العدد 480 - الإثنين 29 ديسمبر 2003م الموافق 05 ذي القعدة 1424هـ

حوادث العنف والتخريب ليلة رأس السنة الميلادية... خطوات إلى الخلف

عبدالله فيصل جبر الدوسري comments [at] alwasatnews.com

لم تكن حوادث ليلة رأس السنة الميلادية التي وقعت في شارع المعارض العام الماضي إلا مؤشرات وتحولات اجتماعية قاسية. لقد كانت الحوادث التخريبية سلوكيات اجتماعية منحرفة مزّقت منطقة من أهم المواقع السياحية والتجارية في شرق المنامة، وعلامة تبعث على القلق والحيرة وتدفع في اتجاه المزيد من دراسة تلك الظاهرة المستحدثة بعمق استراتيجي يتلمس الجوانب التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كافة بحسب سياق وقوع تلك الحوادث وذلك على الأمد القصير والمتوسط والطويل. فبينما كان جدل الرأي العام والصحافة ركز على الجوانب والأسباب الأمنية قصيرة المدى والتي أدت إلى وقوع تلك الحوادث، فإننا في حاجة أكثر إلى تفحص الأسباب الحقيقية المرحلية والجذور العميقة لانطلاق موجة العنف والتخريب التي أصابت المجتمع البحريني. كما يجب إدراك أثر التغيير والتحول الاجتماعي السريع الذي يعيشه بلدنا بسبب التطور السياسي وما يمكن أن يصاحبه من مشكلات اجتماعية بسبب تطور النظام الاجتماعي من التقليدي إلى الحديث مثل الجرائم المستحدثة وزيادة الخوف من وقوع الجريمة وظواهر العنف والتفكك المجتمعي والعائلي. وقد تناول الكثير من الكتاب والمفكرين دراسة التطورات في البلدان العربية التي باتت تتسبب في حدوث أعمال عنف وكيف يمكن معالجتها بالطرق الموضوعية.

لقد حدث تحول اجتماعي كبير خلال القرن الواحد والعشرين بسبب أن السكان أصبحوا أصغر سنا وتحضرا وأكثر تنوعا من حيث الديانات والأعراق بسبب تدفق الوافدين والزوار إلى البحرين. كما أصبح السكان أكثر ثقافة وأكثر انغماسا في الأمور والمجريات السياسية.

ففي الوقت الذي يرى الكاتب إميل دوركايم «أن الظواهر والمشكلات الاجتماعية تمثل حقائق اجتماعية وتجب معالجتها بالطرق والقواعد الموضوعية»، فإن الكاتب روبرتسون يرى أن تلك المشكلات الاجتماعية تمثل إدراك الناس للفجوة بين المثل الاجتماعية والوقائع الاجتماعية. ويمكن على سبيل المثال إيضاح ذلك في أنه إذا أعطي الناس في مجتمع ما قيمة عالية للحرية الشخصية، فإن أي تحديد لهذه الحرية - سواء إرادية أو لا إرادية - قد يعتبر اضطهادا سياسيا حتى لو تعدت تلك الحرية على حرية الآخرين، القول الصحيح الذي يُراد به باطل وتخلق الفجوة أو المشكلة. ولكن يجب ألا نغفل ما أثبتته الدراسات الميدانية من أن هناك عوامل أخرى مهمة تتضامن بشكل أو بآخر في وقوع مشكلات الشباب والمراهقين في الرحلة العمرية 15-24 سنة، مثل: المشكلات الصحية، المشكلات الاقتصادية، مشكلة التسكع في الشوارع ومصاحبة رفقاء السوء، المشكلات الجنسية، التوافق الاجتماعي، مشكلة التوجيه التربوي والمهني، ومشكلات المناهج التعليمية والدراسة.

اللورد والقاضي الانجليزي سكارمن وآخرون من الكتاب والمفكرين الذين درسوا وحللوا حوادث العنف والمظاهرات التي عصفت ببريطانيا في مطلع الثمانينات مع فارق التشبيه أجمعوا على أن الأسباب الحقيقية لوقوع تلك الحوادث هي: ارتفاع نسبة البطالة، الشعور بالحرمان، التفرقة العنصرية، الشعور بالضعف وعدم المشاركة السياسية، علاقة الشرطة بالأقليات. بينما يرى آخرون أن التهديد أو الخطر المحدق على العدالة الاجتماعية يلعب دورا مهما جدا في تحويل الاتجاهات والأفكار إلى حوادث عنف. إن للمشاركة والشراكة المجتمعية بين الجهات الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني دورا حيويا في إعطاء الفرصة لأفراد المجتمع في إعادة تنظيم وإخراج المجتمع بالشكل الذي يطمحون في الوصول إليه. إنه من الأجدى إذا بيان خطورة تلك السلوكيات وخطورتها على الأمن الاجتماعي للمجتمع البحريني بدلا من تبريرها وإيعازها إلى الدوافع الاجتماعية. فالأمن الاجتماعي يعمل على حماية «شعور الفرد الذي يعيش في مجتمع ما، في أي وقت من الأوقات، بالاطمئنان على نفسه وماله، هو وأسرته وكل من حوله من أفراد المجتمع، وعدم الخوف من التعدي عليهم بأي شكل من أشكال الاعتداء، مع استطاعته الحصول على حقوقه ممن قام بالتعدي عليها سواء كان مصدر الاعتداء من الداخل أم من الخارج». فإذا انتشرت الجرائم والاعتداءات وأعمال التخريب والحرق وظهر الشعور بالخوف من وقوع تلك الجرائم على الآمنين، تسود الفوضى والغوغاء ويختل المجتمع ويفقد قدرته على التماسك والعمل ويفقد أهم مقومات أمنه ويختل تبعا لذلك أمن وسلامة الدولة كاملا.

إن القفز إلى تبرير أعمال التخريب التي وقعت في شارع المعارض بأنها سلوكيات اجتماعية منحرفة مبنية على عدم التوازن والحرمان الذي يعيشه المراهقون يحتاج إلى وقفة، فقد بيّنت الدراسة التي قام بها مركز البحرين للدراسات والبحوث أن «المراهقين يعيشون أزمة داخلية واضحة، تترجمها جملة من الاضطرابات السلوكية، إذ ظهر لدى معظمهم الشعور بالخوف والقلق، والحصار النفسي واليأس والضياع والتمرد، ما يوضح افتقارهم إلى أرضية آمنة يرتكزون عليها بثقة وأمان، لإتمام وبناء وتعزيز شخصيتهم بكيفية أكثر توازنا». إن القارئ لهذا التحليل قد يعتقد في بادئ الأمر أن تلك العينة أو ذلك الحدث واقع في بلد غير البحرين، لأنه لا يمكن أن يصدر سلوك إجرامي كالذي حدث من أبناء وطن حبا الله أهله الطيبة والأخلاق والسمعة الحسنة على مرّ العصور، وخصوصا أن المعطيات والمسوغات كافة التي ذكرت أسبابا لوقوع تلك الحوادث ليست وليدة الساعة، فتدفق السياح عبر جسر البحرين - السعودية منذ العام 1986م ووجود شارع المعارض بمحلاته التجارية والفنادق والحركة السياسية قائم منذ سنوات ليست بالقليلة، ووجود الأجانب في بلد نامٍ ذي موارد نفطية واقتصاد مزدهر ليس أمرا جديدا، ووجود نسبة بطالة متدنية تحت السيطرة واقع يعيشه ليس بلدنا فحسب بل غالبية الدول المتقدمة والنامية القريبة منها والبعيدة. لذلك، فالسؤال الذي يطرح نفسه في ذلك السياق: لماذا لم تقع تلك الحوادث قبل ذلك الوقت؟ فالتوقيت الزماني (نهاية السنة) والمكاني (شارع المعارض) يكرر نفسه سنويا، ولكن يبدو أن توقيت انطلاق تلك الحوادث يرجع إلى أسباب ليست بالضرورة اجتماعية بحتة بل تتداخل معها عوامل أساسية مكملة.

إن المتغيرات الدولية في المنطقة: الصراع العربي الإسرائيلي، حربي الخليج الأولى والثانية، حوادث 11 سبتمبر/ أيلول التي وقعت على نيويورك وواشنطن وإعلان الحرب على الإرهاب وغزو أفغانستان ثم العراق، قد أثرت على المعنويات العامة والحال النفسية للأمة. كما أن حوادث العنف والتخريب التي مرّت على المنطقة والبحرين في النصف الثاني من تسعينات الألفية الثانية رسخت مظاهر وثقافة العنف في المجتمعات العربية عموما والمجتمع البحريني خصوصا. وزاد على ذلك تذبذب شعار القومية وضياع الهوية وصراع الحضارة والعقائد وغياب العدالة الدولية في معالجة تلك الاختلافات والتباين بينها. وساعد نمو ذلك وجود وسائل الاتصال والتكنولوجيا المتقدمة والقنوات الفضائية وسرعة انتقال المعلومات والاخبار بالصوت والصورة. فأصبحت ثقافة العنف واقعا نراه ونسمعه بل ونعيشه يوميا وأصبح حاضرا في اذهان ونفوس الكثير من الناس بسبب مظاهر الاحباط الذي تركته الصورة الضعيفة للأمة العربية والإسلامية في مواجهة تلك الحوادث مجتمعة أو منفردة. فعلى سبيل المثال، لا يمكن لاحد ان ينسى صورة الطفل محمد الدرة وهو يقتل في حضن ابيه برصاص العدو المحتل وغيرها من الحوادث والمواجع المؤلمة. وعليه فإن هذه الدراسة تؤكد أن ثقافة العنف بمفهومه المادي والمعنوي كان لها انعكاس على كم ونوع الحوادث التي وقعت في شارع المعارض. وللموضوعية والجدل الاكاديمي يمكن القول إنها تراوحت في تطورها من ابسط إلى اقصى صورها وقد صورت الكاميرا تلك المشاهد وعرض تلفزيون البحرين لبعض المخربين وهم يشعلون الحرائق بالسيارات، يكسرون المحلات التجارية، ويرمون رجال الشرطة بالحجارة كما لو ان الشرطة طرفا في تلك المواجهة غير المنطقية.

ولظاهرة العولمة دور رئيسي مؤثر في مجريات الحوادث والغزو الثقافي الاجنبي للمنطقة. فالانفتاح المفاجئ الذي حل بدول العالم النامي وتشدق الكثير من الدول بمظهر التطور والتمدن دفعها إلى زيادة سرعة انتقالها من حقبة إلى أخرى للوصول إلى السبق كما لو كان العالم في حال سباق. فالجريمة كانت اسبق مجالات العولمة ويمكن القول إنها سبقت عولمة الاقتصاد والثقافة. وان كل ما يخشى من التدافع هو بروز ظواهر اجرامية مستحدثة وتهالك المجتمعات المحلية وظهور الصراع على اكتساب المصالح المادية بشكل أكبر مما هو حاصل، وقد يصل الوضع في أسوأ صوره إلى انتشار الرشوة والفساد وتدهور نظام التعليم وتحول المدن والقرى الصغيرة الجميلة إلى شوارع ومجمعات للتسوق على النمط الغربي وانشغال الناس بماديات العصر على حساب القيم والمثل والاعتبارات الأخرى. ويؤكد الدكتور الزهراني ان للعولمة مخاطرها على الثقافة والمعلومات والافكار، بل وعلى السلوكيات الاجتماعية وانتشار الجريمة والتطرف والإرهاب.

لقد ساعد جو التسامح العام والحرية على ضخامة وجسامة حوادث التخريب التي وقعت. فعلى رغم معرفة عواقب مخالفة القانون والعقوبات المترتبة على ذلك، فقد أساء المخربون فهم وممارسة تلك المنجزات الايجابية وفق مصالح وأهواء شخصية وفكرية لا تعكس قيم ومعايير المجتمع البحريني الاصيل.

وعليه، فإن تسمية تلك الحوادث بانها «عمل إرهابي منظم» لانه صدر عن مجموعة محدودة من المراهقين، «أرهب وأرعب» الناس وتسبب في اصابات بدنية وتلفيات واضرار مادية جسيمة للأفراد والممتلكات الخاصة والعامة، وذلك لتجاوز ان يكون كل ذلك مجرد سلوك منحرف. كما أن تسمية تلك الحوادث بأنها نتيجة البطالة أو الفراغ أو الفشل الدراسي أو غيره من الاسباب لا يكفي لأن يكون دوافع حقيقية لارتكاب تلك الحوادث التي وصلت لحد الاعتداء الجسدي على المارة ورجال الأمن، فكل تلك الاسباب محسوبة على مرتكبي الحوادث وليس لهم.

لذلك، فتلك الحوادث على اختلاف تسميتها من قبل المهاجمين أو المدافعين أو ممن التزموا الصمت تبقى سلوكيات يعرِّفها علماء الاجتماع والقانون بالجريمة. وتعتبر تلك الجريمة دخيلة علي المجتمع البحريني يجب ألا نختلف على تبريرها وعلى تضافر الجهود من أجل مكافحتها والقضاء عليها بالسبل والوسائل كافة الممكنة والمتاحة بكل اخلاص وتفانٍ.

الخاتمة

نستخلص مما سبق ان علينا ان ندرك عددا من الحقائق العامة في التحليل قبل ان نشرع في رسم الحلول لأية ظاهرة. ذلك ان من الصعب ان نفترض ان مجرد الادانة الاخلاقية أو القانونية لحوادث التخريب، يمكن ان تمحو كل اثر نفسي قد تسرب إلى العقل الباطني للموطن والمقيم والزائر في البحرين من رؤيته لأعمال التخريب والعنف التي وقعت. كما ان من الصعب أيضا محو توقعهم بوقوع تلك الأعمال مستقبلا الأمر الذي يثير حال عدم الأمن والاستقرار النفسي من جهة وما يمكن ان يثيره من رغبات كامنة أو استعداد دفين للانتقام أو التقليد وارتكاب مثل هذه الأعمال مستقبلا من جانب آخر. كما أن الكثير من دول العالم التي تعيش تحولات سياسية ولم تصل إلى مرحلة الاستقرار السياسي تعاني اجهزتها الأمنية افرازات تلك التحولات وتعمل جاهدة على التكيف واحتواء تداعياتها. فمخاطر العولمة من جانب تنامي الجريمة المستحدثة حقيقة لا يمكن تجاهلها، فمسألة الحفاظ على الهوية والثقافة المحلية، القيم والمعايير الوطنية غرائز ثابتة تعمل على الدفاع عن نفسها بنفسها ويمكن ان تفرز في حال الخطر عليها سلوكيات غير حميدة. وعلى رغم كل ذلك، فحوادث التخريب والحرق التي وقعت لا تبرر اسباب وقوعها في بلد ديمقراطي كالبحرين له مساهمة مهمة في التاريخ والثقافة العربية.

وتلعب وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة والمقروءة دورا مهما في تنمية الوعي بمخاطر الجريمة على التطور والنماء. فيجب تأهيل وسائل الاعلام على حسن التعامل مع تلك الحوادث بما لا يمجدها ويضخمها في الوقت الذي لا ينتقصها ويتجاهل تغطيتها والبحث والنشر والتعاطي معها.

وللتعليم والمناهج التربوية دور مهم في تصحيح المفاهيم وخطر الاختراق الثقافي التي تحدثه العولمة والقنوات الفضائية. فمنع التسرب من المدارس ورفع كفاءة التحصيل العلمي يجب ان يلتقيان في نقطة تتغلب فيها وسائل وآليات التعليم على الفشل الدراسي والتسرب من المدارس. فالأمية والفراغ من أهم أسباب وقوع الجريمة في أي مجتمع.

وللتخطيط العمراني لمنطقة الحورة دور آخر في وقوع الحوادث. فلقد كان للتدخل في تخطيط المنطقة التأثير في ظهور تصميم الشارع على مواصفات ومعايير غير متزنة. فعدد الفنادق والمحلات التجارية والمطاعم ومؤسسات الخدمات والسفارات والعمارات السكنية بأنواعها وتكدس الوافدين وتأخر غلق المحلات التجارية حتى منتصف الليل له دور مهم في جذب المنحرفين والتسكع فيه. علاوة على الكم الهائل من التدفق المروري للمركبات على مدار الساعة. إن إعادة تخطيط الشارع ورسم مداخله ومخارجه وتزويده بوسائل تقنية أمنية أصبح حاجة ملحة لتساهم في التخفيف والتنظيم الزمني والمروري من دون الحاجة للعنصر البشري.

ولا يقل دور مؤسسات المجتمع المدني عن الوسائل الأخرى في توجيه ومساندة المجتمع إلى تطوره ونمائه. فلمجلس النواب ورجال الدين وخطباء المساجد والمآتم والمفكرين وكبار القوم تأثير كبير ومباشر في تماسك ووحدة المجتمع. فكلما كان الهدف الاسمى مصلحة الوطن وحماية المكتسبات كلما كانت عمليات البناء والانتاج تسير بشكل أفضل واسرع. فهم القريبون من المواطن في مسكنه وعقله وما يكنه الجميع من احترام وتقدير لعطائهم. فلغة الحوار والخطاب يجب ان تتسم بالسلامة والمنفعة العامة وان يتم نقل هموم ومشكلات الشارع إلى أولي الأمر منا بالطرق الرسمية والوسائل الديمقراطية للعمل على ايجاد الحلول الناجعة لها. فمصلحة البحرين وأمنها أولا، فلن يغفر التاريخ أبدا لمن يخطئ بحق وطنه وأهله فالعقلانية والتبصر حكمة والاندفاع والتهور خسارة كبيرة

العدد 480 - الإثنين 29 ديسمبر 2003م الموافق 05 ذي القعدة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً