العدد 2645 - الأربعاء 02 ديسمبر 2009م الموافق 15 ذي الحجة 1430هـ

أوركسترا الإشارات

أمضيت فترة أقرأ فيها النفّري، يوميا، منذ أن تيسر لي أن أكتشفه مصادفة، في أواسط الستينيات من القرن الماضي. كنت أشعر، فيما أقرؤه، أن لتاريخ الكتابة العربية قنديلا يقرأ هو كذلك، إلى جانبي، مجموعة الرسائل التي كتبها ليل النفّري إلى شموسه الخفية.

كل شيء في حياة النفّري يؤكد أن ثديه الأول في رضاع الكتابة ينحدر من سلالة الكشف، وأن ثديه الآخر ينحدر من سلالة اللانهاية.

ربما لهذا كنت أشعر كلما قرأته أن جمرة طالعة من أحشاء بركانٍ تتوهج في كل عبارةٍ، ثم تتحول بعد هنيهةٍ إلى زهرةٍ بلون وردةٍ جورية.

وكان يخيل إليّ أن الموت في كتابته سريرٌ في شكل طائرٍ أخضر، وأن الحياة وسادةٌ في شكل وردةٍ مأخوذةٍ بالسهر على عطرها.

أكيد أن النفّري كان، كما تنبئ كتابته، يمضي وقته في ما لم يفكر أحدٌ من أسلافه: يبتكر شفتين للنهار، وذراعين لليل، ويرسم كواكب خاصة تدور في فلك الأبجدية.

وفيما كان يغتصب طريق العبارة إلى فتوحاته كان يترفق بالدواة، ويربِّت على كتفي الحبر.

ومازلت أسعد بالتَّرحل بين يدي كتابته، وفي ينابيع لغته، كلما رجَّني الشوق إلى أن أسمع نشيد الصور، أو أحتضن أوركسترا الإشارات.

أتخيل أنني لو سألت النفّري اليوم: لماذا تكتب، أعني: لماذا كتبت، فسوف يجيب: كتبت بحثا عن الحقيقة وكشفا عنها.

والحقيقة مقيمةٌ في كل مكانٍ، وفي داخل الإنسان أولا، وهي إذا، توأم الكتابة وفي هذا تكمن مخاطرة الكتابة. والمخاطرة هنا جزء من الطريق إلى المعرفة، وجزء من المعرفة نفسها. وفي كتابة النفّري نجد نموذجا عاليا لهذه المخاطرة. فهي، من جهةٍ، خرقٌ للسائد المعرفي، وهي، من جهة ثانية، افتتاح لمسالك جديدة نحو عرفانٍ جديد.

غير أن معرفة لا جهل فيها، لا معرفة فيها، كما يقول النفّري. ومعنى ذلك أن المعرفة لا تنتهي أو لا تكتمل، وأن الحقيقة بحث متواصل واكتشاف دائم، نستشرفها، نستشفها، نستضيء بها، غير أننا لا نقبض عليها بشكلٍ نهائي ومطلق.

لنقل إذا، مع النفّري: يظل فجر الحقيقة وعدا أمام خطوات ليلنا. كأنما الحقيقة تقترب فيما تبتعد، وتبتعد فيما تقترب. هكذا لا يقدم الفن قصيدة أو لوحة كما لو أن الحقيقة فيها ثمرةٌ جاهزةٌ للقطاف، بل يقدمها كما لو أنها فضاءٌ مفتوحٌ نسافر فيه، نتساءل، نتخيل، نستقصي، ونكتشف. ونشعر في هذا كله كأننا نعيش في حراسة حلم يعيش في حراسة الريح، أو كأننا نعوض عن فقر الواقع بغنى المخيلة.

النفّري في آنٍ شاعرٌ مفكرٌ، مفكرٌ شاعرٌ. والسؤال الذي يطرحه على العالم هو، إذا، سؤال مزدوجٌ: كيف أعرف العالم، وكيف أكتبه؟

ولئن كان فكريا، يحاور أشياء العالم، فهو شعري، يراقصها. ولئن كان يقيم في الفكر معها، فهو في الشعر ترحُّلٌ دائم فيها. ولئن تعب الفكر ومال إلى التمنهج للتحديد والتبسيط، فإن الشعر طاقةٌ دائمةٌ لزحزحة النجوم، خصوصا أن أبواب المعرفة لا تفتح، عمقيا إلا بمفاتيح الشعر.

يخلق جمال عبد الرحيم في أعماله الفنية مناخا للحوار مع النفّري، في غوامضه وإشراقاته. لا الحوار مع المرئي المقروء وحده، بل الحوار أيضا مع اللامرئي المتخيل اللامقروء.

ويعرف في هذا كله كيف يرسم الغيوم لكي يحسن رسم الصحو. وهو من أجل ذلك يوغل في أحشاء اللون، ويشعل فيها الأضواء، آخذا بما يقوله جيوردانو برونو: «التصوير الحقيقي شعرٌ وموسيقى وفلسفة».

هكذا كلما اتسعت الرؤية ضاق اللون، تطابقا مع قول النفّري: « كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة». وفي هذا الضيق الواسع، يتراءى لنا أن لغة النفري كمثل زلزال، تستطيع أن تجعل جبلا يتمايل، وبحيرة ترقص.

يتراءى لنا أيضا كأن الأبجدية تحب أن تتمرأى دائما في جسد هذه اللغة.

شكرا، جمال عبد الرحيم. تتيح لنا بأعمالك أن نكتشف من أفق آخر، وفي سياق آخر، عالم النفّري: من عتبة فنك، ندخل إلى أنهاره الجوفية. نسير مع الموج ممزوجا بسواد ليل بهي، بحمرة شمس ساعة الغروب، كأننا نسير على ضفاف كلمات ألوان، وألوان كلمات، هي نفسها. بحيرات وقوارب وأشرعة.

العدد 2645 - الأربعاء 02 ديسمبر 2009م الموافق 15 ذي الحجة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً