العدد 479 - الأحد 28 ديسمبر 2003م الموافق 04 ذي القعدة 1424هـ

سائقون مبتسمون وقطارات يرثى لها

روبرت فيسك comments [at] alwasatnews.com

أعلن مدير محطة السكة الحديد بوسط بغداد، شاكر محمود، وهو يبتسم راضيا عن سير العمل «لدينا اليوم 20 مسافرا الى البصرة - أربع عربات وقاطرة واحدة» وعندما سألته إذا متى سيغادر قطار البصرة؟

تلاشت ابتسامته، اذ جرت محادثة قصيرة بالعربية مع ستة مسئولين آخرين في السكة الحديد في الغرفة، سمعت من بينها كلمة «انفجار». وأدرك مدير المحطة أنني استطيع فهم المحادثة، فقال عابسا: «في الواقع لاقطار اليوم، هناك قنبلة أخرى على الخط الليلة الماضية ولم نستطع إصلاحه بعد. وكان آخر قطار مضى بالأمس».

إنها إحدى الأكاذيب التي يجب علينا جميعا تصديقها: الأمور تتطور الى الأفضل في العراق. وطبعا لا مسئول واحد في سلطات الاحتلال الانجلو - أميركي يعترف بالحقيقة التي أقر بها شاكر محمود الآن: تعرض خط بغداد - البصرة في خلال الشهور السبعة الماضية لـ 37 هجوما، إلى جانب 40 هجوما على الأقل على خط الموصل، مع تخريب يومي على خدمة المسافرين الى القصيبة.

وما ان تغادر مكتب محمود وتتخطى الساحة العظيمة العاصفة لمحطة السكة الحديد بوسط بغداد التي بنتها بريطانيا حتى تفهم ماذا يعني كل ذلك اذ تصفر الريح في ارصفة المبنى الفخم لشبكة السكة الحديد العراقية وقد أغلق الخط الرئيسي الى الموصل الآن «لأننا لا نستطيع اصلاح القطارات والخط بالسرعة الكافية»، كما قال مسئول آخر في الخدمة بوضوح وتم تعليق الخدمة إلى القصيبة وغرب العراق بشكل غير محدد لأن رجال المليشيا واللصوص يهاجمون قطارات المسافرين باستمرار، ولم يكن بالأمس في «العراق المحرّر» قطار واحد يتحرك في خطوط السكة الحديد، إذ لا تلعب هذا السكة دورها الا في عالم العراق الخيالي ولأنه على بعد ميلين على الخط تقف 50 قاطرة ديزل صينية جديدة ورائعة مطلية باللون الأخضر، اشترتها حديثا وزارة المواصلات الخاضعة للإدارة الأميركية لكي تسحب القطارات الطويلة التي لم تعد تتحرك عبر العراق. في كل منها ثبتت لوحة نحاسية بلولب وقد بدت العبارة: «صنع بواسطة ورشة داليان لقاطرات السكة الحديد، جمهورية الصين الشعبية 2002». ووقفت قاطرة القائد العظيم اليوم وسط ساحة الخردة لقاطرات الديزل الكندية والألمانية القديمة المحطمة والعربات الفرنسية والبولندية المتسخة في عهد صدام وأقر أحد المسئولين بأن عدد القاطرات ربما يعادل تماما عدد العربات.

لكن السائق لؤي مبتهج. حتى في العراق هناك إخوة وسط رجال السكة الحديد، والسيد حنا سائق فخور باحدى القاطرات الصينية الجديدة التي يسميها شخصيا «الغزال» بعد رحلتها السعيدة الأولى (فقط) من البصرة. وتسلق السلم الحديدي وفتح الباب وتقدم بي الى ما أسماه «منزله»، اذ تعلق فوانيس ورق صينية، صغيرة وغلاية قهوة وثلاجة وجاءت القاطرات الى ميناء «أم قصر» بعشرة مستشارين صينيين عاثري الحظ على متن السفينة وتستطيع الغزال السير بجانب 12 عربة بسرعة 180 كيلو مترا في الساعة، وعلى خط البصرة طبعا تشغل الخط أربع عربات فقط في كل اتجاه، وفي غالبية الوقت عندما يكون هناك قطار بأقصى سرعة 60 كيلو مترا في الساعة.

السيد حنا مسيحي، ولكنني وجدت شريط كاسيت لمواعظ مسلمين سنة فوق لوحة التحكم بجانبه، وخطب لشيخ دين من الفلوجة. لذلك خمنت أن زميله السائق مسلم سني واستطيع القول إن في الكثير من القاطرات الجديدة الأخرى توجد صور لعلي والحسين، الشهيدين العظيمين لدى المسلمين، ملصقة على الجانب الزجاجي للقاطرة وان لم يكن كذلك فان موظفي السكة الحديد متعددو التقاليد.

كنا نسير عائدين على طول الخطوط أثناء عاصفة باردة للغاية عندما لاحظت خلف السكة الحديد البرج الطيني الملتوي فوق قبة زوجة الخليفة هارون الرشيد، اذ مازالت تقف روعة التاريخ العراقي وسط الحطام الراهن، ونظر السائق حنا الى الأرض أثناء سيره وقال «لقد اعدم صدام أحد سائقينا، ولا أعلم لماذا. أستطيع تذكر اسمه الأول فقط: عباس. كان في قاطرته الديزل في البصرة في العام 1981 عندما جاء رجال الأمن اليه وأخذوه من القطار ولم نعد نراه مرة أخرى، وسمعنا أخيرا انه شُنق». وحل الصمت. ثم نظر حنا فجأة اليّ وقال «لم نكن نخبَر مقدما متى يسافر صدام بالقطار، وضعوا رَجُلي أمن خاص في غرفة القيادة في القاطرة معي وأخبروني بالذهاب الى الموصل.

توقفنا وتحركنا عدة مرات. ركب صدام في الموصل وسافر مسافة كيلو متر واحد فقط، ولا أعلم لماذا تضايق، وعندما نزل كان يرتدي ملابس مدنية مع بلوزة صوفية سوداء. يجب عليك أن تكون عضوا في البعث لكي يؤمن لك، ولكنني لم أكن في الحزب». فسألته: وهل وثق بك لأنك مسيحي ولست من إحدى الطوائف الاسلامية في العراق اذ يوجد أعداؤه الأقوياء؟ فأجابني: ربما تكون صائبا في ذلك. نعم كلانا، أنا والسائق الآخر حصلنا على شيء بسبب قيادة قطار استقلّه صدام. منحوا كلا منابقشيشا قدره 150 دولارا، وبالصدفة يعادل ذلك المرتب الشهري الجديد للسيد حنا من السكة الحديد العراقية. عندما وصلنا الأرصفة الخاوية، حيّا حنا زملاءه بدفء، فهم «رجال رائعون» كما يقول حنا وسمعتهم يضحكون ويتبادلون النكات، وباختصار هناك صورة لعراق «جديد» حقيقي. ولكن هناك سائقون كثر مبتسمون... وقطارات يرثى لها

العدد 479 - الأحد 28 ديسمبر 2003م الموافق 04 ذي القعدة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً