العدد 2330 - الأربعاء 21 يناير 2009م الموافق 24 محرم 1430هـ

غزَّة... والطغيان التقني

تحاول أن تفهم: إلى متى سيتوقف صبر هذا الدم؟ تحاول أن تستوعب قدرة هذا الدم على الجهر بالتحدِّي والعصيان والتمرُّد أمام عمى آلة الخسف الصهيونية، وآلة «التآمر العربي» أيضا!

تحاول أن تفهم كيف باستطاعة هذا الدم أن يشرع سبابته في وجه طغيان تقني، وطغيان لا أخلاقي، وطغيان خارج دائرة الحس؟ تحاول أن تفهم من أين لهذا الدم طاقة التحدي؟ تحدي منطق الموازين. منطق القنابل الذكية والغبية والفوسفورية والعنقودية؟ منطق التحليق بطائرات F16 والتعامل مع الكائنات الأرضية باعتبارها كائنات خارج الفصائل وخارج التصنيف؟

تحاول أن تفهم حزمة التآمر القريب من الحدود، وحزمة التآمر البعيد من تلك الحدود. تحاول أن تفهم كيف لشعب هذا الرباط الفذ والاستثنائي القدرة على إحراج الأمة، ووضعها في ركن من كشف الخذلان والتآمر وانتظار المن والسلوى من وراء المحيط.

لا أستطيع قراءة هذا الخسف من دون الرجوع إلى الأرضية التي مهدتْ له. أرضية لا يعنيها من قريب أو بعيد صمود تلك الكائنات النبيلة أمام صلف وخسة الآلة التي تحصدها. لا يعنيها أن تحصد آلة الطغيان أطفالا في مدرسة أو عجائز في مأتم. ما يعنيها أن تثبت قدرتها على صنع قيامتها وخسفها ومحوها. قيامة إرجاع الأرض والحرث والنسل إلى السيرة الأولى.

أيُّ دمٍ هذا الذي يضعك في مهب حرج لا مثيل له؟ أيُّ دمٍ ذلك الذي يدفعك دفعا إلى إعادة النظر في نص الدرس؟ درس تأملك وقراءتك وتتبُّعك لهذا الخسف. الخسف الذي لا يشبهه خسف مرَّ على ذاكرتك أو حتى نسيانك.

تحاول أن تفهم كيف يمكن لهذا الدمِ القدرة على الاستفزاز والتحدي وحتى الاستدراج. الاستدراج إلى فعل الحياة، على رغم أنه في صورته المباشرة، استدراج إلى فعل الموت ومنتهى درسه.

تحاول أن تفهم هذا النسيج غير البريء في الموقف السياسي الذي يطلُّ عليك عبر وسائل إعلام تَفُحُّ من التشفي ما يتجاوز بأضعاف قدرةَ أيِّ أفعى كوبرا في بيداء/ الحاضرة العربية. تحاول أن تعود إلى درس العادات. عادات أهلك وتراثك وامتدادك، وحتى تراث يأسك. يأسك من الأهل والتراث والامتداد، فلا تجد من التواطؤ ما يجاري الماثل أمامك، والمعاين إزاءك. تذهب إلى درس الأبدية. الأبدية التي تعيدك إلى الخسف الضروري. بالبدء في تفعيل رفضك واستهزائك بمنظومة القبول والتناغم، ولكنك تصطدم بما يظن أنه أليف. أليف في محاولة إقناعك بقبول خسف تلك المنظومة. ولا حق لك بعده (القبول) في إبداء أيِّ ندم أمام طغيان لا أخلاقي وتقني يكاد يعيد هذا الكوكب إلى سيرته الأولى.

تبحث عن «إسماعيلك»... عن «يوسفك»... عن المذبح... الذي دشن به درس النحر. عن البئر التي دشن بها درس الغدر الأول. تحاول أن تبحث عن التكوين المقنع للصبر أو التفرج على هذه الملهاة. ملهاة قدرتنا على اصطناع غروبها في صبيحة الدم. قدرتنا على مسايرة إنتاج الخيارات، وخسف الأعياد. قدرتنا على الإمعان في الذبح وترك الحَمَام في غربة دمه وتشرده في الجهات. قدرتنا على اصطناع الهدوء، فيما الدم في ذروة لمعانه وسخونته.

تبحث عن مناديلك في هذه الريح الخاسفة. تبحث عن تلويحات في موانئ لا أحد يحضرها. تبحث عن نهارات صادرها حاجز الصوت، وهشاشة صمت في الحضيض من احتجاجه السري.

أيُّ دَمٍ يضعنا أمام مرآة تجردنا من ورقة التوت الأخيرة؟ هل ثمة ورقة توت أصلا؟

العدد 2330 - الأربعاء 21 يناير 2009م الموافق 24 محرم 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً