العدد 2673 - الأربعاء 30 ديسمبر 2009م الموافق 13 محرم 1431هـ

بين سرد التاريخ... الانتظار... واليباب

المعرض الفلسطيني التركيبي «الإبداع في كل حالاته»

في معرض «الإبداع في كل حالاته» يقف الإنسان الفلسطيني فنانا مبدعا عبر مجموعة من الأعمال التركيبية ليقول كلمته كما يشاء هو لا كما يشاء الآخرون، فيرصد لحظات الانتظار والرتابة، ويسخر من لحظات التفتيش على طريقته، ويرصد لحظات الخوف والهلع التي تحول الأشياء إلى يباب وتصحُّر، وليعكس قدرته على الإبداع في أحلك اللحظات بل يحوِّل الموت إلى حياة، ويوثق المأساة على طريقته الخاصة.

«الإبداع في كل حالاته» معرض فلسطيني تستضيفه وزارة الثقافة والإعلام في إحدى صالات متحف البحرين الوطني، والذي افتتحته الوزيرة الشيخة مي بنت إبراهيم آل خليفة بالتعاون مع معهد العالم العربي بباريس، وشاركت فيه مجموعة من الفنانين الفلسطينيين ضمن احتفالات البحرين بالعيد الوطني المجيد، واختيار القدس عاصمة الثقاثة العربية 2009 مقدمين عبر لوحاتهم شهادات على ماضٍ أريد له أن يكون كذلك وليس لهم ذنب فيه، ولحظة يقارفون ارتكابها وهم مشتركون في صنعها، ومستقبل، يأملون تغييره.


نويل جبور... لحظات شموخ وتأمل

تقتنص الفنانة نويل جبور لحظات فوتوغرافية للإنسان الفلسطيني مرة واقفا كالشجرة متصلبا فوق تلته وكأنه يقول أنا هنا بامتداد السنين، أنا هنا كما الشجرة الراسخة في هذه الأرض بجذورها، رغم الرحيل المستمر؛ ولذلك ليس غريبا أن نشاهد إلى جانب ذلك الرجل الكبير صورة شجرة شامخة بقامتها في السماء، باسطة فروعها للريح يمينا وشمالا، وثمة صورة أخرى لامرأة فلسطينية لاذت لتلَّتها تستريح قليلا ريثما تعود لحقلها وثمة نظرة تأمُّل تقول الكثير مما لا يقال إلا بالعيون، وثمة بقايا من بيوت وقد جرفها الإسرائيلي ولم تبقَ منها إلا مجموعة من الأحجار وضعها الأهل ليستدلوا بها على المكان، وما رصد هذه الحالات بالكاميرا إلا اقتناصات من يوميات الفلسطيني وتسجيها، فربما لا نلتفت إلا وقد ذهب كل شيء ولم يبقَ إلا الأثر، هكذا يكون لكل شيء قيمة ولكل لحظة قيمة ولكل نظرة قيمة فنية.


جمانة عبود... ربما لا يعود

عبْر مجموعة من الأعمال الفوتوغرافية ترصد الفنانة جمانة عبود صور المحلات والبضائع في السوق الفسطينية وقد تركها أصحابها بكل بساطة وتلقائية غير عابئين بما تحمله الأقدار لهم من رصاص ونار متوجهين إلى الصلاة في القدس، هكذا يعيش الفلسطيني حياته اليومية متوكلا على الله على رغم النار والرصاص يتوكل على ربه ويكتب على دكانه «مقفل للصلاة» أو يكتفي بتغطيته بالقماش المهترء من السنين ويمضي، وهو لا يدري أيعود أم لا، أيفتح دكانه مرة أخرى أم يبقى مقفلا للصلاة دائما كما تركه آخر مرة قبل الرحيل.


تيسير بطنيجي... الأبراج عيون خائفة

عبر مجموعة من الصور الفوتوغرافية بالأبيض والأسود يرصد الفنان تيسير بطنيجي عدة أبراج عسكرية غرزها الإسرائيلي في الأرض الفلسطينية، ورفعها ليقف فوقها وليحد النظر ويطلق عين الرصد كمن يبحث عن فريسته هنا وهناك، وما إن يلقى ما يريد حتى يحضر الرصاص كثيفا ويحضر الدم غزيرا والهلع كثيرا، ربما هذه هي القصة باختصار، ولعل أبرز ما وراء هذه الأبراج هو الضيق بهذا الإنسان البسيط النشط حد الاستشهاد، وربما يكون أهم ما وراء هذا الرصد الذي أخذ يعدده بطنيجي لهذه الأبراج هو توثيق الخوف وشدة الهلع للمحتل حين يضع عينه في كل مكان ولا تسعه الأرض ولا حتى السماء من شدة الهلع فتتشكل عيونه أبراجا فوق الأرض.


فوزي عمراني... جلد وسنين

تتفتق مخيلة الفنان فوزي عمراني في عمله «جلد وسنين» إلى أن يستفز الذاكرة البسيطة والتلقائية بالذهاب مرة في استحضار الماضي، ومرة في الولوج للمستقبل، وصناعة لحظة وعي حاضرة الآن؛ لتقول: ثمة جلد وسنين تعبر عليه الآلة الإسرائيلية، في سيرة تعديدية، برتابة متكررة حد انقطاع النفس، والضحك، بل حد البكاء في ساعات الوله للذكرى المؤلمة، هكذا يأخذ عمراني متلقيه ليدخلهم في مقصورته؛ فيدوسون على صورة لجلد إنسان ما، وسط أصوات متتابعة تعدد السنين والحساب، منذ الماضي، إلى الحاضر، إلى المستقبل، الكبار يعددون سنينهم، الأطفال يعددون سنينهم، وبكل بساطة يعكس التعداد دورة الحياة البائسة التي عاشها بالأمس ويعيشها اليوم ذلك الإنسان الفلسطيني البسيط، وكأنه يتساءل هل سيعيشها غدا أيضا في شيء من صناعة البصيرة والإنكار، هكذا يبرز العمل بأنه لابد من أمل، لابد من أمل، وإن طالت الأرقام، وتعددت السنوات من صوت إلى آخر لا يكل ولا يتعب.


محمد الحواجري... عبث طفولي ورصاص

يقف محمد الحوجري ليرصد بكاميرته مجموعة من الأطفال الفلسطينيين وهم يعبثون بالنار في ليل دامس إلا من أصواتهم وعبثهم، حيث يشعلون الأغصان بالنار ويلوِّحون بها لبعضهم البعض يمينا وشمالا في عبث طفولي بريء جدا، بكل جرأة يقطعون صمت هذا الليل، يتحدون العتمة يصنعون ألعابهم النارية الخاصة بهم، لا يخافون النار، تاركين للبراءة أن تنطلق وسط الظلام الذي يشكلونه لوحة فنية جميلة، وتعلو الضحكات إثر بعضها، في مشهد طفولي بريء جدا، ولا يقطع هذه البراءة إلا صوت الرصاص ليعود الليل موحشا دامسا خاليا من ضحكات الصبية، وقد تفرقوا في الظلام من شدة الهلع. مقطع فيلمي هو لوحة إدانة لقمع براءة الطفولة ولهوها، عبر الرصاص المتطاير هنا وهناك في كل مكان.

وفي عمل آخر يقتنص الحواجري بياض العظام ليكتب عليها حروفه، ترى هل يزينها بالحروف العربية، أقول: ربما لا، فالأمر عند الإنسان الفلسطيني ليس كذلك فثمة إشارة إلى أنه لم يبق إلا العظام، العظام كما هي سيرة الفتى العربي الذي قال: ذهب العظم واللحم ولم تبق إلا العظام ليحكي عن سيرة الجوع، وربما يكون العمل ها هنا يقول إنه لم تبق إلا العظام وثمة كتابة عليه لتبين أن عمقا عربيا يمكن رصده عبر هذه الحروف.


ستيف سابيلا... ترقب وانتظار

في مجموعة من الصور التركيبية يرصد الفنان ستيف سابيلا حالة الفلسطيني واقفا أمام النافذة كمن يترقب شيئا ما، ولعل رصد حالة الترقب بهذه التعددية المتكاثرة عبر تقنية تركيب الصورة فوق الصورة، كوَّن لوحة فريدة، تحكي حالة الفلسطيني منتظرا ذلك الذي «يعود ولا يعود»، وكم تمر من لحظات على الفلسطيني ساعة الرصاص وهو يترقب أمام النافذة، الأم تنتظر عودة ولدها وربما لا يعود، الولد يترقب أمه، وربما لا تعود، والأب، الزوجة، الزوج، الأخ، الأخت، كلهم كذلك يمضون الوقت أمام النوافذ، وتمضي اللحظات في إثرها الساعات وربما الأيام وربما الشهور وطلة النافذة مازالت هي هي، ولعل الفنان بتعداد هذه الصورة بهذه الشدة المغرقة في الرتابة هوَّم في تخوم تلك اللحظات ذات الرتابة والقلق الشديدين.


سهى شومان... فيلم «بيارتنا» حكاية خضراء

توثق سهى شوما في فيلم «بيارتنا» تلك التعاقبات وما وراءها من دمار ببساطة، وفي حيادية شديدة ومن غير جلبة ولا إثارة فكل ما في الأمر أن «جدي كان يزرع هذه البيارة بالبرتقال والزيتون» وكذلك أبي وكذلك عمتي... و... وتأتي الصورة مع هذا الكلام خضراء يانعة جميلة، بينما تقطع الجملة جملة أخرى، فظيعة وتقطع الصورة صورة أخرى هي صورة الاحتلال وقد جرف الأرض فجعلها يبابا قاحلة في إدانة فاقعة لهذا الذي يأتي على الأرض ويحرق خضرتها ويحولها قفراء قاحلة. هذه هي الحكاية بكل بساطة، فثمة حكاية خضراء وثمة جريمة نكراء وثمة إدانة وليقل التاريخ بعدها ما يشاء.


شريف واكد... نقطة الأناقة أزياء لنقاط التفتيش

مع شريف واكد الأمر يختلف فقد نظر إلى ساعات الإذلال والتفتيش على المعابر الفلسطينية والحدود المصطنعة بالخصوص تفتيش منطقة البطن خوفا من الأحزمة الناسفة وغيرها فتوقف فنيا مع هذه اللحظة بكل سخرية وبكل جدية أيضا فتفتقت مخيلته بصناعة أزياء خاصة للعبور وقدمها كتحية جريئة لتلك اللحظات بكل احترام وتقدير شديدين، إذ صمم مجموعة من الملابس الفاخرة المحترمة المفتوحة البطن حتى ترضي الغرور الإسرائيلي وربما تهزأ به أيضا وفي المقابل تحافظ على كرامة الإنسان الفلسطيني.

وتصمم الفنانة رنا بشارة كوفية للأسرى ولكن هذه المرة عبر أدوات السجن والاعتقال من ذلك البلاستيك الذي تقيد به الأيدي بما يبدو أنه كوفية ويبدو أنه كذلك أشبه بالشباك التي توضع في الحواجز بين الحدود المصطنعة، لتنبئ عن حب الفلسطيني للحياة وقدرته على الإبداع وتحويل المأساة إلى عمل فني ورموز الموت إلى حياة.

ويقف هاني زغرب ليرصد في لوحته لحظة يبدو فيها الطفل الفلسطيني غير عابئ على رغم الخوف والهلع بينما الدنيا «تتهاول» هناك وهناك والأهوال تترصده في مسحات من فرشاة سريعة الوقع على اللوحة، وفي مشهد آخر ثمة أب يقفز بطفله من حاجز إلى آخر والدنيا لا تتسع سوى لعاطفته وهو يحمل طفله على ظهره هربا إلى حيث أمان في مكان آخر.

بينما تلف رنا سعاة نفسها بالصحف لتقول كلمتها في إدانة للجميع؛ هل ثمة حقيقة وراء كل هذا الكلام، ومرة أخرى تعطي دمها لدميتها كمن يحاول أن يحيي من براءته حتى الدمية الصماء لتشاركه المأساة أو هي كذلك.

بينما ساندي هلال ترصد امرأة فلسطينية تنطلق مع صاحباتها تزورهم من سطح إلى آخر بعد أن منعت من التجوال على الأرض لتقول: هكذا يفتح الفضاء رحابه في المخيم بعد أن أغلقت الأرض ومنع التجوال فيها.

أما رنا بشارة فتكرم الطفولة في تغريدة فلسطينية وتهويمة جميلة بصوت أمومي حنون وبدفء وعطف منقطعين حيث وضعت مجموعة من الصور البريئة في بالونات بيضاء لأطفال ربما استشهدوا في يوم ما ولم يغنِّ لهم أحد، فلم تجد رنا لهم من صوت يغني لهم إلا عبر هذا الصوت الأمومي الدافئ الذي يناغيهم، وينتقل بهم وبك إلى تلك اللحظات العذبة.

أما كمال بلاطة فشرع ألوانه للواحات تتسع فها المساحات وتمتد الخطوط لتتقاطع في ألوان فاتحة شفافة أخاذة مازالت تعكس البساطة، فيما ترصد رولا حلواني لحظاتها في القدس حيث تقيم وتعمل، أما سامية شلبي فجسدت شجرة البلوط عبر عمل أسدلت عليه الأقمشة الملونة القاسية عبر تشبيعها باللون كم شاءت.

العدد 2673 - الأربعاء 30 ديسمبر 2009م الموافق 13 محرم 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً