يعد ليو شتراوس ثروة جيدة للفكر النازي منذ وقت مبكر، ولا أحد يعترف له بهذا الفضل أكثر من «الحقوقي النازي» كارل شميت (1888 - 1985). استعان كارل شميت بالكثير من المصادر الرجعية بما فيها القانون الروماني ونابليون وروسو وكانت وهيغيل وهوبز ودونوزو كورتيز المناهض للثورة الاسبانية لكي يقدم نظرية اصطناعية في القانون افضت الى التخلي عن دستور جمهورية فايمار، وأضفت صفة الشرعية على اعتلاء أدولف هتلر السلطة. وعندما اصابت ظروف الكساد العالمي المانيا في العام 1929 جيء بكارل شميت إلى الحكومة ليكون مستشارا لحكومات بروننغ وفون بابين على التوالي، يقدم المشورة في تطبيق سياسة التقشف من خلال الحكم بقانون الاحكام العرفية.
وكما سيتضح في هذا السياق، كان تحليل شميت القانوني لدكتاتورية المفوضين ودكتاتورية الحاكم الواحد المستندة الى المادة 48 من دستور فايمار الذي وضع أول مرة العام 1922 يقدم الاساس القانوني لتولي هتلر السلطة من خلال إعلانة لقانون الطوارئ وتعليق الحقوق في 28 فبراير/ شباط 1933.
ثم وضع شميت المادة التفويضية التي تعطي المسوغ لصدور قوانين التحويل في 24/3/1933 التي حولت المانيا، بشكل قانوني وفق تحليل شميت، من دكتاتورية المفوضين إلى دكتاتورية الحاكم الفرد.
وبعد الحاح من الفيلسوف مارتن هايديغر انضم شميت الى الحزب النازي ووقف الاثنان معا: هايديغر وشميت، في خط واحد بتاريخ 1/5/1933 للانضمام إلى الحزب بعد ان اتفقا مسبقا على أن ينضما معا. وأخذ شميت يطور نظرية نازية في القانون، تتضمن حذف كلمة «إنسان» من القانون المدني الالماني. اعتقل شميت لكي يقدم للمحاكمة في محاكمات نورنبرغ لجرائم الحرب التي جرت بعد الحرب، وبقي في السجن مدة ثمانية عشر شهرا، لكنه لم يمثل أمام المحكمة، وأطلق حملة طويلة استمرت حتى وفاته العام 1985 لتبرئة سمعته، إذ كان يصور نفسه بأنه ضحية أكاديمية للحوادث، وأنه رجل فكر فقط، كان مؤيدا لهتلر لأنه ليس أمامه خيار آخر.
حملة شميت ضد دستور فايمار
ولد كارل شميت العام 1888 لاسرة كاثوليكية ودرس القانون في جامعات برلين وميونيخ وستراسبورغ إذ نال شهادة الحقوق العام 1910. باعتباره نفسه «كانتيا محدثا» (نسبة إلى الفيلسوف ايمانويل كانت) في شبابه، هاجم الفلسفة الوضعية ومذهب النفعية والليبرالية الفلسفية. ومثله مثل غيره من الأخلاقيين المحافظين الرومانسيين في تلك الأيام، اعتقد شميت أنه قدم وصفا دقيقا للعالم المحيط به عندما قال إن هذا العالم خال من «الروح».
وقد وصف عصره بأنه «عصر بعيد عن الفن ومادي ونسبي ورأسمالي» يعلو بـ «الوظيفة» التي هي وسيلة كبرى «لهدف لا معنى له ولا فائدة» فالحق تحول الى سلطة، والعقيدة إلى حسابات، والحقيقة الى اعتراف عام بالدقة، والجمال الى ذوق رفيع، وعوضا عن الخير والشر يوجد التمييز الاسمى بين ما هو نافع وما هو مدمر. هاجم شميت النظرية الوضعية السائدة في القانون ووصفها بأنها نظام للعرف السائد عقيم واجرائي مغلق، وهي محايدة أخلاقيا وغير قادرة على الهام الشعب بالاخلاص والتضحية. ولا أحد يضحي بنفسه من أجل الفلسفة الوضعية.
إبان الحرب العالمية الأولى خدم شميت في الاركان العامة يشرف على تنفيذ قانون المحاكمات العسكرية. ومنذ ذلك الحين فتن شميت بأفكار ادارة الازمات و«حالة الطوارئ» أو «حالة الاستثناء». وطبقا لما يقوله شميت فإن طريقة تصرف الدولة في مواجهة «الخطر الملموس» أو «الموقف الملموس» هي التي تقرر شرعيتها، من دون أي هدف اخلاقي آخر. ورأى شميت ان انتشار الثورة الروسية هو أكبر خطر يهدد المانيا، وأغرق نفسه في دراسة الفاشية الايطالية واللينينية في آن معا، وخرج من هذه الدراسة تابعا من اتباع موسولينيني، زاعما بأن «الدوتشي» وحد الكنيسة وان دولته دولة فاشية يخضع فيها الفرد وحقوقه لمصلحة الدولة، واقتصاد حر وقد أوجدت مجموعة من الاساطير القوية التي من شأنها أن تحرك الدوافع لدى الشعب. وكان شميت الى جانب ذلك على قناعة بأن النظام المغلق للقوانين الوضعية والعرف الديمقراطي السائد لا حول لها ولا قوة في مواجهة الحركات السياسية التي تلقى التأييد الشعبي والاساطير اللاعقلانية التي يستخدمها البلاشفة لتحقيق نجاح على المستوى الشعبي. فـ «الأعراف الديمقراطية» اخفقت في ظروف التراكمات الاجتماعية لأن لحظات كهذه تمثل طفرات لا خطية ولحظات «اصلية».
مبتدئا بكتابه الصادر العام 1919 بعنوان «الرومانسية السياسية» وعبر كتب أخرى وخطب كان يصدرها أو يلقيها كل سنة إلى أن انتهت جمهورية فايمار العام 1933، هاجم شميت بلا هوادة الجمهورية ودستورها. ففي كتابه «الرومانسية» ثم في كتابه «أزمة الديمقراطية البرلمانية» وأيضا في كتابه «الدين السياسي» هاجم شميت الليبرالية وحماية حقوق الفرد والتعددية في الجمهورية الألمانية ووصفها بـ «الرومانسية». وكان هجومه ترديدا لهجوم ثورة المحافظين وحزب الشعب الاميركي في الولايات المتحدة في تلك الأيام. والشرعية البرلمانية تستند الى فكرة تقول ان «المناقشات التي لا نهاية لها» قد تولد الحقيقة، كما يقول شميت، ومع ذلك توقف برلمان فايمار عن تمثيل الشعب منذ عهد بعيد. وعوضا عن ذلك، كان يمثل جماعات اصحاب المصالح ذوي السلطان، والتشكيلات السياسية الحزبية التي فقدت القدرة على القيام بعمل حاسم، وخصوصا عندما كان وجود الدولة مهددا. ومن هنا كان التعليق الشهير الذي قاله شميت في وصفه لشخص ينتمي إلى الحزب «الديمقراطي الاجتماعي» حين سئل هل يختار «المسيح أم باراباس»؟ فقال انه سيطلب المشورة فورا ويعقد جلسة للجنة تدرس المسألة. لقد بدل النظام الليبرالي والرومانسي الحقيقة الموضوعية عن الله ووضع بدلا عنها «ذاتية الفرد»، فصارت الحزبية ومجموعات اصحاب المصالح تعطل العمل الحكومي الحاسم.
وفي كتابيه «مفهوم النظام السياسي» و«الدكتاتور» يقدم شميت لنا رده على الديمقراطية الليبرالية والفلسفة الوضعية في القانون. يقول شميت إن وجود الدولة يفترض مسبقا وجود نظام سياسي، والنظام السياسي يتكون بصورة رئيسية من العلاقة بين الصديق والعدو. انظر حولك - يوجه شميت كلامه الى المانيا التي ابتلعتها الحروب والانهيار الاقتصادي والازمة الاجتماعية - وشاهد فيما إذا كانت اية علاقة غير هذه تقدم تعريفا موضوعياَ وتجريبيا لشرعية الدولة ومقدرتها على الوجود. والتعريف السياسي للحاكم، كما يقول شميت، هو ذلك الفرد القادر على تحديد الحال الاستثنائية وتحديد العدو في تلك الحال الاستثنائية.
المادة 48 من دستور فايمار
عندما اقترح شميت الحلول المناسبة للشلل السياسي الذي اصاب جمهورية فايمار، ركز على المادة 48 من دستور فايمارالتي تسمح بالحكم المؤقت بموجب مرسوم وبتعليق الحقوق في حالات الطوارئ. وبعد ان أخذ صفحة من القانون الروماني ودستور نابليون الثالث، قال شميت إن المادة 48 تؤسس لدكتاتورية مفوضين أو دكتاتورية مؤقته ومن دون أن تلغي الدستور، وهي الطريقة الوحيدة للحكم في ظل ظروف الازمة، وواجب الدكتاتورية المؤقتة ان تنقذ الدستور الحالي ومن أجل هذا فإن الحكم من الرئيس، بموجب المادة 48، لا يؤسس دكتاتورية الحاكم أو الدكتاتورية طويلة الأجل. وفي حملته ليضفي الصفة الشرعية على الصلاحيات الرئاسية بموجب المادة 48، كسب شميت تأييد عضو الحزب الديمقراطي الاجتماعي هيغو بريوس، الذي صاغ دستور فايمار وتأييد ماكس ويبر، عالم الاجتماع العنصري الشهير صاحب فكرة ادخال المادة 48 في دستور فايمار.
وعندما أصاب الكساد العالمي ألمانيا بكل قوته، كان شميت أستاذ القانون في جامعة برلين. وطلب اليه المستشار هاينريش بروننغ ان يقدم المشورة إلى الحكومة بخصوص الحفاظ على الدستور في ظل ظروف التقشف القاسية التي يريد تطبيقها في مواجهة الازمة الاقتصادية رغما عن معارضة البرلمان الذي ساد فيه الانقسام. وبتاريخ 28/7/1930 قدم إلى الحكومة رأيا قانونيا قال فيه إنه بسبب وجود حال طوارئ اقتصادية فإن المادة 48 تسمح للرئيس باصدار مراسيم لها قوة القانون، وبالتالي أن يشرع دونما اعتبار للبرلمان. وبسبب الاجراءات القاسية التي اتخذها بروننغ ضد الشعب الالماني ولصالح المصارف، ارتفع تمثيل النازيين في البرلمان من 12 مقعدا الى 107 مقاعد وذلك في انتخابات 14/9/1930. أقيل بروننغ من الحكومة وحل محله في منصب المستشار فرانتس فون بابن المحافظ الراديكالي والفارغ فكريا.
عندما أعلن بابن فرض القانون العسكري وتسلم زمام حكومة بروسيا من الحزب الديمقراطي الاجتماعي، دافع شميت عن حكومة الرايخ امام المحكمة العليا وأيد بقوة اجراءات التقشف الاقتصادي الاشد قسوة التي اتخذها فون بابن. أكدت هذه الاجراءات خفض الاجور وتخفيض تعويضات البطالة، أما خلق فرص العمل فيجب ان يكون من خلال التخفيضات الضريبية للشركات وليس عبر تدخل الحكومة. ففي خطاب ألقاه امام جمع من الصناعيين تأييدا لبرنامج فون بابن تحدث شميت عن تطوير فكرتين اساسيتين هما: «الدولة القوية» و«الاقتصاد الحر» مؤكدا ان الدولة الفاشية التي يخضع فيها الافراد لمصحلة الدولة هي الوحيدة القادرة على ضمان نجاح اقتصاد السوق الحر. وفي حين يقر بأن ادارة الازمة لم تدخل أية تحسينات على الوضع الاقتصادي فإنه يؤكد أهمية استخدام المادة 48، مشيرا إلى أنها الوسيلة الوحيدة لمعارضة أولئك المدافعين عن «المذهب الانتفاعي القانوني» الذي يظل محايدا فيما يتعلق بالحقيقة والقيم.
كاتبة اميركية بالتعاون مع معهد شيلر
العدد 349 - الأربعاء 20 أغسطس 2003م الموافق 21 جمادى الآخرة 1424هـ