العدد 2685 - الإثنين 11 يناير 2010م الموافق 25 محرم 1431هـ

سرّيّة الكراهيات مرة أخرى

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

لقد أمّنت العزلة الأجواء المناسبة لانتعاش الكراهيات في التاريخ، وفي المقابل، فإن هذه العزلة قد حدّت من استفزازية الكراهيات غير المحتملة. إلا أن العزلة المقصودة هنا ليست بالضرورة عزلة مكانية، بل هي، بالدرجة الأولى عزلة خطابية أو تواصلية. وعادة ما يترتب على هذه العزلة عزلة متخيّلة، بحيث يشعر المرء بالمسافة البعيدة التي تفصل بينه وبين جاره لا لشيء سوى أن هذا الجار ينتمي لجماعة الآخرين المختلفين. وتسمح هذه المسافة المتخيلة باختراع غرائب الأوصاف والطباع وإلصاقها بهذا الجار القريب مكانا، البعيد بعدا شاسعا على مستوى التخيّل والتواصل.

وسأوضح هذه الفكرة بالاستعانة بتمييز اقترحه أحد علماء اللغة حين ميّز بين نوعين من أشكال التواصل اللغوي عند البشر، أطلق على الأول مصطلح «لغة الحَصْر»، وعلى الثاني «لغة النَّشْر» أو الانتشار. وبحسب هذا العالم اللغوي فإن جميع أشكال التواصل اللغوي عند البشر تتوزع بين قطبين أساسيين: «قطب اللغة الناشرة من جهة، وهو القطب الذي يحدّد الأشكال اللغوية التي نختارها حين نريد نشر التواصل مع أكبر عدد ممكن من الناس، وقطب اللغة الحاصرة من جهة ثانية، وهو القطب الذي يحدّد، على العكس من القطب الأول، الأشكال التي نتخذها حين نريد قصر التواصل على أقل عدد ممكن من الناس، وتحديد خصوصيتنا، ورسم حدود الجماعة» (حرب اللغات والسياسات اللغوية، ص123).

يستخدم لويس جان كالفي هذا التقسيم للتمييز بين اللغات واستخدامها في سياقات التعدد اللغوي، إلا أننا هنا نستخدم هذا التقسيم لا للتمييز بين اللغات المستخدمة في سياق التعدد اللغوي، بل للتمييز بين نوعين من أنواع التواصل داخل اللغة الواحدة. فالأول تواصل خصوصي مغلق يدور داخل الجماعة الواحدة، والثاني تواصل عمومي مفتوح ينتج بغاية التواصل مع «أكبر عدد ممكن من الناس» من داخل الجماعة وخارجها ممن يستخدمون هذه اللغة. يحمل التواصل الأول في داخله «إرادة الحد من انتشاره»، فيما تقوم بنية النوع الثاني على تجاوز العوائق التي تقف في وجه انتشاره بين أكبر عدد ممكن من مستخدمي هذه اللغة وحتى من مستخدمي اللغات الأخرى في حال الترجمة.

تمتاز خطابات الكراهية القديمة بأنها من النوع الأول، فهي خطابات تدور ضمن دائرة تواصل خصوصية ومغلقة هي دائرة الجماعة الواحدة. ويمكنكم اكتشاف هذه الخصوصية بالرجوع لأي كتاب من مؤلفات الكراهية القديمة لتكتشفوا أن المؤلِّف إنما يخاطب أبناء جماعته فقط، فهؤلاء، دون غيرهم، هم المقصودون بالخطاب. مما يعني أنه خطاب يقع في دائرة تواصلية خصوصية ومغلقة، ويتوجه به صاحبه إلى جماعته الخاصة، فهذه الجماعة هي المعنية بالتواصل، وهي المستهدفة بالتسلية والطمأنة وتعزيز القناعات والكراهيات، أما الآخرون المختلفون المستهدفون بالكراهية فليس ثمة اكتراث بمخاطبتهم، فهم قد يكونون موضوع الخطاب، لكنهم ليسوا المعنيين المباشرين والمقصودين به؛ ولهذا فإنهم عادة ما يُذكرون بضمير الغائب «هم».

هذه، إذن، خطابات حصرية وخصوصية ومغلقة ويُفضّل ألا يطّلع عليها غير الاتباع وأبناء الجماعة المؤتمنين على «السرّ»، هكذا كما لو كنا أمام تداول سري للكراهيات. لم تكن هذه الخطابات سرية لكونها محصورة بين اثنين كما في الأسرار عادة، بل إنها تكتسب سريتها من كونها خطابات محصورة في سياق تواصلي خصوصي ومغلق على أبناء الجماعة الواحدة فقط. لكل جماعة أسرارها، إلا أن السر الذي يراد التكتم عليه هنا إنما ينهض على كراهية الآخر وتحقيره وإهانته. ولم يكن هذا التداول السرّي لخطاب الكراهية والتحقير بلا قيمة، فقد أمّن لهذه الكراهية الدوام والاستمرارية، كما شجّع على تعميقها، وخاصة بالنسبة للجماعات الضعيفة التي لم تكن لتجرؤ على المجاهرة بكراهياتها أمام الآخرين.

إلا للسرية ميزة خطرة وهي أنها تسمح لنا بأن نبوح بأشياء لا نجرؤ (أو لا نودّ) على المجاهرة بها علنا. ولهذا تنتعش الكراهية في الأجواء السرية؛ لأن هذه الأخيرة تسمح للكثيرين منا، بما في ذلك الضعفاء الجبناء والعاجزون، بالبوح بكراهيتهم المقيتة التي لا يجرؤون على المجاهرة بها علنا وأمام الآخرين. ولو كان هؤلاء يتحدثون علنا وأمام الآخرين لجاءت خطاباتهم مختلفة، ولربما وجدنا فيها شيئا من مراعاة مشاعر الآخرين حتى لو كانت هذه المراعاة متصنّعة وتعبّر عن نوع من المجاملة الكاذبة واللباقة المتكلّفة. قد نفترض، ابتداء، أن تضييق الخناق على المجاهرة العلنية بالكراهية سوف ينعكس في صورة انتعاش للمجاملات الكاذبة، بحيث ترى الكارهين يفيضون كراهية في دواخلهم، إلا أنهم مضطرون لكتمها في دواخلهم ومجاملة الآخرين في العلن. وهذا، بالتأكيد، لن يبني الثقة ولن يهدد عرش الكراهية، ولكنه سيعزّز أخلاقيات المجاملة والمسايرة وحتى النفاق في حياة الناس. ليست هذه نتيجة إيجابية خالصة، إلا أن كثيرين سوف يفرحون بها، لأنها سوف تجبر أصحاب الكراهية على تخفيف حدة كراهيتهم أو حتى تجنّبها في العلن، وبدل أن يحرق هؤلاء قلوب مستمعيهم بكراهيتهم المقيتة والمستفزة فلنَدَعهم يحترقون هم، هذه المرة، بهذه الكراهية في دواخلهم وفي سريتهم.

أقول هذا لأن الكتابة السرية في الخفاء تختلف بصورة جذرية عن الكتابة في العلن وضمن سياق تواصلي عمومي. في الكتابة الأخيرة عادة ما نكون حذرين جدا، وننتقي كلماتنا وعباراتنا بدقة، وقد نعمد إلى وضع كلمة أو عبارة محل أخرى بناء على استبطاننا لوَقْع هذه الكلمة أو تلك العبارة على قراء مفترضين كثر. الأمر مختلف في الكتابة السرّية، فهنا قد نتسمّح في القول ونتساهل في بعض الكلمات ونتجوّز في بعض العبارات، وعادة ما نكون غير معنيين ولا مبالين ولا تهمنا مراعاة شعور أحد سوى المخاطب الفعلي المقصود بالكتابة السرّية، وهو، عادة، مخاطب في مقام النفس ولهذا نبوح له بكراهيتنا السرية تماما كما نبوح له بحبنا السري العميق. ولهذا السبب فإنه من الطبيعي أن ينتعش خطاب الكراهية في سياقات التواصل السّرّية والمغلقة، وداخل الجماعات ذوات اللغات محدودة الانتشار والمغلقة على أبنائها، لا لأن قلوب هؤلاء تفيض كراهية وحقدا أكثر مما في قلوب الآخرين، بل لأن التواصل السرّي يسمح بانتعاش المشاعر والأفكار الكريهة والبغيضة التي نخشى أو نتحرّج من المجاهرة بها علنا أو أمام الآخرين المختلفين. وما لاحظه كثير من الباحثين من حقيقة أن خطابات الكراهية وسياسات الكراهية إنما تنتعش داخل الجماعات الدينية الأصولية والقومية الشوفينية إنما مردّه إلى أن التواصل داخل هذا النوع من الجماعات تواصل مغلق ومقصور على أبناء الجماعات أنفسهم. فهو، بشكل ما، تواصل سري، والخطابات التي يجري إنتاجها وتداولها خطابات سرية إلى حدّ بعيد.

وللحديث صلة في الأسبوع المقبل.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2685 - الإثنين 11 يناير 2010م الموافق 25 محرم 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 10 | 1:53 ص

      no life with anger

      تستحيل الحياة مع الشعور بالكراهية ..فالشعور بالكرة شيء مقيت ..وهو في أحيانكثيرة ما يتغلب علينا ويحاصرنا ويحيل حياتنا جحيما .. فالكراهية تولد الغضب .. والحياة كي نعيشها تحتاج للهدوء والسلام الداخلي مع النفس والآخر والمجتمع ..وعندما يستحيل تحقيق هذا السلام تستحيل بدورها الحياة ..وانا كإنسانة عرفت هذا الشعور وتعاني منه الآن وتستغيث .. ترجو دعواتكم ( بنت البحرين)

    • زائر 9 | 6:43 م

      صبرٌ جميل

      كفاكم من الأحكام المسبقة...تابعوا سلسلة المقالات وحين تصل لنهايتها فقط سندرك جميعا خلاصة القول الذي يريد الكاتب مشاركتنا وإياه..تذكروا ان هذه المقالات مشروع كتاب ولايمكننا بأي حال من الأحوال أن نحكم على كتاب ما وكاتبه بقراءة صفحة واحدة منه أو صفحتين!!
      البحرانية فاطمة..انتي من عرفتي الأنترنت وانتي بس تبغين تتهاوشين؟ خاطري مرة وحدة اشوف لك تعليق يفتح النفس في المنتديات والبلوغات اللي تشاركين فيها..صبرٌ جميل أختي ترى الحياة جميلة

    • النعيمي2 | 6:21 م

      ؟

      عزيزي الكاتب شسالفة؟؟

    • زائر 8 | 2:11 م

      الكتاب يبين من عنوانه

      اعتقد انه جماعتي كما الجماعات الأخرى لها أمراض , أمر لاشك فيه , بس هذا لا يعني أنه امراض جماعتي تتشابه وتتطابق مع أمراض الجماعات الأخرى في الكيف والكم , خصوصاً سالفة الكراهية , فشيعة البحرين تمحوروا حول حب اهل البيت , النواة هي حب اهل البيت وان كان هنالك قشور من كراهية الاخر كما حال كل الجماعات , اما جماعة الوهابية فساسها كراهية وإلغاء الاخر , كيف يساوي نادر كاظم بين النقيضين ؟ ارفض ذلك ببساطة , والكتاب يبين من عنوانه .. البحرانية

    • زائر 7 | 2:03 م

      كيف تتساوى 99 % كراهية مع 1 % كراهية ؟؟

      أول مرة اسمع انه الشيخ يوسف البحرين مؤلف موسوعي له اكثر من مائة مجلد كان من دكتور سني ومتشدد , وقال هذه المعلومة بإعجاب , فهذا الدكتور المتشدد انتبه 99 % من يوسف البحراني الذي لم ينتبه له نادر وركز على 1 % من يوسف البحراني ليقارنه بـ99 % من محمد عبد الوهاب, ويضعهم في كفة واحدة , فكيف تتساوى 99 % كراهية مع 1 % كراهية ؟؟ وكيف تؤدي لنفس النتيجة ؟ وكيف تم تجاهل كل العوامل الأخرى ؟؟

    • زائر 6 | 10:37 ص

      أول مرة أشوف كاتب بحراني

      ما يستخدم التقية و اللف و الدوران. الحمد لله الدنيا لسه بخير. مثلا في قناة المستقلة يقول الشيعة شيئا و لكنهم يقولون عكسه في حسينياتهم! و قس على ذلك. التقية ديني و دين آبائي! تعلموا يا كتاب الوسط من هذا الكاتب المحترم و الرجاء النشر.

    • زائر 5 | 10:34 ص

      المجتمعات الباطنية

      معروف عنها السرية و التقيه، هذي ما يبي لها تحليل و لا دراسة.

    • زائر 4 | 2:07 ص

      الناس تحب بعض؟ مستحيل

      أخي نادر الناس في النهاية لا يهمها إلا مصالحها فإذا تلاقت المصالح تذهب النعرات التي تتكلم عنها و إذا إختلفت المصالح تطفح إلى السطح. الخلاف في الأساس سياسي و ليس ديني و لكن تم إلباسه اللباس الديني في وقت لاحق لأسباب سياسية.

    • زائر 3 | 1:08 ص

      إلى هذا الحد السرية خطيرة

      اتفق مع الكاتب في خطورة السرية ويمكن ان نتطبق الكلام على انفسنا في السر ننحدث عن اشياء خطيرة ولكن امام الناس نغير الكلام. والزائر رقم 2 لماذا انت مقهورة خايفة على جماعتك، اصبري وخلينا نفهم ليش بصلتك محروقة

    • زائر 2 | 11:46 م

      الشيعة كراهيتهم سرية

      إلى وين تبغي توصل ؟؟ إلى انه الشيعة كراهيتهم سرية؟ لأنهم جماعة ضعيفة .. ويا ترى ويش مفهومك للضعف؟ أكيد الضعف العددي.. يا أخي انت تتجاوز سهول ووديان من الحقائق , وتدخل في زرانيق ومتاهات وانفاق عشان تصل إلى ......... انت اقدر على ملىء الفراغ.. البحرانية فاطمة

    • زائر 1 | 10:48 م

      الى متى

      الكراهية والتميز تأخذ بعداً اعمق واخطر واكثر تعقيداً اذا اخذنا في الاعتبار المواطنون الجدد ( المجنسون) الذين جاءوا بخلفياتهم وترسباتهم وامراضهم وعقدهم لذلك لا يمكن النظر للموضوع بمعزل غن المواطنون الجدد الذين لا ينتمون للعرب وان كانوا عرباً فهم لا ينتمون لهذه المنطقة لا جغرافياً ولا تاريخياً

اقرأ ايضاً