العدد 401 - السبت 11 أكتوبر 2003م الموافق 14 شعبان 1424هـ

هل يحق للإسلامي أن ينضم إلى حزب علماني؟

الخلاف على منهج العمل السياسي في تونس

فجّر انضمام بعض الإسلاميين - داخل تونس وخارجها، لحزب «المؤتمر من أجل الجمهورية»، الذي أسسه أخيرا منصف المرزوقي، المعارض التونسي البارز، بالاشتراك مع عدد من المعارضين الآخرين، منهم وجوه إسلامية شابة - جدلا بين عدد من الكتاب الإسلاميين التونسيين، بشأن مدى شرعية انضمام إسلاميين إلى حزب «علماني»، لا يطالب بتطبيق الشريعة، ولا يندب نفسه للدفاع عن المشروع الإسلامي. وقد أعطى صديقنا خالد الطراولي، مشكورا، ضربة البداية للنقاش في صيغته المكتوبة والجادة، وأخرجه من النقاش الثنائي أو الأطر المغلقة إلى الفضاء العام، بمقاله المتميز، الذي جاء تحت عنوان «بعد دخول الإسلاميين إلى أحزاب المعارضة... نداء للتعقّل وحذار من الانهيار!».

طرح الطراولي في ثماني نقاط واضحة وممنهجة عددا من الاعتراضات الشرعية والفكرية والسياسية، رأى أنها تقف حائلا دون انضمام إسلاميين إلى حزب «علماني»، ورد عليه صالح كركر بمقال لم يجد فيه بأسا من انضمام الإسلاميين لأحزاب غير إسلامية، بل تمنى لو كان هذا الانتماء حاصلا على أوسع نطاق. أما أحمد بن الطيب، الذي كتب مؤيدا وجهة نظر الطراولي، فرأى أن هذا الانتماء يحتاج إلى تأصيل في النصوص الشرعية، وكانت خلاصة مقاله المطول أن الأحزاب غير الإسلامية ليست جديرة بالولاء، وأن الحزب الوحيد الذي يمكن موالاته شرعا هو حركة النهضة الإسلامية، التي يقودها الشيخ راشد الغنوشي، باعتبار أنها الحزب الوحيد في تونس الذي يعمل لتطبيق الشريعة وإعادة الإسلام مجددا إلى الحياة، بعد إقصائه من السياسة والمجتمع والاقتصاد والثقافة، وسائر مظاهر الحياة. وبين آراء الدكاترة الثلاثة، ولست دكتورا مثلهم، أحاول أن أجد لي سبيلا لإبداء رأيي في الموضوع، وأطرح مساهمتي المتواضعة في هذا الجدال اللطيف والمثمر، من خلال تسجيل النقاط الآتية:

1- إن النقاش الجاد والمثمر في هذا الموضوع مثل أي موضوع آخر، لا يمكن أن يحكم عليه بالنظر الى النصوص الشرعية فقط، باعتبار أن هذه الحادثة وكثيرا من الحوادث غيرها، حوادث مستجدة لم يسبق لها مثيل في التاريخ الإسلامي، وان الموقف منها ليس من السهل البت فيه بسهولة، بالرجوع إلى النصوص الفقهية الجاهزة، التي لم تعالج مثل هذا الأمر، ولا حتى أمرا شبيها به، فالحياة الحزبية الحديثة جديدة كل الجدة، ولم يوجد في تاريخنا الإسلامي شبيه بها أو نظير، وان أي قياس على أحكام سابقة نحن نعلم يقينا أنها لا تنطبق تمام الانطباق على الحال التي نعالجها، لا يمكن أن تتم بشكل آلي، والأمر يحتاج إلى اجتهاد في قراءة الواقع المستجد، واجتهاد في تنزيل الأحكام عليه، الأمر الذي يعني أن المطلوب، كما يذهب إلى ذلك العلامة محمد باقر الصدر، هو إقامة نوع من الحوار الخصب والمتجدد بين العقل البشري والنص الشرعي والواقع الموضوعي القائم للتوصل إلى الحكم المطلوب... والمهم في الأمر هنا عدم التعجل في إطلاق الأحكام بالمنع والتحريم أو الإباحة، ويجب أن يتم ذلك بعد دراسة متأنية للموضوع بمختلف أبعاده.

2- إن الانضمام إلى الأحزاب غير الإسلامية، التي لا تجعل من تطبيق الشريعة مطلبا لها، ولا تندب نفسها لإعادة إحياء الإسلام وإخضاع الحياة له، ليس جديدا، وقد حصل في السابق، وليست هذه أول مرة ينتمي فيها إسلاميون لأحزاب غير إسلامية، فنحن نجد في معظم البلاد العربية والإسلامية مشايخ وعلماء ومسلمين متدينين صادقي التدين والإيمان منتمين لأحزاب غير إسلامية، كل لغرض من الأغراض، لا شك أنها ليست كلها أغراضا خاصة أو دنيوية. ففي تونس في بداية الاستقلال، نحن نعلم أن عددا من مشايخ الزيتونة انتموا إلى الحزب الدستوري في تونس، بعضهم للحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من وجود للإسلام في الدولة والمجتمع، وبعضهم الآخر للتقليل من غلواء العلمانية البورقيبية، التي بدت أول أمرها زاحفة تستهدف الإسلام في أساسياته، وتزعم أنه جزء من الماضي السحيق للبشرية، على النمط الوضعي الفرنسي الساذج، الذي يعتبر الدين جزءا من تاريخ البشرية الطفولي، يجب التخلص منه والتمرد عليه، كما يتخلص الرجل الناضج من أفكار طفولته وعاداته فيها. ونحن نعلم أن بعض أولئك العلماء والمشايخ قد نجحوا في ترك بصماتهم، ولو كان ذلك بشكل طفيف، في ما يخص حفظ الروح الإسلامية في التعليم وفي غيره، إلى الحد الذي جعل وزير التعليم التونسي الأسبق محمد الشرفي يعتبر التعليم التونسي الموروث عن المرحلة البورقيبية تعليما أصوليا، يساهم في تخريج الأصوليين، فعمد إلى إعادة صوغه بعقلية تجعل همها الأول تجفيف ينابيع التدين بشكل كلي وتام. والمهم في هذا المجال أن أولئك العلماء والمشايخ الذين انتموا إلى الحزب الدستوري مثلا أو إلى غيره من الأحزاب في بقية الدول العربية والإسلامية، لم يكونوا ينظرون إلى الأمر بعقلية تبسيطية، تجعل من الانتماء السياسي موضوع حلال وحرام، وإنما هم نظروا إلى الأمر من زاوية ما في الواقع من تعقيد، واختاروا الطريق الذي رأوا أنه الأفضل، بحسب ظروفهم، لتحقيق المصلحة أو دفع المضرة، وهذا في الواقع مدار السياسة الشرعية، التي تدور مع المصلحة المعتبرة شرعا حيث دارت. وقد يثار هنا جدال بأن أولئك المشايخ والعلماء لم يكونوا في أي يوم من الأيام قدوة لأبناء الحركة الإسلامية الحديثة، وأن نظرتهم الى الأمور والى مناهج العمل تختلف عن نظرة الحركة الإسلامية الحديثة إليها، إذ يقوم منهج الحركة الإسلامية على العمل الجماعي المنظم من أجل إعادة الإسلام إلى الحياة، وإعادة الحياة إلى الإسلام، في حين اختار الكثير من العلماء والمشايخ منهج العمل الفردي.

ولاشك في أن الخلاف حاصل بين الطرفين في منهج العمل، وهذا لا ضير فيه، فمناهج العمل موضوع اجتهاد مرتبط بالثقافة والواقع وظروفه، وليست أوامر شرعية، والدليل على ذلك أن مناهج عمل الحركات والفصائل الإسلامية نفسها تختلف من بلد إلى آخر، وهو ما يؤكد أنها موضوع اجتهاد، وأن هذا الاجتهاد يتأثر بالظروف والواقع، الذي تتم فيه عملية النظر وتقدير المصلحة... والمهم الذي يعنيني هنا هو تثبيت أن الانتماء للأحزاب غير الإسلامية ليس موضوع حلال وحرام، وإنما موضوع اجتهاد وتقدير للمصلحة، وأنه يأتي في إطار البحث عن أيسر السبل لجلب مصلحة أو دفع مضرة.

3- من خلال تفحصنا للواقع القائم في البلاد التونسية، وفي بقية أخواتها من البلاد العربية والإسلامية، نجد أن هناك، وهذا حاصل في تونس بصفة خاصة، حالا من العداء والتنافر الحاد وغير المعقول بين التيار الإسلامي من جهة، وبين معظم القوى والتيارات العلمانية، التي يعتبر معظمها التيار الإسلامي تيارا ظلاميا متخلفا خارجا من عصور سحيقة، ولا تجد بين تلك القوى وبين ذلك التيار من نقاط تقارب أو التقاء، وإن حصل مثل ذلك فلظروف ودوافع سياسية مؤقتة، مثل الوضع الراهن، الذي تضرر منه الجميع، ما دفعهم إلى التقارب، لكن ذلك سرعان ما ينهار عندما تنتفي أسبابه، وتعود العداوة القديمة المقيمة، وقد رأينا كيف اصطفت معظم تلك القوى في طابور موحد ضد التيار الإسلامي في بداية التسعينات، الأمر الذي قاد البلاد إلى ما تعاني منه اليوم.

ولكسر ذلك العداء القائم في الأساس على قاعدة متينة من الجهل الشديد من قبل القوى الأخرى بالحركة الإسلامية والإسلام والثقافة الإسلامية ورصيدها الهائل على صعيد الفكر والممارسة، وللتخلص من ذلك التمايز الحدي القاطع بين الطرفين، الذي يرجع لغياب الحوار والمعايشة والمعاشرة، إلى الحد الذي يتصور فيه بعض العلمانيين أن الإسلاميين ليسوا بشرا مثل البشر، وأنهم وحوش ضارية أو قريبون منها، نرى ألا ضير من وجود إسلاميين في حزب غير إسلامي، طالما لم يندب ذلك الحزب نفسه لمحاربة الإسلام، وطالما قدم نفسه باعتباره مجرد إطار سياسي لا إيديولوجي أو عقيدي، وجعل همه الأول محاربة الاستبداد، والعمل على توفير فضاء الحرية وإقامة العدالة والمساواة بين الناس، وهي قيم إسلامية أصيلة.

وغالب الظن أن حزب المرزوقي هو حزب من هذه الشاكلة، وأنه إن لم يكن حزبا إسلاميا، فإنه حزب يمكن العمل من خلاله لتحقيق قيم ومطالب إسلامية حقيقية. أما الحديث عن أن المرزوقي يتبنى مبدأ المساواة التامة بين الجنسين، بما فيها الميراث، فمن الجدير تسجيله هنا أن الحزب ليس هو رئيسه، وأن الرئيس لا يظل دائما وأبدا رئيسا، وأن موضوع الإرث ليس قضية الساعة في تونس، ولا يمكن لها أن تكون. وقد أثبتت محاولة جمعية النساء الديمقراطيات لتجميع عرائض للمطالبة بهذا الأمر حقيقة رسوخ مفاهيم الإسلام في المجتمع التونسي، إذ صدمت ناشطات الجمعية بالرفض الهائل لمشروعهن من قبل النساء التونسيات قبل الرجال، وهو ما يعني أن قناعة المرزوقي تبقى في قلبه، والمهم هو ما يوفره الحزب من أرضية للعمل على تحقيق القيم والمطالب الإسلامية المشار إليها آنفا.

4- إن الأحزاب ليست أصناما صماء وأحجارا جامدة وثابتة لا تتغير ولا تتبدل، ويمكن تشبيهها بالكائنات الحية، التي تعرف في حياتها أطوارا وتحولات وتبدلات. وان أي حزب يفترض فيه أن يعبر عن وجهة نظر التيار الغالب فيه، وان الأحزاب تتعايش في أحشائها تيارات وقوى متباينة متدافعة، وهي تميل تارة هنا وتارة هناك، بحسب اقتضاءات الواقع، وبحسب حركة تياراتها الداخلية.

ونحن نعلم من معرفتنا بالواقع أن أحزابا إسلامية آل أمرها في ظروف وملابسات خاصة، إلى أن صارت أحزابا علمانية، بوجه من الوجوه، مثل حزب الاستقلال في المغرب، الذي نشأ على يد عالم مجدد هو العلامة علال الفاسي، وانتهى الحزب اليوم إلى ما انتهى إليه، وهناك أحزاب أخرى كثيرة اتخذت مسارا مشابها لمسار هذا الحزب. ونعرف في المقابل أحزابا يسارية أو شيوعية انتهت إلى أحزاب إسلامية، مثل حزب العمل المصري، وهناك أحزاب أخرى سارت في الطريق نفسه أيضا. ولدينا تجربة في تونس هي تجربة الحزب الديمقراطي التقدمي، وهو حزب يجمع قوى متباينة ليبرالية ويسارية وأخرى من المجموعة المعروفة باسم اليسار ا

العدد 401 - السبت 11 أكتوبر 2003م الموافق 14 شعبان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً