العدد 2663 - الأحد 20 ديسمبر 2009م الموافق 03 محرم 1431هـ

أوباما وازدواجية الإفلاس المالي والإنفاق العسكري

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

رفع أمس الأول مجلس الشيوخ الأميركي إلى الرئيس باراك أوباما مشروع موازنة الإنفاق العسكري للسنة الجارية التي بدأت في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي للمصادقة عليها. المشروع هائل الحجم في أرقامه القياسية إذ بلغت موازنة الإنفاق السنوي على الدفاع والحروب 626 مليار دولار من ضمنها تغطية كلفة جيش الاحتلال في العراق وأفغانستان التي وصل مجموعها إلى نحو 129 مليار دولار. ويرجح أن يضاف إليها مبلغ 30 مليار دولار لتغطية كلفة إرسال 30 ألف جندي إضافي إلى أفغانستان.

الموازنة العسكرية قياسية في أرقامها فهي تكلف الخزانة المالية الأميركية شهريا 54 مليارا (مليار و900 مليون يوميا) في وقت تعاني الدولة من مشكلة ارتفاع الديون وتمر الأسواق في أزمة نقدية أدت إلى انهيارات متتالية في البورصة وإفلاس شركات وإقفال مصارف وخراب بيوت عائلات بسبب التسريح من العمل.

آخر إحصاء كشفت عنه الوكالة الفيدرالية الأميركية لضمان الإيداعات المصرفية أشار إلى إفلاس 6 مصارف جديدة أمس الأول ليرتفع المجموع في العام 2009 إلى 139 مصرفا في وقت تواجه 552 مؤسسة مالية خطر الانهيار والإقفال. وذكر خبراء اقتصاديون أن كل يوم جمعة من نهاية كل أسبوع تنهار مؤسسة مالية أو يشهر أحد المصارف إفلاسه الأمر الذي يؤشر إلى استمرار التدهور الذي ابتدأ فجأة في سبتمبر/ أيلول 2008. ولا يستبعد الخبراء احتمال إفلاس المزيد من المصارف بسبب استمرار أزمة سوق العقارات وقطاعات الأعمال الصغيرة وتجارة التجزئة. وتوقع المحللون أن تواصل أزمة النقد انهيارها حتى تصل إلى القعر في الربيع المقبل من العام 2010.

إفلاسات المصارف الأميركية تبدو مرجحّة للتفاقم خلال الشهور الستة المقبلة وهي تشكل في مجموعها تبخر مئات المليارات من الدولارات. فالأرقام ضخمة وتتعدى أحيانا المعدل الطبيعي الذي يمكن للدولة (الخزانة الحكومية) استيعابه والسيطرة عليه. «فيرست فدرال بنك اوف كاليفورنيا» أفلس الأسبوع الماضي وبلغت خسائره المجمعة من الأصول والإيداعات نحو 11 مليارا. «امبريال كابيتال بنك» بلغت خسائره المجمعة من الأصول والإيداعات نحو 7 مليارات. «بيبولز فيرست كوميونيتي بنك» بلغ حجم إفلاسه نحو 4 مليارات. «نيوساوث فدرال سايفينغ بنك» وصلت خسائره إلى نحو 3 مليارات.

كل هذه المصارف الأميركية أفلست في أسبوع واحد وأدت إلى انهيار ودائع الألوف من العائلات في فلوريدا وكاليفورنيا وايلينوي وألاباما وميتشغن وبالتيمور ما يؤشر إلى انتشار الهلع وعدم استعادة السوق ثقة الناس والمستثمرين على رغم التطمينات وتدخل المصارف المركزية لحماية الانهيار واستيعاب الأزمة التي تجاوزت كارثة «الركود الكبير» في ثلاثينات القرن العشرين.

السؤال: كيف يمكن أن توفق الإدارة الأميركية بين الإفلاس المالي الهائل والإنفاق القياسي على الدفاع والحروب؟ السؤال مفتوح على آخر: لماذا لا توقف (أو تحدّ) الإدارة من سياسة البذخ على القطاع العسكري ومؤسسات التصنيع الحربي وتركز جهدها على احتواء كارثة نقدية أخذت تزعزع استقرار المستوى المعيشي للطبقات الوسطى وأصحاب الدخل المحدود في الولايات المتحدة؟


ازدواجية التعايش

مسألة التعايش بين الإفلاس المالي والإنفاق العسكري شرح معضلاتها التاريخية الباحث الأميركي بول كنيدي في كتابه الشهير عن «صعود الدول وهبوطها» في ثمانينات القرن الماضي ليستخلص بأن المعادلة السلبية لا حل لها سوى انهيار الدولة. فهل الولايات المتحدة مقبلة على انهيار بعد عقد أو عقدين من الزمن في حال استمرت مشكلة التعايش بين فراغ الخزينة وضغوط المؤسسة العسكرية وما تقتضيه متطلبات التصنيع من حروب دائمة تلبي حاجاتها السنوية للتسويق؟

تفاقم هذه المعضلة التاريخية (ازدواجية التعايش) حذر منها الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور في خطابه الأخير قبل مغادرته البيت الأبيض حين أشار في نهايات الخمسينات إلى وجوب الانتباه لخطر نمو مؤسسات التصنيع الحربي واحتمال تصاعد نفوذها وضغوطها على إدارة الدولة وجرجرتها عنوة نحو افتعال أزمات لتصريف منتوجاتها وبضائعها.

كلام الرئيس ايزنهاور سبق توقعات الباحث كنيدي حين ربط بين سياسة الدولة واقتصاد السوق ودور المؤسسة العسكرية في الضغط على الإدارة لانتهاج استراتيجية حربية تتناسب مع مصالح شركات التصنيع التي تبحث عن مصادر دائمة للربح وحقول لتصريف الفائض من العتاد والذخيرة.

قراءة ايزنهاور أصابت الهدف حين بدأت الإدارات الأميركية تتورط في الحروب الجانبية ودخلت في سباق التسلح مع الاتحاد السوفياتي وصولا إلى مرحلة «حرب النجوم» التي تبنى الرئيس السابق رونالد ريغان استراتيجيتها في ثمانينات القرن الماضي بكلفة يومية بلغت مليار دولار. الآن وبعد مرور 25 عاما على تلك الخطوة الريغانية انهار المعسكر الاشتراكي وانفردت أميركا بالقرار الدولي وتورطت في سلسلة حروب منذ العام 1990 وهي لاتزال تواصل انزلاقاتها العسكرية في العراق وأفغانستان بكلفة يومية تقارب المليارين من الدولارات.

المشكلة الأميركية وصلت بعد ثلاثة عقود من الإنفاق العسكري إلى النقطة التي تحدث عنها كنيدي في كتابه الذي أشار فيه إلى لحظة انهيار الدولة وهي تبدأ حين تصبح عاجزة ماليا عن تلبية أو تغطية حاجات القوة. فالقوة في هذه المرحلة تتحول إلى نقطة ضعف للدولة لأن الأخيرة تطمح للمحافطة على موقعها العسكري في ميزان التفوق العالمي في وقت بدأت قدراتها المالية تتراجع ولم تعد تمتلك ذاك الاحتياط النقدي لتغطية متطلبات تلك الرغبة.

توصيف كنيدي لفترة انهيار الدولة الكبرى يقارب ذاك المشهد التاريخي الذي تمر به الولايات المتحدة في مرحلتها الراهنة. فهي من جانب تعلن إفلاس 139 مصرفا في سنة واحدة وتقر مشروع موازنة عسكرية بمعدل قياسي وصل إلى 656 مليارا لتنفق في سنة واحدة. والفجوة المترتبة عن العجز بين الإفلاس المالي والإنفاق العسكري يشكل ضريبة مضافة على المستهلك الأميركي وتراجع موارد الخزينة من دورة الإنتاج السنوية. وهذه الدورة المتهالكة في حال تكررت سنة بعد أخرى ستؤدي في النهاية إلى النتيجة التي استطرد كنيدي في وصفها من خلال استعراض عشرات الأمثلة والنماذج التاريخية.

احتمال انهيار أميركا يشكل ذاك الجواب المنطقي على سؤال لماذا لا يتدخل أوباما ويوقف مشروع الموازنة العسكرية التي رفعها إليه مجلس الشيوخ الأميركي؟ الجواب. أوباما لا يستطيع حتى لو رغب في اتخاذ مثل ذاك القرار السياسي الجريء. النتيجة العامة أنه لا مفر من الوصول إلى ذاك التحذير الذي أطلقه ايزنهاور في خطابه الأخير، وتلك الخلاصات التي انتهى إليها كنيدي في كتابه. فالأرقام الباردة في حساباتها اليومية تؤشر إلى أن الولايات المتحدة متجهة مستقبلا نحو الاصطدام بذاك الجدار التاريخي... والانهيار.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2663 - الأحد 20 ديسمبر 2009م الموافق 03 محرم 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 2 | 10:28 م

      القوة القادمة

      بداية انهيار امريكا كانت لحظة قرار الحرب على العراق، وهي واقعة في منزلق حتفها. القوة القادمة هي شرق آسيا بزعامة الصين.

    • زائر 1 | 10:13 م

      شكرا استاذ وليد

      شكرا استاذ وليد فانا احد الذين يقرأون لك يوميا وانت مفكر ومحلل استراتيجي الافضل من الكتاب عن القضايا الدولية والتاريخية والشئون المعاصرة والله يعطيك العافية.

اقرأ ايضاً