العدد 466 - الإثنين 15 ديسمبر 2003م الموافق 20 شوال 1424هـ

لقد وقع الطاغية المتجبّر في الأسر

انتهى كابوس صدام وبدأ الكابوس الجديد

روبرت فيسك comments [at] alwasatnews.com

إذا... لقد وقع صدام في الأسر أخيرا. أشعث أغبر، عيناه زائغتان تنمّان عن الهزيمة، حتى مبلغ الـ 750 ألف دولار الذي وجد في جحره الارضي كان يحط من قدره.

صدام في الاغلال اليوم، ربما ليس بالمعنى الحرفي، ولكنه بدا في شريط الفيديو الاخير مثل سجين روماني قديم، بربريا محصورا في زاوية، ويده تعبث بلحيته الكثة. وكل الأحياء الذين قضى عليهم، من الايرانيين والاكراد ضحايا الغاز، والشيعة القتلى في القبور الجماعية بكربلاء، والسجناء الذين قضوا نحبهم في أقبية التعذيب على أيدي شرطته السرية، كل هؤلاء لابد انهم شهدوا شيئا من هذا القبيل.

وفي الحشد المتجمع يوم الاحد، قال الحاكم الأميركي بول بريمر: «أيها السيدات والسادة، لقد وقع في ايدينا». وأضاف: «انه يوم عظيم في التاريخ العراقي، فهناك مئات الآلاف من العراقيين الذين عانوا من بطش هذا الرجل المتوحش على امتداد عقود. وهذا المتوحش قسّمكم ضد بعضكم بعضا، ولعقود كان يهدد جيرانه. كل ذلك قد انتهى للأبد، فالطاغية وقع في أيدينا». فيما قال طوني بلير: «صدام سقط ولا يمكن ان يعود إلى الحكم».

رئيس جمهورية وغازي دولتين

ولم يتطلب الأمر غير 600 جندي أميركي، للقبض على الرجل الذي كان من أفضل أصدقاء الغرب في الشرق الأوسط لمدة 12 عاما، ومن أشد أعدائه لأكثر من 12 عاما أخرى! وفي حفرة بائسة، عمقها 8 أقدام، في حقل موحل قرب قرية الدور، تم العثور على رئيس جمهورية العراق، وزعيم حزب البعث العربي الاشتراكي، والمقاتل السابق، وغازي دولتين، وصديق الرئيس الفرنسي جاك شيراك، والرجل الذي حظي بمدح وثناء الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان... تم العثور عليه مختبئا، وربما بوشاية من احد المقربين إليه، ويواجه الآن - إن صدق الأميركيون فيما أعلنوه - محكمة جرائم الحرب على طريقة محكمة نورمبرغ.

كانت القوات الأميركية على مدار اسابيع تطوف بالمنطقة على امتداد نهر دجلة، تعتقل المسئولين البعثيين وتستجوبهم، وتلاحق رجال حرب العصابات في تكريت وسامراء والموصل، وتقتل المدنيين معهم. ولكن يوم الاحد شهد دون أدنى شك نصرا عسكريا أميركيا، بشرط أن تنتهي أعمال المقاومة ضد الأميركيين.

وفي بغداد، أعادت قوات الاحتلال مرة بعد أخرى، شريط «طاغية بغداد» الذي يعني العراقيين أكثر مما يعنينا نحن الغربيين. وإذا كانت العينان عيني تشي غيفارا، فان اللحية لحية فيدل كاسترو. بل كان هناك نوع من الكارل ماركس المعتوه في ذلك الوجه. لقد كان قاسيا طبعا، وكلهم كذلك في الشرق الأوسط، ففي هذه المنطقة يمتدحون الوحشية والقسوة باعتبارها قوة.

ولكن الاحساس الذي سيطر على سواه هو ان الثورة تنبت الآن، فجوانب السخرية كانت غير اعتيادية. ففي شبابه العام 1959 حاول صدام اغتيال الرئيس العراقي آنذاك، وأصيب برصاصة في رجله واختفى في منطقة بتكريت غير بعيد من المكان الذي اعتقله فيه الأميركان أخيرا، بعد نصف قرن تقريبا. لقد حاول أن يعود إلى شبابه أو كما يوحي بذلك شريط الفيديو، فصدام الوحش انقلب إلى صدام المحارب. وقال الأميركان انه كان متعاونا وبدأ يتحدث بعد اعتقاله. ولم أعجب لذلك، فقد أصبح مهما مرة أخرى، كمجرم حرب، ولم يعد رجلا في قبو. وكان من الصعب النظر إلى هذه الصور لـ «أسد العراق»! كما كان يحب أن يسمي نفسه، لنتذكر كيف كان يعامل بفخامة وأبهة في الماضي القريب.

ضيف شرف في باريس

لقد حلّ هذا الرجل ضيف شرف على مدينة باريس، عندما كان جاك شيراك عمدتها، وعندما كان يمكن للفرنسيين أن يشاهدوا طيف «اليعاقبة» في نظامه الدموي. وكان هذا الرجل هو الذي يتفاوض مع الأمينين العامين للأمم المتحدة بيريز ديكويلار وكوفي عنان، والذي لم يتحدث لأحد وهو يرتشف القهوة غير وزير الدفاع الأميركي الحالي دونالد رامسفيلد، وهو الذي كان يستضيف مبعوثي الدول الاوروبية من قبل. ولكن هل كان ما حدث هو نهاية الكابوس فعلا؟ طبعا هذا المخلوق الكسير الذي ظهر في الشريط الأميركي انتهت أيامه وما كان لها أن تعود، وكان هناك نوع من الارتياح على وجهه، والمسرحية قد انتهت. لقد كان حيا، على خلاف عشرات الآلاف من ضحاياه. فكم كان حجم الذكريات في عقله المتعب يا ترى؟ الاهانة الاخيرة التي تعرض لها بعبث ذلك الطبيب الأميركي بشعره ربما أثارت هدأتها ذكريات أخرى، حين كانت أيدي الجراحين والاطباء الفرنسيين هي التي تتولى علاج أفراد عائلته، ولم يكن طبيب عراقي واحد يجرؤ على معالجة التكريتيين!

طبعا كان بإمكانك ان تشاهد المسلحين وهم يحتفلون يوم الاحد، وتسمع أصوات الرصاص تلعلع في سماء بغداد ليلا، فقد سقط مقيدا بالأغلال ذلك الشخص الذي قتل آباء هؤلاء المحتفلين وأمهاتهم وأزواجهم واخوانهم وابناءهم.

وعندما لعلع الرصاص في شوارع مدينة الصدر - مدينة صدام سابقا - كنت جالسا في منزل رجل دين شيعي قتلته دبابة اميركية، ومن حولي جمهور من العراقيين لا يكنون أي حب للأميركيين، وحين اخذ صوت الرصاص يعلو اكثر خرج صبيٌ من الغرفة راكضا وعاد بالخبر صارخا: «الاذاعة العراقية أعلنت القبض على صدام»، فشعت تلك الوجوه الحزينة التي لم تبتسم منذ اسبوع بالفرحة العارمة، وأخذ صوت الرصاص يعلو من جديد. وفي الشوارع اصطدمت بعض السيارات ببعضها وسط الفوضى التي اجتاحت الشوارع. ولكن لم يكن ذلك إلا فرحا عابرا، فلم يكن هناك حشود كبيرة، ولم تكن هناك احتفالات ضخمة بالشوارع، ولا تعبيرات تنم عن الفرح من جانب الناس العاديين في بغداد، فما سيحدث شيء فظيع بشكل استثنائي: استمرار الحرب، فهذا هو الاستنتاج العام الذي توصل إليه كل عراقي تحدثت إليه يومها.

كانت يداه باردتين

المؤكد هو ان هذا الرجل المتسخ والمثير للشفقة، بشعره الأشعث الوسخ، الذي يعيش في حفرة بالأرض، مصطحبا ثلاث بنادق ومبلغا من المال، ليس هو الذي يقود المقاومة العراقية ضد الاميركيين. وفي الواقع كان الكثير والكثير من العراقيين يقولون قبل القبض عليه ان احد أسباب عدم التحاقهم بالمقاومة ضد الاحتلال الاميركي هو الخوف من عودة صدام إلى السلطة فيما لو انسحب الاميركان. اما الآن وقد ارتفع الخوف والكابوس انتهى، ولكن هناك كابوسا آخر سيبدأ بالنسبة إلى العراقيين والأميركيين على حد سواء.

ذلك الرجل قابلته في حياتي ذات مرة قبل ربع قرن، وتصافحنا قبيل عقد مؤتمر صحافي كان يريد ان يشرح خلاله بعض النقاط عن «الانشطار الثنائي»، إذ كان حينها يرغب في تطوير سلاح نووي. وكان يرتدي بذلة بصدرية عريضة مضاعفة (ضد الرصاص)، من النوع الذي كان الزعماء النازيون يرتدونه، مع معاطف فضفاضة لامعة جدا. وكل ما يمكنني تذكره من ذلك اللقاء هو يدين كانتا باردتين ورطبتين.

اليعاقبة هم جماعة سياسية متطرفة عرفت بنشاطها الأرهابي خلال الثورة الفرنسية (المحرر)

ينشر المقال بالاتفاق مع صحيفة «الاندبندنت» البريطانية

العدد 466 - الإثنين 15 ديسمبر 2003م الموافق 20 شوال 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً