العدد 485 - السبت 03 يناير 2004م الموافق 10 ذي القعدة 1424هـ

العالم كله في بم

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

وكأن العالم كان يضج بالتناقضات، وهو كذلك، وكأن العالم كان يعيش مخاضا، وهو كذلك، وكأن العالم كان يعيش اختلالا، وهو كذلك، فأرادت الأرض أن تعيد الأمور إلى نصابها، فوجدت انفراجها واستقرارها وإعادة توازنها في زلزال مدمر كان من نصيب أهل «بم» هذه المرة ليكونوا من يدفع الثمن الباهظ والباهظ جدا نيابة عن العالم المضطرب والمتخبط في اختلالاته.

لكن «بم» لم تكن وحدها أو بتعبير أدق لم تترك لوحدها. العالم كله كان في بم، العجم والعرب كلهم كانوا في بم، بل حتى المخاصمين لهم فضلا عن المناكفين والمشاكسين والمترددين.

في طهران العاصمة أيقظ زلزال بم كل ما كان كامنا أو نائما من مقومات المجتمع الأهلي ومنافسه الجديد المجتمع المدني، أحيى التضامن الشعبي، نقل جميع الطبقات الاجتماعية من عالم العزلة والوحدة والاسترخاء إلى عالم الحركة والنشاط. دفع بالسياسيين كافة وجميع النخب إلى الوراء، جعل الحكومة تلهث وراء الشعب، أعاد للجيش هيبته، أعاد للتعبئة وحرس الثورة وهما «عينا» الثورة سمعتهما بعد أن كادت تضيع في زحمة الصراعات السياسية والانتخابية.

وهكذا الأمر على المستوى «القومي» العام، فكانت إيران قد تحولت بين ليلة وضحاها، وكأنها تقف كالطود شامخة تبحث عن مجدها الغابر في تراث بم وقلعتها التاريخية الأثرية، وأيضا في أزقة وحارات مدينة بم «المستقرة مواتا» بعد الزلزال.

المسلمون من محيطهم إلى محيطهم، والعرب من مضيقهم إلى مضيقهم، وقفوا هم أيضا بدورهم وقفة رجل واحد، وكأن الأرض التي زلزلت القلاع الأثرية والتاريخية في إيران أيقظت فيهم كل حضارتهم وكل سجاياهم الحميدة وكل الكرم العربي وبلا حدود.

العالم «الآخر» من «ملحديه» وقد كانوا الأوائل الذين هبوا من الشرق العظيم إلى «شيطانه» الأكبر مرورا بكل «شياطينه» الصغار القدامى منهم والجدد كان في بم أيضا يقدم المساعدات ويسعف الجرحى وينتشل الشهداء على أمل الوصول إلى توازن ما في علاقاته الإنسانية.

لم يعرف أهل بم يوما في حياتهم كهذه الأيام التي يعيشونها. منذ أكثر من ألفين وخمسمئة عام وهم يعيشون حياة عادية وطبيعية لم يسمع عنها العالم كثيرا. لكنهم اليوم في قلب خريطة العالم التاريخية والجغرافية، بل والسياسية أيضا. لقد زلزلت الأرض كل المقاييس، وقربت كل المسافات، واطاحت ببعض المحرمات التي ما كان أحد يحلم أن بإمكانه الإطاحة بها برمشة عين.

صارت بم أشبه بيوم المحشر، يوم القيامة، يوم لا يُعرف أحد من أحد إلا من أتى بما يسعف أو ينجي أو يأوي أو يعيد ما تهدم. كلهم سواسية أمام المشهد المأسوي الحزين والضارب عميقا في الألم والمعاناة.

وصدمتهم الكارثة الإنسانية فصاروا يتكلمون لغة واحدة. السياسيون والعلماء والمثقفون والصحافيون والأطباء والمسعفون والفنانون والرياضيون والعسكر والمدينون رجالا ونساء صاروا يرددون ترنيمة واحدة ويعزفون على وتر واحد وينشدون أغنية واحدة مطلعها: «رحماك يا رب»... وختامها «نبنيك يا بم».

لقد تدفقت المساعدات العينية والنقدية من كل حدب وصوب، وخصصت الموازنات، وقرر العالم بالأرقام وبكل حزم أن يعيد بناء بم بأسرع ما يمكن.

يقول المثل العربي الشائع: «رب ضارة نافعة» ويقول ماوتسي تونغ: «تعلم كيف تحوّل السلبي إلى إيجابي» ويقول الإمام علي (ع): «الفرص تمر مر السحاب فاغتنمها».

إنها فرصة العمر التاريخية التي نرجو ألا تتكرر في شقها الأول المأسوي، والتي نخشى أن تتكرر في شقها الثاني المشرق.

لكن القدر المتيقن منها هو أن تعي الحكومة الإيرانية مثل هذه الفرصة، وتقدرها حق تقديرها فترتفع إلى مستوى شعبها وأهلها أولا، وتواكب التحولات المحيطة بها من كل جانب ثانيا، وتأخذ العبر والدروس اللازمة مما جرى ثالثا.

إن أفضل الدروس وأهمها على الإطلاق هي في المثل الشعبي الشهير: «الوقاية خير من العلاج»، أو: «درهم وقاية خير من قنطار علاج».

أن نتعلم جميعا كيف نمنع وقوع الحادثة أولا، فإن لم نقدر أن نكون مستعدين لمواجهتها في حال وقوعها غصبا عنا ثانيا وأن نشد العزم ونجمع الهمم ولا نحبطها بالنقد المخرب أو المناكفات أو المشاكسات أو تكبير نقاط الضعف وتضخيمها ثالثا.

الوقت ليس وقت المشاحنات واستمرار الصراع على المناصب أو اثبات الذات بأي ثمن كان. الوقت وقت المشاركة الجماهيرية الحقيقية وليس الشعارية. الوقت وقت تفعيل فضيلة الاستماع إلى الآخر ونصحه مهما اختلفنا معه. الوقت وقت الاجماع على ضرورة تخطي كل أشكال الفتن الداخلية ومشروعات التجزئة. الوقت وقت الوفاق والتضامن والتركيز على الجوامع وتقليل الفوارق. هذا الأمر يصلح لإيران على مستوى الداخل تماما كما يصلح لها على مستوى الخارج. كما يصلح أيضا لكل الأقطار والأوطان.

العالم كله في بم، فكيف نستفيد ونغتنم هذه الفرصة لإعادة بناء ما تهدم في بم أولا من نفوس وممتلكات، ومن ثم ما تهدم في النفوس بين الأحزاب والفصائل والتكتلات السياسية في عموم إيران؟ وبعد ذلك كيف نجمع ما تفرق من جهد وسعي فيما بيننا كجيران، لاسيما مع جيراننا الأقربين من دول مجلس التعاون الذين تسجل لهم وقفتهم التاريخية مع إيران في سجل أعمال الخير والموقف الإنساني والسياسي ما يجعلهم في بيت واحد مع إخوتهم وأشقائهم في إيران؟

وحدها الغدة السرطانية المزروعة فوق أرض فلسطين التاريخية تخاف وترتهب من هذا الوفاق العالمي والتضامن الإنساني.

لذلك قرأنا في اليوم الخامس من الزلزال أن حكومة شارون اجتمعت لتدرس على عجل الخطر النووي الإيراني! هكذا ومن دون أية مبررات ولا خلفية أخبار... إنه الخوف الدائم من أي اجماع. يحسبون كل صيحة عليهم. فاحذروهم. إنهم هم العدو. عدو كل تضامن أو وحدة أو اتفاق.

لكن ذلك يجب ألا يثني أحدا عن مسئولياته، بل العكس تماما، يجب أن يحمّسنا جميعا على المضي قدما في طريق التضامن العالمي. لأنه الدواء الناجع ضد الظاهرات السرطانية والزلازل

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 485 - السبت 03 يناير 2004م الموافق 10 ذي القعدة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً