العدد 427 - الخميس 06 نوفمبر 2003م الموافق 11 رمضان 1424هـ

المتوكل... والانقلاب السياسي على المعتزلة

فرق المعتزلة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

طرد المعتزلة من السلطة لم يحصل دفعة واحدة. فالأمر لم يكن بهذه البساطة. فالدولة في عهود المأمون والمعتصم والواثق تورطت في سلسلة مواجهات والتزمت سلوكيات كان من الصعب التخلص منها بالانقلاب السياسي. المسألة آنذاك تجاوزت السياسة إلى الثقافة وبات تأثير فرق المعتزلة يتجاوز حجمها العددي فهي تحولت إلى تيار أيديولوجي يتغذى من مشكلات اجتماعية وتوازنات السلطة.

هذا الوضع المعقد أورث المتوكل الكثير من المصائب لأن معركته امتدت من الطرد السياسي إلى الملاحقة الأيديولوجية وبات عليه أن يعيد التوازن إلى سلطة فقدت تماسكها في ظرف تاريخي تصاعد خلاله دور الأتراك في موازين القوى ولعبة الصراع بين الدولة والمجتمع.

كان على المتوكل أن يختار بين الاستمرار في سياسة أيديولوجية جلبت الكثير من الانقسامات للدولة والمجتمع وبين التحول من دائرة إلى أخرى مستخدما نفوذه وقوة السلطة في التدخل والتغيير من طريق الإكراه. فاختار المتوكل التغيير متكلا على قوتين: عسكرية وهي المزيد من الاعتماد على الأتراك وعقائدية وهي العفو عن السلف وإعادة إحياء السنة.

هكذا بدأ ولكنه انتهى نهاية محزنة. بويع للمتوكل في سنة 232 هجرية (846م) إلا أنه لم يعلن خطته الانقلابية في بداية عهده. ترك الأمور تسير تحت رقابته ورعايته إلى العام 234هـ. وبعد سنتين من حكمه «أظهر الميل إلى السنة، ونصر أهلها، ورفع المحنة، وكتب بذلك إلى الآفاق» كما يقول السيوطي في «تاريخ الخلفاء» (ص 346).

أحدث الانقلاب هزة سياسية فمدح الشاعر البحتري الخليفة المتوكل في قصيدة. وقصيدة البحتري ليست سحابة صيف بل هي إحدى دلالات التحول. فالشعر هو مرآة وحين يتكلم الشاعر لابد أن تكون هنالك تحولات قد حصلت في وجدان الناس وأحاسيس الشارع. فالبحتري في قصيدته يمدح خطوة المتوكل ويباركها ويلعن فيها رأس حربة المعتزلة في ديوان الخلافة أحمد بن أبي دؤاد وأصحابه. فالأخير الذي تجبر وتكبر ذله القدر وتعاقب الزمن فأصيب بفالج بعد طرده من الديوان توفي بعده وحيدا من دون نصير. الجاحظ مثلا (وهو صاحب فرقة في المعتزلة) حاول المساومة وإيجاد تسوية بينه وبين المتوكل إلا أن الخليفة رفض قبول تراجعه وانسحابه من فكر المعتزلة فانكفأ وغادر بغداد إلى مسقط رأسه في البصرة ومات هناك بعد ثماني سنوات.

كان وقع الانقلاب السياسي شديدا على المعتزلة التي خرجت من لعبة السلطة لتخوض سلسلة معارك أيديولوجية امتدت إلى أكثر من 200 سنة من دون نتيجة. فالعصر الذهبي انقضى ولم يعد بالإمكان إعادة عقارب الزمن إلى ما كانت عليه.

انقلاب المتوكل على المعتزلة كان الخطوة الأولى في انقلاب السلطة على نفسها. فبعد تلك الفترة ستشهد الخلافة عهدا من التقلبات واللااستقرار نتيجة نمو نزعة العسكرة التي قادها الأتراك في وقت كان المجتمع ضائعا يبحث عن هوية أيديولوجية جديدة بعد 40 سنة من حكم المعتزلة.

مال المتوكل إلى المذهب الشافعي بل كان عليه كما يذكر السيوطي، فهو «أول من تمذهب له من الخلفاء» (ص 352). إلا أن التمذهب شيء والمعرفة العقائدية شيء آخر. فالمتوكل كما أجمع المؤرخون لم يكن من المتدينين على رغم كرمه وسعة صدره وحلمه. وبسبب ذاك التعارض بين ميله المذهبي ونهجه اليومي شهد عهده الكثير من التعارضات والتجاذبات. فعلى الصعيد الشخصي كان يميل إلى اللهو واتهمه المسعودي في تاريخه بالانهماك في اللذات والشراب والجواري. وعلى الصعيد السياسي اعتمد كثيرا على الأتراك وعسكرة الدولة. وعلى الصعيد العقائدي كان متشددا من دون علم وحتى مخالفا للمذهب الشافعي المعروف عنه باعتداله وتوفيقه بين مدارس الحديث والرأي والاجتهاد والقياس. فالشافعية في هذا المعنى كانت نقطة حوار وتواصل بين المدارس الفقهية ومالت إلى التقريب بين المذاهب ورفضت التعصب والاقتتال.

إلا أن لعبة السلطة تختلف والمتوكل في السياق المضاد لجوهر الشافعية لجأ إلى التشدد والتعصب وبالغ كثيرا في التطرف إلى حد ظلم آل البيت وأهلهم. ويقال عن المتوكل إنه أمر في سنة 236هـ (850م) كما يذكر السيوطي «بهدم قبر الحسين، وهدم ما حوله من الدور (...) ومنع الناس من زيارته (...) فتألم المسلمون من ذلك» (ص 347).

لم يقتصر تشدد المتوكل على العراق بل كتب إلى الولاة في الأمصار يطالبهم بسلوك سياسة منافية للفترة السابقة فحصلت في عهده تجاوزات مضادة ضد بعض القضاة كما حصل مع قاضي القضاة في مصر (محمد بن أبي الليث) الذي قتل بتهمة مناصرة الجهمية. وفي سنة 244 هجرية (858م) أمر بقتل إمام اللغة العربية في عصره يعقوب بن السِّكيِّت لخلاف حصل معه بسبب ميل الأخير إلى أهل البيت وأئمته.

رفع المتوكل المحنة عن جانب ونقلها على جانب آخر وهذا لم يسعف الخليفة في كسب أهل السنة جميعهم بل زاد من اضطراب الدولة ورفع من حدة التوتر بين السلطة والمجتمع الأمر الذي أتاح فرصة لقواد الأتراك في اللعب على التناقضات وتحسين مواقعهم ونفوذهم إلى درجة أنهم تآمروا مع الابن (ولي العهد) ضد الأب (الخليفة).

الانقلاب على الانقلاب كان هو الرد العملي على سياسة مضطربة بين رفع المحنة من جهة ونقلها إلى جهة أخرى. وباعتماد المتوكل كثيرا على الترك في حماية ملكه قويت شوكتهم فاختلفوا معه ثم اتفقوا مع ولي العهد ابنه المنتصر على قتل أبيه، فقتلوه في مجلسه مع وزيره الفتح بن خاقان سنة 247هـ (861م).

بانقلاب الابن على والده دخلت الدولة العباسية في نفق جديد من الاضطراب واللااستقرار. فالسلطة لم تعد وراثية (شرعية) وديوان الخلافة بات ساحة للصراع بين أصحاب النفوذ وقادة عسكر الأتراك ولم يعد بإمكان الخليفة الجديد (المعين من قبلهم) التحكم بمسار الحوادث والسيطرة على مراكز القوى المتقلبة والقلقة.

حاول المنتصر - الذي بويع له بعد قتل والده - في سنة 247هـ (861م) أن يسلك سياسة مخالفة لوالده المتوكل فاتجه نحو التقرب من آل البيت وما «كانوا فيه من الخوف والمحنة بمنعهم من زيارة قبر الحسين». (السيوطي، ص 356). إلا أن تصحيح النهج السابق ليس كافيا في وقت أتاح للترك السيطرة على مقاليد السلطة بانقلابه على والده. هذا الأمر ظهر بسرعة وبعد أسابيع من توليه الخلافة فاختلف مع الأتراك على صاحب القرار والمسئول عن إدارة الدولة وشئونها، فحاول المنتصر التخلص منهم واتهمهم بأنهم «قتلة الخلفاء» (السيوطي، ص 357)... فانقلبوا عليه وقتلوه بعد أقل من سنة من توليه الحكم. وتوفي في سنة 248 هجرية ولم يتجاوز الـ 26 من عمره.

اجتمع قادة الأتراك واختاروا المستعين (شقيق المتوكل) وبايعوه واستمر في الحكم إلى أول سنة 251 هجرية (865م) وتنكروا له فهرب منهم فخلعوه وبايعوا المعتز (ابن المتوكل) بعد أن أخرجوه من السجن. وحصلت فتنة أهلية بين جماعة المستعين وجماعة المعتز دامت أشهرا... اضطر خلالها المستعين إلى الموافقة على خلع نفسه في أول سنة 252 هجرية (866م).

انقلاب المتوكل على المعتزلة أورث الدولة سلسلة انقلابات على السلطة حملت معها اختلافات في التوجهات السياسية والجهة المذهبية التي يجب على الدولة اتباعها. وعلى رغم الفوضى والغموض والاضطراب وغيرها من مشكلات عمّت الدولة والمجتمع استمرت المعتزلة خارج سياق الصراع إذ منذ لحظة طردها انتقلت فرقها من السياسة إلى الأيديولوجيا وبقيت تلعب دورها المؤثر على المدارس والاجتهادات إلى أن سدد لها الأشعري (أبوالحسن) ضربة عقائدية من داخلها (توفي الأشعري في سنة 324هـ - 935م) لم تقوَ بعدها على النهوض كقوة مستقلة أو كفرقة خاصة ذات شأن

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 427 - الخميس 06 نوفمبر 2003م الموافق 11 رمضان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً