طلب في الثالث من اكتوبر/تشرين الأول العام 1973 من قيادة الوحدة 848 وحدة جمع المعلومات المركزية في سلاح الاستخبارات العسكرية الإسرائيلي (التي تحولت فيما بعد إلى وحدة 8200) إرسال ضابط من فرع الوحدة إلى الموقع العسكري في جبل الشيخ وذلك في أعقاب تعزيز حالة الاستنفار في صفوف الجيش السوري، وتوجهوا إلى الملازم عاموس لفينبرغ - 42 عاما - الضابط الشاب اللامع الذي اعتبر خبيرا في شئون الجيش السوري وقالوا له نعتقد بأن ما يجري هو مجرد مناورة عسكرية ستنتهي يوم الأحد وعليك التوجه إلى جبل الشيخ.
وحسب صحيفة «القدس» الفلسطينية الصادرة صباح السادس من اكتوبر الجاري فإنه خلال اربعة أيام وبعد يوم واحد من اندلاع الحرب وقع ليفينبرغ في الأسر السوري، واتضح أن إرساله إلى ذاك الموقع العسكري كان خطأ فادحا كلف «إسرائيل» ثمنا باهظا، وشكل «يوم غفران» آخر لشبكة جمع المعلومات الاستخبارية.
ولد ليفينبرغ العام 1949 لعائلة أنقذت من الكارثة وتوفي والده وعمره عشرة أعوام، ودرس العربية خلال دراسته الثانوية، وكان من الطبيعي التحاقه بالاستخبارات العسكرية فور تجنيده العام 1968 ودرس العربية في معهد الاستخبارات، وبعد اجتيازه فصلا آخر عين في وحدة تعمل في مجال حل شيفرات والغاز الجيوش العربية. وقال أصدقاء له درسوا معه العربية إنه سمين أشقر ومتدين اشتهر بذاكرته القوية جدا ووصفه البريغادير جنرال افرايم لفيد الذي تسلم مناصب رفيعة في الاستخبارات العسكرية بمحب للاستطلاع وذو ذاكرة رائعة بالتفاصيل الدقيقة، بما في ذلك التفاصيل الهامشية عديمة الأهمية، ولربما حولته ذاكرته القوية إلى واثق بنفسه بدرجة مبالغة، وصلت حد الوقاحة.
وفي الوقت الذي برز فيه في مجال حل الشيفرات تخلف في فصل الضابط، وتدخل البريغادير جنرال يونيل بن نورث قائد وحدة (8200) لصالحه الأمر الذي أدى إلى إنهائه الفصل بدرجة متوسط وعين بعد ذلك ضابط بناء شبكات. وهذا المنصب مهم جدا في وحدات جمع المعلومات بالاستخبارات، إذ يتحمل المسئولية عن تصنيف معلومات كثيرة غير مرتبة ولا تتضمن أي منطق، ويوجهها إلى العنوان الصحيح في الجهاز الاستخباري.
وكان ليفينبرغ مسئولا عن جميع المعلومات الاستخبارية المتعلقة بالجيش السوري، وساعدته بذلك ذاكرته غير العادية، وخلال فترة قصيرة اكتسب معلومات مفصلة جدا عن جميع القيادات الأمنية السورية، وكان يعرفهم ليس فقط بأسمائهم ومهماتهم بل وأصدقائهم وأعدائهم، وما الذي يحب كل واحد منهم تناوله من الأطعمة ومن لديه عشيقة وتفاصيل أخرى.
ولا يوجد وضوح حتى اليوم عن الأسباب التي دعت ضابط بناء الشبكات إلى السعي إلى معرفة تفاصيل دقيقة أيضا عن الجيش الإسرائيلي. لقد كان مصابا بمرض اسمه الجيش والاستخبارات وكان يتخلى عن إجازاته من اجل قراءة ودراسة مواد استخبارية، وكان يقضي إجازته بزيارة القواعد العسكرية الإسرائيلية للاطلاع على ما يدور فيها، وعرف مع الوقت معلومات متعلقة بالأسراب الجوية والدوريات المختارة وشبكات الاتصال لحالات الطوارئ. فتوافرت لديه في أكتوبر 1973 كمية هائلة من المعطيات بعضها سري جدا وكان بمثابة حاسوب متنقل.
سلم الضابط جميع التفاصيل الممكنة عن وحدته للسوريين ومعلومات عن الوحدات السرية والحساسة، ولم يكتف بذلك، وكل شيء مثل حاسوب تتدفق منه المعلومات بسرعة رهيبة لا متناهية معطيات حول أرقام الوحدات والقواعد واسماء القادة وأساليب القتال وجميع المعلومات المتوافرة لديه والمتعلقة بالوحدات الخاصة وكانت المعلومات مذهلة واستمر التحقيق معه شهورا طويلة.
وقدم للسوريين معلومات حساسة كثيرة عن الجيش والاستخبارات والوحدات الخاصة الإسرائيلية جميعها. وقال البريغادير جنرال رؤوبن يردور: اتضح لنا بسرعة كبيرة بأن السوريين بدأوا يستفيدون من الضابط الذي كان يعرف كل شيء لكنه استمر بالحديث وتقديم المعلومات إلى درجة لم يتمكن المحققون من متابعتها واستسلموا وقالوا له: اعمل لنا معروفا واكتب أنت بنفسك.
وفعلا كتب مجلدين كبيرين عن كل ما يعرفه عن الاستخبارات الإسرائيلية وعمليات التنصت التي يقوم بها الجيش وكشف النقاب تقريبا عن جميع المواقع العسكرية وعن أساليب العمل وعن تدخل دورية هيئة الأركان وعن عمق تغلغل الاستخبارات الإسرائيلية في قلب العدو وجعل السوريين يعرفون مدى اتضاح صورتهم لإسرائيل، الأمر الذي جعلهم يستخلصون العبر بالدفاع عن أنفسهم وذلك في الوقت الذي أصبحت فيه الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية عارية أمام أنظارهم.
تدهورت معنويات العاملين في الوحدة 848 وفي باقي الوحدات الاستخبارية، بعد أن كانت تدهورت جراء إنهائها بالفشل الذي أدى إلى مفاجأة «إسرائيل» بالحرب وأصبحت تتوالى إليهم بأجهزة الالتقاط عبارة تتكرر باستمرار. قال البروفيسور اليهودي، إن اليهود يسمعون كل شيء ويتنصتون على كل شيء، يجب الحذر ومن المحظور الحديث. وهيمنت أجهزة البث العربية الملتقطة لدى الوحدة بالتدريج، واستمر مصدر بث واحد في سورية بالحديث واتضح فيما بعد أن السوريين كانوا يبثون منه معلومات كاذبة، والتقط صوت بالعربية بعد عدة اشهر من هذا المصدر يقول: إلى هنا تنتهي اللعبة. يشار إلى أن السوريين بثوا إلى مقر قيادة الموساد هذه العبارة نفسها بعد إلقاء القبض على الجاسوس الإسرائيلي ايلي كوهين، وبعد محاولتهم نقل معلومات كاذبة لاسرائيل باسمه.
لقد أصبحت «إسرائيل» عمياء لسنوات طويلة جراء المعلومات التي قدمها ليفينبرغ إلى السوريين، وأرغمت أجهزة الاستخبارات على إدخال تعديلات فورية على أساليب عملها. طالب البعض في أعقاب التحقيق الذي اجري مع ليفينبرغ فور عودته من الأسر السوري والذي دام اشهرا طويلة بتقديمه إلى المحاكمة بتهمة الخيانة، ولكن بعد إجراء مشاورات في هيئة الأركان تقرر إقالته من الجيش
العدد 401 - السبت 11 أكتوبر 2003م الموافق 14 شعبان 1424هـ