناء الامبراطوريّة الاميركيّة. فهو ارادها امبراطوريّة الحريّة وصرحا لها. وهي تستمّد شرعيّتها من جاذبيّة قيمها، بحيث يسعى العالم إلى تقليدها. إذا، اراد جفرسون ان يُثير في الآخر شعور الحسد، والإعجاب. اما القوّة الصلبة، فهي تتمثّل بما تملك الدولة من دبابات، طائرات وما شابه. اميركا تملك القوّتين، لذلك هي مهيمنة.

يتميّز لبنان عن غيره من دول العالم الثالث، والدول المحيطة به. بأنه كان يملك فيما مضى، القوّة الطريّة بامتياز. قاد لبنان فيما مضى، عمليّة النهضة الفكريّة في زمن الانحطاط العربي. فهو كان مركز الفكر، الكتابة، المسرح والصحافة الحرّة. وذلك في الوقت الذي كانت تعاني فيه المجتمعات العربيّة من كبت وحجز للفكر لم يسبق له مثيل. كذلك الامر، كان لبنان مركز خدمات المنطقة بامتياز. وذلك فقط لان انسانه كان مميّزا. يُضاف إليه، ذلك الانفتاح دون حدود على الغرب المتقدّم، في الوقت الذي كانت تستعر فيه ظروف الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي، والولايات المتحدة الاميركيّة. ففي ذلك الوقت، كان العرب منهمكون في موضوع الصراع المباشر مع «إسرائيل». وفي عمليّة السعي إلى تحقيق التوازن الاستراتيجي مع العدو. تلقّف لبنان هذه الظروف، فتميّز وتصدّر القوى الطريّة في كل العالم العربي. كان لبنان مكتبة المنطقة. وكان مستشفى المنطقة. وكان بنك المنطقة، وجامعة المنطقة. وكان بوّابة الغرب إلى العالم العربي، ومدخل العرب إلى ذلك العالم. باختصار، كان لبنان سويسرا الشرق.

لكنّه، أي لبنان، لم يملك أبدا القوّة الصلبة المتطوّرة او الكبيرة. لذلك هو لم يستطع القيام بمغامرات عسكريّة في محيطه على غرار ما تفعله «إسرائيل». ولم يستطع فرض منطقة نفوذ حوله. ففرضُ هذه المنطقة، يتطلّب كما رأينا سابقا في الوضع الاميركي، مزج الصلب والطري في المعادلة السحريّة. حتى ان المقاربة الاستراتيجيّة لموضوع الصراع العسكري مع «إسرائيل»، كانت تقوم على الشعار الذي يقول، «قوّة لبنان هي في ضعفه». وأتت الترجمة العمليّة والعموديّة، أو بالاحرى الاستراتيجيّة العسكريّة لهذا الشعار المذكور أعلاه، من خلال اعتماد مفهوم الدفاع والقتال التأخيري لأي اجتياح أو اعتداء إسرائيلي على لبنان. كان المهمّ ان يتمّ تأخير العدو في تقدّمه فترة 84 ساعة، كي يتحرّك العالم لوقفه، عبر الامم المتحدة أو مجلس الأمن. وإن اعتماد الدفاع التأخيري هذا ليس بخطأ، لان هناك عوامل كثيرة كانت، ولاتزال تساعد على اعتماد هذا المفهوم. يأتي في مقدّمتها العامل الجغرافي المُساعد للدفاع. لكن النقص والخطورة كانت في عدم وضوح القرار السياسي الكبير، حول موضوع الصراع مع «إسرائيل». وبسبب عدم وضوح هذا القرار الكبير، لم يكن بالامكان الإتيان، أو ابتكار استراتيجيّة عسكريّة ملائمة تُفرض من قبل القيادة العسكريّة، تجعل مهمّة العدو مكلفة جدا، فتردعه عن المغامرة على هواه وعندما يريد. فقد أثبتت المقاومة في جنوب لبنان، أنه يُمكن استنباط القوّة من الضعف. فالمهمّ في ابتكار الاسلوب المناسب لقتال العدو، وذلك بعد دراسة تاريخ طريقة قتال هذا العدو. مزاوجة هذا الاسلوب بتنظيم على صعيد القوى، وتأمين الوسائل اللازمة بعدها. وقد اثبت القتال اللاتماثلي فعاليّته ضد العدو. وفي هذا الإطار، يُقال إنه ولو اعتمدت منظّمة التحرير الفلسطينيّة القتال اللاتماثلي ضد القوات الاسرائيليّة خلال اجتياج لبنان العام 2891. لكان من الممكن تأخير تحقيق الاهداف الاسرائيلية، وحتى منع تحقيقها عبر رفع الثمن المطلوب دفعه من قبل «إسرائيل» إلى أقصاه.

وهو حتى وعندما قاتل، أي لبنان، وقام بمغامرات عسكريّة، فهو لم يستطع الخروج من الإطار العربي. كانت حرب 8491، وعمليّة تحرير الجنوب من ضمن هذا الإطار. ففي حرب 8491 خاض الحرب ضد «إسرائيل» إلى جانب جيوش الدول العربيّة. أما في عمليّة تحرير الجنوب، فهو خاضها بواسطة مقاومة غير رسميّة، لكن مدعومة من الدولة، وبدعم مباشر من سورية وإيران.

ما هي المراحل المهمّة

والخطيرة التي مرّ فيها لبنان؟

تأتي حرب العام 8491 في طليعة هذه المراحل. أدّت حرب العام 8491 إلى تدفّق اللاجئين الفلسطينيّن إلى لبنان. والكلّ يعرف ماذا كانت نتيجة هذا الوجود الإضافي على الأرض اللبنانيّة، في ظلّ تركيبة حسّاسة جدا، وقابلة للانفجار بسرعة.

أتى التحوّل الأكبر بعد نكسة حرب الايام الستّة. فيها خسر العرب حربا لا نزال نعاني من آثارها. تحوّلت «إسرائيل» بعد هذه الحرب إلى قوّة إقليميّة لا مثيل لها. بعد هذه النكسة، نقل العرب لواء الصراع إلى المنظمات الفلسطيّنيّة، وذلك بسبب عجزهم عن قيادة الصراع التقليدي. عانى لبنان من هذا الامر بعد اتفاق القاهرة، وتشريع ابواب جنوبه كمكان وحيد مفتوح للصراع مع العدو الاسرائيلي. ومع الوقت تحوّل الوجود الفلسطيني إلى دولة ضمن دولة. وقد قال الكثيرون من الخبراء والمنظّرين، انه لو شارك لبنان في هذه الحرب، لكان استطاع تجنيب نفسه ويلات الحرب الاهليّة.

شكّلت الحرب اللبنانيّة التحوّل الأكبر على صعيد التركيبة اللبنانيّة. فهي إلى جانب ما دفعه لبنان، فقد أدّت إلى ضرب النسيج الاجتماعي اللبناني. وبدل من ان يكون لبنان سويسرا الشرق، اصبح يُنعت بأنه بلقان هذه المنطقة.

أدّى الوجود الفلسطيني في لبنان، واستعار الحرب بين منظّمة التحرير الفلسطينيّة و«إسرائيل» انطلاقا من الجنوب. إلى اجتياح لبنان العام 2891. ضرب هذا الاجتياح كل ما تبقّى وسلُم من التركيبة اللبنانيّة.

ظلّت الأوضاع الامنيّة تستعر، حتى وصلت عموديّا إلى الاقتتال الداخلي بين الحلفاء على الأرض اللبنانية. وأصبحت الساحة مفتوحة للتجاذبات وبشكل خطير. في هذا الوقت أتى اتفاق الطائف مخرجا للحرب اللبنانيّة، وبهدف توحيد لبنان.

في ظلّ هذه الاوضاع، اجتاح صدّام حسين الكويت، وبدأ التحضير الأميركي لإخراجه بالقوّة. وأعلن الرئيس بوش الاب ان نظاما عامليّا جديدا قد بدأ.

أُخرج صدّام حسين من الكويت، واستمرّت المنطقة تعيش على كفّ عفريت. انعقد بعد ذلك مؤتمر مدريد، وظهر الشعار «الأرض مقابل السلام»، والذي بقي شعارا ليس إلاّ. بدا هذا المؤتمر ومن خلال اهداف اللجان التي صدرت عنه، وكانه يحاول تحقيق الاهداف الاسرائيليّة في المنطقة بطريق سلميّة، وبعد أن عجزت عن تحقيقها بالطرق الحربيّة. ترافقت هذه المغامرة الكبرى، والتي تعبر انها النكسة الاهم للعرب بعد هزيمة 76. مع سقوط الراعي الأكبر للعرب، ألا وهو الاتحاد السوفياتي.

في الوقت الذي كان العرب يهضمون نتائج مؤتمر مدريد، تفرّد الرئيس ياسر عرفات بالأجندة السلميّة الخاصة به. فوقّع اتفاق أوسلو مع «إسرائيل» العام 3991. تبع الاردن الرئيس عرفات بتوقيع اتفاق وادي عربة العام 4991. وبدت الصورة وكأن العرب بدأوا يتهاوون للوقوع في المنظومة السلميّة.

وأخيرا وليس آخرا، أتت ضربة 11 سبتمبر/ أيلول، لتقلب العالم رأسا على عقب. وبسبب اختلاف نوعيّة العدو، ارتكزت الحرب الاميركية على جمع المعلومات، لانها فعلا حرب معلومات. لكنه وللحصول على المعلومات، يجب على اميركا أن تدخل إلى العقول والافكار وبقواها الذاتيّة. فهي بطريقة ثانية، ترث الامبراطوريّة العثمانيّة، وذلك لان مصدر معلوماتها هو ضمن حدود الامبراطوريّة العثمانيّة القديمة. اميركا حاليا في البلقان، في الشرق الاوسط كلّه وفي آسيا الوسطى.

أين لبنان في صورة الوضع الاقليمي؟

تدور أحاديث كثيرة عن نيّة اميركا في استئجار موطئ قدم لها على الشاطئ اللبناني. وهذا امر مستغرب وساذج، حتى إشعار آخر. فأميركا ليست بحاجة إلى الشاطئ اللبناني، وخصوصا مع توافر كل ما يلزم لها في امكنة أخرى. كذلك الامر، لا يجب استبعاد وجود الحليف الأكبر لها على مقربة من لبنان والمتمثّل بـ «إسرائيل». وأخيرا وليس آخرا، تملك اميركا ليونة استراتيجيّة لا مثيل لها في بُعد السيطرة على البحار، فأسطولها موجود على ضربة حجر من الشاطئ اللبناني. فعلى سبيل المثال، وعندما أغلقت تركيا ابوابها بوجه القوات الاميركية قبيل بدء الحرب الاخيرة على العراق. استطاعت اميركا تحويل جهدها إلى مكان آخر بسهولة وليونة كبيرتين، وحتى دون إجراء أي تعديل جذري في المخطّط الأكبر.

يشكّل لبنان لاميركا حاليّا مشكلة معيّنة. فلبنان يحوي كل ما تهتمّ به اميركا حاليا، والمندرج في استراتيجيتها الكبرى. فهو - أي لبنان - يحوي عناصر المعضلة الفلسطينيّة، وخصوصا فيما خصّ موضوع اللاجئين. كذلك الامر، يحوي الفريق «أ» فيما خصّ الحرب على الارهاب بحسب توصيف أحد اعضاء الكونغرس له، والمتمثّل بحزب الله. كذلك الامر، تخاف اميركا من ان يصبح لبنان ملاذا لعناصر القاعدة، ومركزا لتمويل المنظمات الارهابيّة. وهذا ما تحاول ضربه عالميا من خلال استراتيجيّتها الكبرى. وإلا فما معنى زيارة وزير المال الاميركي للمنطقة، وعلى جدول اعماله بند واحد فقط، يتمثّل بتجفيف انابيب المال التي تصبّ في جيب الارهابيّين؟

لكن اميركا تعرف في قرارة ذاتها، انها وعندما تر

العدد 386 - الجمعة 26 سبتمبر 2003م الموافق 30 رجب 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً