ضمن نشاطها الثقافي، نظمت جمعية وعد في فرعها بعراد محاضرة للأستاذ فوّاز الشروقي بعنوان «نحو تديّن متصالح مع العقل» حضرها عدد كبير من الجمهور والمثقفين والمهتمين بالفكر والثقافة وشهدت مشاركة كبيرة في النقاش والتعقيب.
وفي بداية المحاضرة، عقد الأستاذ فوّاز الشروقي مقارنة بين المجتمعات التي آمنت بقدرات العقل ومنحته الثقة في إدارة دفّة حياتها وما وصلت إليه من تقدّم وازدهار وحضارة، وبين مجتمعاتنا التي عطّلت العقل وألغت دوره من الحياة، مستعيضة عنه بالنصوص التي أصبحت تتحكم بالحياة بوجه عام.
وطرح الشروقي السؤال: هل الدين هو ضدّ العقل؟ وهل المتدّين مطلوب منه أن يلغي عقله حتى يصبح متديّنا؟ ومن جهة أخرى: هل الذي يريد أن يثق بعقله ويجعله يقوده في حياته مطلوب منه ألا يكون متديّنا؟
وقدّم الشروقي إجاباته عن هذه الأسئلة من خلال استعراض تاريخي للمساحة التي منحتها المجتمعات الإسلامية للعقل منذ بدء بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا، مؤكّدا أنّ الإسلام في عصر النبوّة لم يحجر على العقل بتعليماته الصارمة وإنما وضع له مبادئ عليا وغايات سامية وترك للناس الخيار في اختيار الوسائل التي لا تخرج عن هذه المبادئ والغايات.
وأوضح الأستاذ فوّاز الشروقي أنّ الغايات الأساسية التي دعا إليها الإسلام هي الوحدة والحرّية والعدل والمساواة واحترام قيمة الإنسان، مبيّنا أنّ النصوص القرآنية، وسيرة النبيّ والتعليمات الصادرة منه لا تخرج عن نطاق هذه المبادئ والغايات، إلا أنّ الوسائل للوصول إلى هذه المبادئ والغايات تختلف باختلاف الزمان والمكان وبتبدّل الظروف والأحوال.
وأكد الشروقي أنّ عددا كبيرا من المسلمين حادوا عن هذه الغايات والمبادئ وتمسّكوا بحرفية النصوص، وركّزوا على الوسائل التي كان يسلكها النبي وأصحابه في ذلك العصر وأهملوا الغايات والمبادئ التي كان يسعى إلى تحقيقها الأولون. مضيفا: أنه من الطبيعي أن يصم الآخرون المسلمين بالرجعية لأنّه لا يمكن استحضار الماضي للإجابة على أسئلة الحاضر والمستقبل، فكلّ عصر له وسائله وطرقه، ولقد كان يجب أن تتغيّر الوسائل والطرق للوصول إلى غايات الإسلام ومبادئه، لا التشبّث بهذه الوسائل مهما قدُمت.
وأشار الأستاذ فوّاز الشروقي إلى أنّ نتيجة اهتمام النّاس بالوسائل والقشور والمسائل الهامشية على حساب الغايات والمبادئ السامية، ونتيجة الاعتماد على النصوص في الوصول إلى الأحكام الحياتية والاتكال على «المتخصصين في الشريعة» لاستنباط الأحكام من هذه النصوص تعطّلت حركة العقل وتوقفت مسيرة التفكير وتحوّلت المجتمعات العربية والإسلامية من مجتمعات منتجة للمعرفة إلى مجتمعات متوجّسة من المعرفة الجديدة ومكتفية بنقل المعرفة، مما أدّى إلى تراجع المجتمعات العربية والإسلامية في سلّم الدول المتقدّمة.
وأضاف أنّ الاعتماد على النصوص والاتكال على المتخصصين في الشريعة جعل مهمّة التفكير مقتصرة فقط على مجموعة قليلة من الناس التي تكون مهمتها استنباط الأحكام من النصوص، مما نتج عنه تعطّل حركة الإنتاج المعرفي وتوقف الإبداع في كثير من المجالات، وإتاحة المجال للمجتمعات الأخرى التي آمنت بالعقل وآمنت بقدراته ومواهبه وطاقته للانفراد بصدارة الأمم واحتلال المراتب العليا في سلم التقدم والحضارة.
وبيّن الأستاذ فوّاز الشروقي أنّ الحلّ لهذا الإشكال ليس في إلغاء الدين ولا التديّن، ولكن في إجراء مصالحة بين التديّن والعقل، بحيث يتمّ الاعتماد على الغايات الأساسية والمبادئ العليا للشريعة كمرجعية أساسية في بناء الأحكام الدنيوية، وإتاحة المجال للعقل في اختيار الوسائل المؤدية لتحقيق هذه الغايات والمبادئ.
وبعد نهاية المحاضرة، عقّب الأستاذ محمد العثمان الكاتب والصحافي قائلا: إنّ هناك أشخاصا مستفيدون من عملية تعطيل العقل ولا يريدون أن يستيقظ الناس من سباتهم ويفكّروا لأنهم بذلك سيخسرون وجاهتهم الاجتماعية ومكانتهم السياسية، ولذلك فهم يحاربون أيّ فكرة تدعو إلى تحرير الناس من القيود وإطلاق العنان لأفكارهم، مبينا أنّ من الواجب أن يتمّ تنوير الناس بهذه الأفكار العقلانية التي تؤدّي إلى نهضة الأمة وتطوّر المجتمع.
بعد ذلك عقّب الأستاذ عبد الله الحداد عضو جمعية وعد قائلا: إنّ هناك تنميطا للعلاقة بين الفرد والله وبين الفرد والمجتمع، وهذا التنميط ألغى العفوية في العبادة والتعامل اليومي، مبينا أنّ المجتمعات قد انشغلت بهذا التنميط وكان ذلك على حساب تكريس جهودها لبناء المجتمع.
ثم تحدثت الصحافية حنان سالم قائلة بأنّ كثيرا من الممارسات التي جرت بالتاريخ إلى يومنا هذا هدفها سياسي، وأنّ السياسة أثّرت على طهر الإسلام وطهر مبادئه السامية، حيث كانت الكثير من الممارسات تعطى بعدا دينيا لتبريرها، مؤكّدة على أنّ الإسلام بريء من كثير من الممارسات التي تجرى باسمه.
ودعا عدد من المشاركين إلى تحويل موضوع هذه المحاضرة إلى ورش عمل وإشراك المتخصصين بها من أجل تحويل الفكر الديني إلى طاقة منتجة للمعرفة وإلى التصالح مع العقل والإيمان بقدراته والعودة بالإسلام إلى مبادئه العليا وغاياته السامية.
العدد 2645 - الأربعاء 02 ديسمبر 2009م الموافق 15 ذي الحجة 1430هـ