العدد 447 - الأربعاء 26 نوفمبر 2003م الموافق 01 شوال 1424هـ

قلعة البحرين... صرح للوعي والصداقة

لم تثننا أنا وزميلي الدنماركي توماس حرارة يوم اكتوبري مشبع بالرطوبة من التوجه الى قلعة البحرين لرؤية بقايا عمل البعثة الدنماركية التي نقبت في ارجائها في الخمسينات واماطت اللثام عن حضارة دلمون والتعرف على اكواخ البرستي التي سكن فيها الآثاريون الدنماركيون طيلة ايام عملهم، لكننا لم نجد سوى الأطلال التي تقف شاهدا على التاريخ الغابر، فرجعنا الى بيتنا القريب من القلعة لا نلوي على شيء.

وفي بيتنا القريب من القلعة عدنا مرة أخرى لكتاب البروفسور غلوب «البحرين» الذي يذكر فيه ان البعثة الدنماركية استعانت بأعداد كبيرة من البحرينيين في عملها الآثاري، وخصوصا من القرى المحيطة بالقلعة مثل كرانة وباربار وسار وغيرها... فقررنا شد الرحال اليها والبحث عن اولئك الرجال... وكان ذلك اشبه بمغامرة، إذ مرت خمسون عاما على انتهاء الحفريات الأثرية!

ما أن ولجنا بحذر الى شوارع كرانة حتى بدأنا نشعر بنظرات مليئة بالتساؤل توجه إلينا اثناء تجوالنا، لكن الوقت لم يطل بنا كثيرا إذ أخذنا أحد الشباب الى مكان قريب فيه يجتمع بعض الرجال المتقدمين بالسن الذين يفترشون الأرض فرحبوا بنا واجلسونا الى جانبهم وسقونا شايا حلوا وقهوة صفراء لم نعهدها من قبل، فتشجعنا وأظهرنا لهم الألبوم الذي يحتوي على صور عمال التنقيبات القدامى فانقض عليه الجميع يقلبونه ويتصفحونه، فكان منهم من يتعرف على صورته أو صورة أبيه أو أخيه أو قريبه، وآخر تخونه الذاكرة والرؤية فلا يستطيع ان يرى بوضوح أو يتذكر صوره أو صور أهله من دون مساعدة زملائه، وعلت الأصوات واختلفت التقديرات على هذه الصورة او تلك.

لقد ايقظ هذا الألبوم مشاعر مختلفة من الفرح والحزن والذكرى والحنين عند الجميع لتلك السنوات الخوالي، وأحاسيس الصداقة الحميمة وصلات العمل والاحترام المشترك بين الطرفين، وكان الكثير من العمال البحرينيين يحتفظ بالكثير من القصص الاسطورية التي تتناقلها الشفاه من جيل الى جيل عن القلعة، وعن القناة الملكية التي حفرت تحت القلعة البرتغالية لتصل قلب البحر كممر اضطراري في حالات الحصار الخطرة.

وفي غمرة البحث عن الشخصيات والتأكد منها، لم ينس الحضور الشاب الدنماركي القادم وراحوا يسألونه عن الآثاريين والآثاريات الدنماركيين القدامى مثل «بيبي وفيلو وكان وملينة»، إن كانوا أحياء، وإن كانوا سيعودون للتنقيب مرة أخرى، بل راح البعض منهم يلح بالسؤال إن كان الشاب الدنماركي القادم هو إبن غلوب نفسه!

ومهما كانت هذه المشاعر مختلفة عند هذا الجمع إلا ان هناك شعورا موحدا عند أهل كرانة وهي الذكرى الطيبة التي تركها هؤلاء الدنماركيون في ذاكرتهم ببساطتهم وتعاملهم الإنساني، وانعكس هذا الشعور بترحيبهم وتكريمهم لنا مما أزال مشاعر الغربة عنا، وجعلنا نحس بأننا وسط أهل واصدقاء تصديقا للمثل الدنماركي القائل «إن الصداقة الحقيقية لا تصدأ أبدا». لقد كان ميرزا حسن مبارك أحد اقدم العمال الآثاريين هو لولبنا المحرك في الاتصال بالآخرين وهو يقوم بذلك عن طيبة خاطر، وهو مازال يتشوق للعمل مع الآثاريين الدنماركيين إن عادوا مرة أخرى لطيب معاملتهم، وكذلك عائلة الأسود التي استضافنا الكثير من رجالها وشبابها في بيوتهم. وبمرور الوقت تعززت علاقتنا بكرانة أكثر، وكانت مناسبة قرقاعون شعبان فرصة ممتازة للظهور والمشاركة، وبهرتنا درجة تنظيم الاحتفالات، وقوة التلاحم والأخوة التي تربط ابناء كرانة الذين يتحركون وكأنهم جسد واحد في هذا الكرنفال الشعبي الرائع.

لقد كان ذلك بداية موفقة جدا لعملنا الذي شمل الكثير من القرى القريبة ومنها قرية الحجر التي التقينا فيها بابراهيم الحجري الذي مازال يتذكر أيام عمله مع البعثة الدنماركية بأقل تفصيلاتها، وكيف كان يحظى باحترام خاص من رئيس البعثة البروفسور غلوب لقوته الجسدية المتميزة ولذكائه ولإلمامه بطرق التنقيب الآثاري، وكيف بقي يحتفظ بعلاقات طويلة مع جيفري بيبي حتى لسنين قريبة، إذ كان الأخير يزوره كل مرة يزور فيها البحرين، وسبب هذه الصداقة هو إنقاذ ابراهيم ابن بيبي ماك - أو «مكي» مثلما كان يُسمى - من موت محقق عندما تسلق هذا الصبي الى اعلى جدران القلعة العالية، ولم يستطع النزول فأصيب الوالدان بالفزع وصرخا على ابراهيم طلبا للمساعدة لإنقاذه فتسلق ابراهيم الجدار بخفة النمر وانزله سالما وسط دموع فرح وامتنان والديه اللذين بقيا ممتنين لإبراهيم طوال عمريهما على هذا الصنيع. أرانا ابراهيم زنده الذي يحمل وشما قديما مازال واضحا على عضلات ذابلة ويحمل صورة فتاة دنماركية من البعثة اسمها «ملينة» التي مازال حبها يعيش حيا في جوارح ابراهيم على رغم انه اصبح كهلا وجدا.

لقد كانت لباربار حصتها من استقصائنا، إذ تعرفنا فيها على الكثير من الرجال الذين عملوا مع البعثة الدنماركية، وكانوا يتذكرون بحنين كل التفاصيل الدقيقة بالعمل الآثاري كاكتشاف البئر المقدس الذي يأخذ مياهه من أم السجور حسب تقديرهم، ورأس الثور المقدس، وكل التفاصيل الصغيرة من حياة التنقيب اليومية التي عاشوها مع الدنماركيين، وخصوصا غلوب وبيبي وكارن وهيلموت وفيلو الذين يحظون بمنزلة خاصة في قلوبهم. لقد كان هؤلاء ذاكرة حية تتحدث عن كل ماضي باربار المزدهر في استخراج اللؤلؤ بواسطة اسطول يزيد تعداده على خمسمئة سفينة يقضي طواقمها مدة شهور في البحر وراء صيدهم الغالي.

لقد توسعات جولاتنا بعد ذلك لنصل الى أولئك البحرينيين الذين التقوا الآثاريين الدنماركيين عن طريق العمل او الزيارة وحتى حب الفضول، وعرفنا الكثير من الأجيال الجديدة التي ربت في كنف دلمون من فنانين وآثاريين وعلماء وشعراء وغيرهم وقد اصبحوا بعد هذه السنين الطويلة فنانين كبارا مثل عبدالكريم العريض الذي أشار الى دور رسام البعثة الدنماركي كارل بوفين في ارشاده وتلقينه في بداية حياته الفنية، وكذلك الفنان راشد العريفي الذي احتل تراث دلمون واختامها دورا محوريا في انتاجه الفني، وآثاريين محترفين مثل الشيخة هيا آل خليفة، وعبدالرحمن مسامح، وخالد السندي. وبالنسبة إلى الدنماركيين الذين كانت حياتهم البسيطة داخل اكواخ البرستي فإن زيارة لهم لبستان البدايع التابع للشيخ ابراهيم القريب من القلعة بمثابة زيارة للفردوس مثلما عبروا عنه.

وكثير ممن التقيناهم من صفوة المجتمع البحريني من مثقفين وعلماء مثل أستاذة الاجتماع في جامعة البحرين منيرة فخرو، ومسئولة قسم المسرح في المتحف الوطني كلثوم امين عيسى إذ زارتا القلعة في مرحلة مبكرة من حياتهما أكدتا أن قلعة البحرين ودلمون لعبتا دورا مهما لديهما في تشكيل وعي تاريخي مبكر بتاريخ وثقافة بلدهما التي تصل الى آلاف السنين.

وكان ميلاد المتحف الوطني الجديد يتزامن مع تلك النقلة التي خلقتها دلمون في الوعي البحريني تجاه التاريخ القريب والبعيد، وضرورة تعميق الوعي بأهمية التراث والمحافظة عليه، وهو ما تقوم به الشيخة مي آل خليفة من خلال الكثير من الفعاليات التي تهدف الى المحافظة على التراث، ومن اجل تعزيز العلاقة مع متحف موسغورد في الدنمارك الذي انطلقت منه أول البعثات الآثارية نحو البحرين وغيرهم من الآثاريين في هذا المجال وهو مثل يجب الاحتذاء به من كل المخلصين

العدد 447 - الأربعاء 26 نوفمبر 2003م الموافق 01 شوال 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً