العدد 471 - السبت 20 ديسمبر 2003م الموافق 25 شوال 1424هـ

هواجس الحال السياسية البحرينية وأسلوب استيعابها

تقي الزيرة comments [at] alwasatnews.com

استكمالا لمحاولتنا قراءة الحال السياسية البحرينية واستيعابها منذ انطلاقة الحركة الاصلاحية التي بادر بها جلالة الملك منذ توليه الحكم في مارس/ آذار 1999 وإطلاقه «المشروع الاصلاحي» في نهاية العام 2000، إذ تبين لنا في الحلقة الأولى تحت هذا العنوان نفسه، أن الخطاب الرسمي والمبادرات المتتالية التي واكبته، وفي مقدمتها تبييض السجون واخلاؤها من معتقلي الرأي، والسماح بعودة المنفيين والمبعدين إلى البلاد، ورفع سقف الحريات العامة لاسيما حرية التعبير عن الرأي، وإطلاق مشروع ميثاق العمل الوطني والالتفاف الشعبي غير المسبوق حول الحاكم الجديد، والتفاعل الجماهيري الكبير جدا مع المشروع الاصلاحي، وإلغاء قانون أمن الدولة ومحكمة أمن الدولة، واعادة الحياة الدستورية، والبدء في تأسيس مملكة دستورية وفصل السلطات الثلاث، والتصويت على الميثاق، واجراء انتخابات بلدية، والدعوة لانتخابات نيابية في أكتوبر/ تشرين الأول 2002، كل ذلك كان بمثابة خطوات ومبادرات شجاعة لم تكن في حسابات المعارضة أو الشارع البحريني، وأدت إلى إحداث نقلة نوعية كبرى في تاريخ البحرين المعاصر، أربكت الكثير من الحسابات والقراءات.

ومن الواضح أن هذا المبادرات المتتالية، التي حدثت في فترة وجيزة وقياسية، خلقت حالة سيكولوجية متفائلة جدا بين فئات المجتمع البحريني، لاسيما لدى كل من الحاكم والمعارضة، ما أدى إلى ارتفاع سقف التوقعات في الشارع البحريني، إلى أعلى مستوياته، إلا إنه لاحقا ارتطم بسقف منخفض نسبيا بالقياس مع حجم تلك التوقعات العالية. فما الذي حدث؟ هل كان حاكم البحرين صادقا وجادا في مشروعه الاصلاحي مثلما تكرر الغالبية الصامتة؟ أم أنها (مسرحية) ومؤامرة من الحاكم الجديد، حسبما تردده الآن (بعض) فصائل المعارضة ورموزها هنا وهناك، حتى يتمكن من ابتداء فترة ولايته من دون أزمة سياسية (ساخنة) وبعدها يسحب البساط من تحت أقدام المعارضة ويتخلص من ضغوطها المحلية والدولية؟

وبعبارة أخرى، هل كان المشروع الاصلاحي مشروعا حقيقيا أم كان مجرد خطة لاعادة توزيع الأدوار والتخلص من تبعات الماضي وأخطائه ودسائسه؟ هل (استغرق) حاكم البحرين في وعوده (وانفلتت) عواطفه فانفلتت بالتالي مشاعر الجماهير وزاد حماسهم، فابتعدوا جمعيا، من دون وعي منهم، عن الواقع المعقد الذي تعيشه البحرين والمنطقة الخليجية؟ أم هل لايزال المشروع الاصلاحي يسير بصورة صحيحة مثلما خطط له حاكم البحرين، إلا إنه يسير بخطى حذرة أحيانا وثقيلة أحيانا أخرى، ويواجه كل يوم مصاعب وتحديات لم تكن في الحسبان؟ ما القصة بالتحديد؟

باعتقادنا، وهنا أزعم أن الغالبية الصامتة تشاركنا الرأي، أن المشروع الاصلاحي هو مشروع لحركة اصلاحية حقيقية، وأن ملك البحرين يحمل نوايا صادقة وأمينة، ولم يتزحزح عن مشروعه أو يتراجع عنه، وذلك على رغم التحديات والعقبات التي تواجهه، وفي مقدمتها صخرة السلطة التنفيذية، فضلا عن صخرة المعارضة، لاسيما التحالف الرباعي، الذي تبنى موقف مقاطعة الانتخابات النيابية. فنحن فعلا نعيش الخطوات الأولى لحركة اصلاحية سياسية واقتصادية ومجتمعية صادقة، إلا أن هذه النوايا الحسنة والمشاعر الصادقة اصطدمت بواقع معقد، فرض نفسه على أمر الواقع، فكان لابد من التريث وعدم الاستعجال في اخراج الصورة الكاملة لمشروع المملكة الدستورية، وكان لابد من التوقف قليلا أمام الهواجس الأربعة التي قفزت إلى السطح ووقفت في مفترق طريق المشروع الاصلاحي والعمل على تطمينها ومراعاتها. فما هذه الهواجس ياترى؟ دعونا نستعرضها ونرتبها بحسب أوزانها ودرجة أهميتها كالآتي:

1- هاجس المحاسبة (المحاكمة) لعناصر الفساد السياسي والاداري والمالي والأمني: فلو تم ترك الباب مفتوحا لهذه المحاسبة، بحسب رأي بعض المحللين السياسيين، لدخلنا في متاهات واختلافات عريضة لا حصر لها، ولطالت عمليات المساءلة والمحاسبة وتفرعت بصورة أفقية وعمودية، ولاكتشفنا أن عناصر الفساد منتشرون شرقا وغربا ومن كل حدب وصوب، ما قد يؤدي إلى اختلاط الكثير من الأوراق والى ارباك الادارة السياسية للبلاد وابتعادها، قليلا أو كثيرا، عن المسار الذي خططت له. ولاشك في أن المرسوم بقانون رقم 56 كان تعبيرا واضحا عن هذا الهاجس. فقد أكد رغبة الدولة ومضيها نحو طي صفحة الماضي والتوجه نحو المستقبل، وعفا الله عما سلف.

2- الهاجس الطائفي: مع أن المشروع الاصلاحي استهدف تعزيز مبدأ المواطنة وتأكيد الولاء للعلم البحريني، إلا أن الهواجس الطائفية ارتفعت هنا وهناك، وخصوصا ما بين السنة والشيعة، ربما خوفا من أن تتنافس الطائفتان فتطغي احداهما على الأخرى قبل ذوبانهما وانصهارهما معا في جسد المواطنة والولاء الواحد. ولاشك في أن هذه الهواجس الطائفية ألقت بظلالها على المشروع الاصلاحي وإدارته السياسية. فجاءت ردة الفعل الرسمية واضحة (ومبالغة أو منحازة) وانعكس بقوة على الدوائر الانتخابية التي تم رسمها وتقسيمها بصورة عبرت عن الهواجس الطائفية، وربما استهدفت أحيانا تغليب طائفة على أخرى، أو فئة على أخرى. ومن الواضح، أن ردة الفعل الرسمية للتعبير عن هذه الهواجس كان مفرطا إلى حد كبير، لدرجة أنها خالفت الكثير من المعايير والأوزان الجغرافية والسكانية والديمقراطية في شأن تقسيم الدوائر الانتخابية، ما أدى الى ارتفاع صيحات التظلم (من كلا الطائفتين) بل ومن بعض الاتجاهات الحقوقية والوطنية التي رأت فيه تنكرا وتلاعبا بالمعايير الدولية، وتهميشا متعمدا للقوى الوطنية، ويعزز النعرات والفتن الطائفية.

3- هاجس الغلو الاسلامي: من الواضح أن الساحة البحرينية لها انتماء اسلامي قوي، وأن القوى الاسلامية عموما، فرضت نفسها وسيطرتها، واكتسحت كل الانتماءات والدعوات الايديولوجية والقومية الأخرى، وحققت لنفسها انتشارا واسعا، ما أدى إلى تزايد المخاوف والهواجس المجتمعية، لاسيما في العقدين الأخرين، وخصوصا بعد الممارسات والانشطة المتطرفة من بعض الاصوليين الاسلاميين المتطرفين هنا وهناك (في منتصف التسعينات، عبر لي مدير فندق من الدرجة الممتازة في البحرين، عن قلق قطاع الفنادق والسياحة، وتخوفه من سيطرة الاسلاميين، وتدخلهم والتأثير على مشروعاتهم واستثماراتهم، التي تقدر بمليارات الدولارات).

الحركات الليبرالية والديمقراطية، لاشك أيضا في أنها عبرت عن قلقها وخوفها من السيطرة الاسلامية على الساحة. هذه الهواجس لامسناها فترة الانتخابات البلدية في العام 2001 عندما تنافس مرشحون من الاتجاه الليبرالي والديمقراطي وفشلوا فشلا ذريعا أمام مرشحي الاتجاه الاسلامي.

ولامسناها أيضا عندما اصطدمت الحركة النسائية الليبرالية بالاتجاه الاسلامي في مشروع قانون الأحوال الشخصية. ويبدو أن هذه الهواجس جذبت اهتمام الادارة السياسية للمشروع الاصلاحي، وأدركت خطورتها وتداعياتها الاجتماعية والسياسية المحتملة، وتأثيراتها الاقتصادية (مثل طرد الاستثمار والتكنولوجيا، وهجرة العقول، فضلا عن افشال جهود الدولة ومساعيها لجذب الاستثمار وتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة ورفاهية اقتصادية لكل افراد المجتمع).

وبعبارة أخرى، هذا الهاجس فرض ضغوطا اقتصادية واضحة على الدولة فضلا عن الضغوط المجتمعية والدولية. فالدول العربية، لاسيما بعد حوادث 11 سبتمبر/ أيلول، صارت متهمة من الغرب عموما ومن أميركا خصوصا، بأنها «بيئة صالحة لتفشي الارهاب، وأن الارهاب مصدره الجماعات الاسلامية المتطرفة، التي يتوجب على الأنظمة العربية لجمها وعقلنتها أو التعامل معها بصورة حازمة ومتشددة» بحسب المزاعم الغربية. لهذا كان لابد للإدارة السياسية البحرينية من الالتفات لتحقيق توازن في المجتمع، بحيث تتمكن من السيطرة على حركات التطرف (الاسلامية) وحماية العلاقات والمصالح الاقتصادية المحلية والدولية وتعزيز ودعم التيارات المعتدلة، وفي الوقت نفسه، ضمان عدم استفزاز المسلمين أو الاساءة لمعتقداتهم وشعائرهم الدينية.

4- هواجس العلاقات الخليجية والاقليمية: يتفق المحللون السياسيون على أن قيام أية دولة خليجية بتبني منهج الديمقراطية والانفتاح السياسي من شأنه أن ينعكس سلبا أو ايجابا على الدول المجاورة، فهي دول مرتبط واقعها ومصيرها ببعضها بعضا ومتصلة جغرا سياسيا ببعضها بعضا، فيما يشبه عربات القطار الواحد، ويرى أحد المراقبين «أن مقصورة القيادة في هذا القطار يجب أن تكون عربة سعودية، ولا يجوز بتاتا أن تتقدم عربة البحرين بعيدا عن بقية العربات أو تنفصل عنها». وبعبارة أخرى، قد تكون تربة البحرين ومناخها وبيئتها وشعبها أكثر استعدادا من الدول المجاورة لتطبيق مبادئ الديمقراطية وتأسيس برلمان منتخب بالكامل وتأسيس الأحزاب وفصل السلطات، إلا أن قيامها بذلك منفردة وانطلاقها للأمام بعيدا عن بقية أخواتها، قد يفرض ضغوطا شعبية على الدول المجاورة، التي سيطالب شعوبها حكوماتهم باللحاق بالنموذج البحريني والقيام بمبادرات اصلاحية بدرجة لا تقل عما وصلت إليه البحرين.

ومن الطبيعي أن القيادة السياسية البحرينية الجديدة في توافق وانسجام مع القيادات الخليجية الأخرى وتراعي هواجسها، وتدرك أهمية التنسيق معها في علاقاتها وخططها المستقبلية، لاسيما في مجالات السياستين الداخلية والخارجية

العدد 471 - السبت 20 ديسمبر 2003م الموافق 25 شوال 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً