العدد 353 - الأحد 24 أغسطس 2003م الموافق 25 جمادى الآخرة 1424هـ

لماذا انهار القذافي فجأة؟

عبدالله العباسي comments [at] alwasatnews.com

منذ أن جاء العقيد معمر القذافي إلى الحكم بعد انقلابه على الحكم السنوسي، وأعتقد أنه إذا كان هناك شعب عربي يعض على أصابعه بسبب الانقلاب الذي حدث في بلاده فهو الليبي، فمنذ جاء إلى الحكم وهو يتبدل في أسلوبه.

كان بإمكان هذا الشعب أن يعيش هانئ البال ويكون محل حسد الناس بسبب النعمة النفطية، لكن القذافي بسبب عدم وضوح رؤيته وحماسه الزائد واندفاعاته وضع نفسه وشعبه في حرج كبير.

كان يمكن لهذا الشعب أن يعيش في بحبوحة من حياته لكن ما حدث فإن رئيسه هذا لم يتركه يطور نفسه ويهتم بشئونه الداخلية فورطه بأمور هو بعيد عنها بل لا شأن له بها.

القذافي منذ أن أطاح بنظام السنوسي كان يظن أن لديه مؤهلات القيادة العربية، وأنه لا يقل عن عبدالناصر شيئا، لكن عبدالناصر مواصفاته القيادية كانت تختلف، فقد كان زعيما حقيقيا يمتلك مؤهلات القيادة، أما القذافي فلا يمتلك إلا الحماس للوحدة العربية. فتارة يريد أن يتوحد مع مصر عبدالناصر فلما لم يجد تجاوبا اتجه إلى دول المغرب المجاورة حتى حطت به الرحال إلى دول افريقيا، وقد عزل نفسه عن بقية الأنظمة العربية وكان يعطي هذا الحق من قبل الشعب العربي لو ملء الفراغ القومي الذي تركه جمال عبدالناصر بشكل من الأشكال ولم تكن الضرورة تفرض أن يكون قادرا على ملء الفراغ الحقيقي بل الفراغ النسبي كبديل وملجأ للمعارضة العربية عن صدام حسين الذي لم يفشل فقط في أن يملء الفراغ القومي بل أصبح أسوأ مثل في العالم استبدادا وابتزازا للمال العام وجنونا بحيث أدخل شعبه حروبا كان في غنى عنها في صالح الولايات المتحدة.

وفي ظني أن القذافي يختلف كثيرا عن صدام فهو يعمل من منطلق حماس غير واضح المعالم بعيدا عن خبث صدام.

حاول أن يبرز أمام الشعب العربي أنه قائد ملهم يختلف مع الأنظمة العربية وكثيرا ما حاول أن يسيء إلى مختلف الأنظمة العربية على أساس أن ثورة الفاتح من سبتمبر الليبية هي صنو ثورة 23 يوليو المصرية، لكن شتان بين إنجازات عبدالناصر التي حولت وجه مصر من دولة هزيلة تتحكم فيها بريطانيا وفرنسا إلى دولة قوية بها آلاف الصناعات من خفيفة ومتوسطة وثقيلة ودخل حروبا مثل حرب اليمن لا رغبة في الابتزاز والسيطرة والعدوان على دولة عربية ليبتلعها كما فعل صدام مع الكويت بل ليساند حكومتها الجديدة التي قامت بتغيير نظام قديم أقرب إلى القرون الوسطى لا المرحلة الحالية.

ووقوفه بكل قوة مع الشعب العدني ومقاومته للمحتل البريطاني وتبني كل قيادات فصائل المقاومة حتى سئم الإنجليز وخرجوا. كان ذلك رغبة من عبدالناصر لتحريرها.

لقد كان للشعب العربي وبالذات المعارضة العربية ملاذا آمنا يلجأ إليه، من دون خوف من الغدر بها بعيدا عن أجواء المساومة، عكس ليبيا التي لم يسلم حتى الفلسطينيون من تصرفاته التي من ضمنها رمي مجموعة من الأسر الفلسطينية على الحدود، ثم إن تورط المخابرات الليبية في قضية لوكربي كان إحدى موضات الجنون التي دفع الشعب ثمنا باهظا بسبب القرارات غير المسئولة إذ ضربت الولايات المتحدة بالتعاون مع عدد من الدول الأوروبية مثل بريطانيا الحصار عليها ما اضطر بعد أكثر من 15 سنة من الحصار إلى أن يرضخ للابتزاز الأميركي ويدفع من قوت الشعب الليبي وعلى حسابه مبلغ مليار وسبعمئة مليون دولار تعويضا عن ضحايا العملية بعد أن قدم كل التنازلات المطلوبة وبعد أن خسرت ليبيا عشرات المليارات خلال تلك الفترة الطويلة. وسيظل ملف الابتزاز الأميركي مفتوحا تماما مثلما تفعل الولايات المتحدة عادة.

لهذا فإن القذافي عزل نفسه أوروبيا وعربيا. فهو شخص لا يعرف كيف يتصرف ينتقد عدم وجود الديمقراطية في البلاد العربية ويرى في حكامها أنهم متخاذلون جبناء يقفون مع الولايات المتحدة بينما يعيش شعبه الأجواء نفسها فخلق بذلك قطيعة بينه وبين هذه الأنظمة لنقده اللاذع وبأسلوب قد يخرج عن حدود الأدب علما بأن كثيرا من هذه الأنظمة مهما تحدثنا عن سيئاتها إلا أن لبعضها جمايل على ليبيا.

إن دولته اليوم أسوأ بكثير من الكثير من الأنظمة العربية التي يستهزئ بها فالذين يعرفون ليبيا يدركون أنها دولة مغلقة أشبه بنظام صدام والأخير شخص مستبد لا يتقيد بالأنظمة.

وورط نفسه مع الإمام موسى الصدر وخلق عداوة له مع أهل الجنوب في لبنان وأثار بعمله هذا حفيظة كل الشيعة في العالم ضده. ولا يذكر على رغم آلاف المعارضة من المثقفين والسياسيين العرب أن حاول أحد منهم أن يلجأ إلى ليبيا إلا فيما ندر إذ حولهم إلى عبيد.

ترى عندما حاولت الولايات المتحدة مضايقة عبدالناصر برفض بناء السد العالي فهل انهار مثل القذافي، كل ما فعله أنه حرق قلب الأميركان واتجه إلى الاتحاد السوفياتي فخلق بديلا استطاع أن يملأ فراغ الأميركان (وزيادة شويه) من دون أن يزحف على بطنه مثلما يفعل القذافي الآن، هكذا كانت شخصية عبدالناصر تختلف عن شخصية القذافي كان صلبا مع حفاظه على دولته من المد العقائدي الشيوعي وهذا ما سمعته بأذني في محاضرة لوزير الخارجية المصري السابق محمود رياض حين ألقى محاضرة بنادي العروبة إذ قال ضمن رد على أحد الأسئلة: «إن عبدالناصر سمع أنه يتم تدريس بعثة للضباط المصريين إلى الاتحاد السوفياتي ضمن دراستهم كتيب عن الفكر الماركسي فما كان منه إلا أن طلب من سفيره هناك أن يتم إلغاء هذه المادة عنهم أو إعادتهم إلى مصر هكذا كان عبدالناصر».

ان الفرصة كانت متاحة للحصول على بدائل عن الولايات المتحدة وعن أوروبا كلها خلال العقدين الأخيرين لأنه برزت دول أخرى صناعية تنافس الولايات المتحدة وأوروبا ذاتها مثل اليابان وكوريا الشمالية وكوريا الجنوبية والصين وماليزيا، وهي أسواق قادرة على استيعاب النفط الليبي فلماذا انهار القذافي بهذه السرعة؟ ولماذا لم يستطع الخروج من عزلته مثلما فعل عبدالناصر مع أنه في منتصف القرن الماضي لم تكن هناك بلدانا صناعية وتجارية غنية مثل الآن والبدائل كانت قليلة لكن قوة عبدالناصر واعتماده على شعبه جعله يقف بصلابة، ومشكلة القذافي هي مشكلة صدام لا يثق في شعبه ولم يعوّد نفسه الاعتماد عليه.

أثرت عقلية القذافي وأسلوبه وحكمه على عقلية الشعب الليبي لطول بقائه في السلطة، ان نظام القذافي لا يختلف عن بعض الأنظمة العربية المستبدة التي لعبت بالمال العام فهل يجوز أن يكون عشرات الآلاف من الموظفين لا يحصلون على مرتباتهم في دولة نفطية وزراعية مثل ليبيا؟ ولهذا فإن القذافي ليس أفضل من زملائه الذين ينتقدهم ويستهزئ بهم في كل لقاء قمة أو اجتماع ويخرج بموضة جديدة تثير انتباه المواطن العربي.

إن أي نظام عربي، وأية قيادة عربية مثل القذافي أو غيره لا يمكن أن يصمد أمام المؤامرات الأميركية والغربية التي تخطط لها الصهيونية العالمية إلا من خلال حل واحد هو إجراء مصالحة حقيقية مع شعب وإلغاء سيطرة المخابرات وبناء ديمقراطية يتربى خلالها المواطن تربية تعيد إليه كرامته وإحساسه وشعوره الحقيقي بأن الوطن له ولغيره.

إن الشعب العربي الليبي ضحية أخطاء نظامه ودولته التي كانت تتخذ قراراتها بمعزل عن الشعب ورغبته ومصلحته فكان القرار فرديا ينفذه جهازه فورط هذا الشعب وفرض عليه التخلف وإذا كانت للقذافي شجاعة حقيقية فليتنحى عن الحكم. إن الشعب العربي الليبي ضحية لاستبداد نظامه فلماذا يدفع الشعب الثمن، لماذا لا يكون النظام شجاعا ليتحمل مسئولية ما فعل؟

فإذا كان القذافي يزعم أنه تلميذ عبدالناصر فلماذا لا يحاول بعد عملية لوكربي وقبوله الاعتراف بتورطه في القضية ودفع هذا التعويض الضخم من قوت الشعب الليبي؟ لماذا لا يحاول أن يستقيل ويترك الأمر للشعب إن كان يريد ان يكون مثل عبدالناصر فيخرج الشعب برمته ليقول لا. وإلا فليتقاعد ويتفرغ لكتابة القصص القصيرة والروايات والمزيد من الكتب الخضراء

العدد 353 - الأحد 24 أغسطس 2003م الموافق 25 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً