العدد 490 - الخميس 08 يناير 2004م الموافق 15 ذي القعدة 1424هـ

الأشعري... والانقلاب الأيديولوجي

فرق المعتزلة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في مقدمته يرى ابن خلدون ان بحوث المعتزلة في التنزيه ونفي الصفات وان القرآن مخلوق كانت «سببا لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد» (المقدمة، ص 496).

كان أول من قام بذلك «إمام المتكلمين» كما يصفه ابن خلدون الشيخ أبوالحسن الأشعري «فتوسط بين الطرق ونفى التشبيه، وأثبت الصفات المعنوية وقَصَرَ التنزيه على ما قصره عليه السلف» (ص 497).

التوسط بين الطرق كان منهج الأشعري حين جمع بين الحديث والكلام مستخدما طرق المعتزلة للانقلاب على مدرستهم التي كانت تعاني من أزمات سياسية وأيديولوجية. فمع الأشعري بدأت مدرسة كلامية جديدة وظهر تيار فلسفي أطلق عليه «السنة المتفلسفة».

السنة المتفلسفة بدأت من المعتزلة وبالانقلاب الأيديولوجي عليها وهذا ما يراه كل من رصد التحولات الفقهية في التاريخ الإسلامي. فابن خلدون أكد هذه المسألة في مقدمته إذ «كثر أتباع الشيخ أبي الحسن الأشعري، واقتفى طريقته من بعده تلاميذه كابن مجاهد وغيره». وعنهم أخذ القاضي أبوبكر الباقلاني، وبعده جاء من «أئمة الأشعرية إمام الحرمين أبوالمعالي (...) ثم انتشر من بعد ذلك علم المنطق في الملة» (المقدمة، ص 497).

وتأسيسا على الأشعرية نهضت مدارس فقهية - فلسفية خاضت معارك كلامية ضد الفلاسفة المسلمين، فردَّ الأئمة لاحقا على الفلاسفة انطلاقا من مبادئ الأشعرية و«أول من كتب في طريقة الكلام على هذا المنحى الغزالي (...) وتبعه الإمام ابن الخطيب وجماعة قفوا أثرهم واعتمدوا تقليدهم» (المقدمة، ص 498).

وكان الشهرستاني سبق ابن خلدون في قراءة تطور المنهج الفلسفي - الفقهي حين اعتبر الأشعرية نقطة انطلاق لتأسيس مدرسة كلامية مستقلة خالفت المعتزلة في «الوعد والوعيد، والأسماء، والأحكام، والسمع، والعقل» (الملل والنحل، الجزء الأول ص 101). وأوجز الشهرستاني الأشعرية في سلسلة حلقات فكرية بدأت بالشيخ الأشعري، ثم انتقلت إلى القاضي الباقلاني (توفي سنة 403 هجرية/ 1012م) وأضاف قليلا، ثم جاء أبوإسحق الاسفرايني (توفي سنة 418هـ/ 1027م) فأضاف قليلا وصولا إلى إمام الحرمين (أبوالمعالي الجويني) فتخطى «عن هذا البيان» (ص 98).

إمام الحرمين (توفي سنة 478هـ/ 1085م) كان أستاذ الغزالي الذي تابع معركته الكلامية مع الفلاسفة في كتابه الشهير «تهافت الفلاسفة».

المعركة كانت قديمة، إلا أن الأشعري كما يقول اليازجي -كرم «أجهز عليهم لاهوتيا كما أجهز عليهم المتوكل سياسيا» (أعلام الفلسفة العربية، ص 117).

تحليل الشهرستاني - ابن خلدون لظاهرة الأشعرية اعتمده معظم من اشتغل على تفكيك نصوص هذا الحقل ومراجعة ظروفه التاريخية. ففي كتاب «أعلام الفلسفة العربية» تشير القراءة إلى أن المعتزلة كانت «نقطة انطلاق السنة المتفلسفة (الأشعرية) ومعتمد الفلسفة كلما أعوزت الفلاسفة وسائل التوفيق بين العقل وظاهر الشرع» (كمال اليازجي وأنطوان كرم، مكتبة لبنان، ص 114). فالأشاعرة كما يقول اليازجي - كرم «أجازوا النظر الفلسفي في المسائل الدينية (...) وكانت الأشعرية تمهيدا لأنصار السلفية الذين كفّروا الفلاسفة» (أعلام الفلسفة العربية، ص 128).

ما هو سر هذا «الانقلاب الأيديولوجي»؟ وما هي الدوافع التي فجّرت الخلاف بين الشيخ والمريد؟ حتى الآن لا جواب نهائيا عن تحديد تلك الأسباب. وحتى الآن لا يعرف متى جلس الأشعري إلى أستاذه الجبائي (الأب). كل ما يعرف أن ذلك الحادث يذكر بذلك الذي وقع حين اختلف واصل بن عطاء مع أستاذه الشيخ حسن البصري فاعتزل ابن اعطاء زاوية المسجد وانضم إليه عمرو بن عبيد فأطلق على حلقته «المعتزلة». كان ذلك في العام 107 هجرية (725م). الخلاف لم يكن عميقا بين الشيخ والمريد إلا أنه تطور من «أقوال ثلاثة» بسيطة إلى منهج فلسفي خاص طورّه أتباع فرق المعتزلة فاختلفوا على الكثير واتفقوا على القليل كما ذكر أحد شيوخهم الخياط. فالخياط (توفي 290 أو 300 هجرية) حدد بعد قرابة القرنين من الزمن أصول حركة المعتزلة في نقاط خمس، وهي: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

المشهد نفسه تكرر بين الشيخ الجبائي (الأب) ومريده الأشعري. كان ذلك في البصرة حين بدأت مناظرة كلامية دارت بين الأشعري وأستاذه الجبائي (رأس معتزلة البصرة في أيامه) تناولت الكثير من القضايا وتركزت أخيرا على نقاط محددة، منها: مسألة الصلاح والأصلح، ومسألة المعدوم، ومسألة الطاعة.

كتب الملل والنحل والفِرق قالت الكثير عن عناصر الخلاف، ولكنها ذكرت القليل عن أسبابه ودوافعه. الشهرستاني مثلا ركز على مسألة ان المعدوم شيء، فردَّ الأشعري «فمن يثبت كونه شيئا (...) فلا يبقى من صفات الثبوت إلا كونه موجودا». (الملل والنحل، ص 83). ويوافق الشهرستاني الإمام البغدادي في أن مسألة الطاعة ومعناها كانت السبب في تفجُّر الخلاف حين سمى الجبائي (الأب) الله مطيعا لعبده إذا فعل مُراد العبد.

«معنى الطاعة» مسألة توقف عندها معظم من تابع وشرح الخلاف. فالبغدادي يفصِّل المناظرة الكلامية في كتابه «الفرق بين الفرق» فينقل ان الجبائي قال: حقيقة الطاعة عندي موافقة الإرادة. فردَّ الأشعري: يلزمك على هذا الأصل أن يكون الله مطيعا لعبده.

بعد مسألة «الطاعة» تداعت المناظرة وتطوّرت فاختلف معه على «ان أسماء الله جارية على القياس وأجاز اشتقاق اسم له من كل فعل فعله». واختلف معه «على وجود عرض واحد في أمكنة كثيرة». واختلف معه على «أن الله إذا أراد أن يُفني العالم خلق عرضا لا في محل أفنى به جميع الأجسام والجواهر، ولا يصح في قدرة الله أن يفني بعض الجواهر مع بقاء بعضها، وقد خلقها تفاريق ولا يقدر على إفنائها تفاريق». (الفرق بين الفرق، ص 167 - 169).

... وهكذا تداعى الخلاف واتسعت الشقة بين الشيخ والمريد. كان ذلك في البصرة والأشعري آنذاك بلغ سن الأربعين. لم يعتزل الأشعري أستاذه الجبائي في زاوية المسجد كما فعل واصل مع شيخه البصري بل انزوى في منزله بعد الخلاف مدة 15 يوما، بعدها خرج إلى المسجد وأعلن تركه مذهب الاعتزال.

لا تعرف السنة التي وقع فيها الخلاف، والمرجّح أن يكون الحادث حصل بين 290 و300 هجرية، إذ بعد الواقعة سينتقل الأشعري إلى بغداد ويعيش هناك على المذهب الشافعي إلى حين وفاته في سنة 324 هجرية (936م).

ألّف الأشعري الكثير من الكتب، وبلغت بحسب رواية ابن كثير 55 مصنفا أبرزها: الإبانة في أصول الديانة، استحسان الخوض في الكلام، مقالات الإسلاميين، كتاب اللمع، أدب الجدل، الرد على أصحاب البدع. وله بعض المقالات ينتقد بها نفسه ويراجع فترة حياته حين كان على مذهب المعتزلة. فالأشعري حين قَدِم بغداد أخذ الحديث عن زكريا بن يحيى الساجي وتفقّه بابن سريج، كما يذكر ابن كثير، كذلك «أظهر فضائح المعتزلة وقبائحهم» (البداية والنهاية، المجلد 11 - 12، ص 198).

انقلاب الأشعري على أستاذه الجبائي (الأب) أحدث انقلابا في الفقه الإسلامي، ودخلت طريقته الكلامية دائرة السنة، وتحوّلت إلى منهجية في تفكير أهل السلف وخصوصا من هم على المذهب الشافعي. فمدرسة الأشعري اتسعت وازدهرت وعرفت الشهرة حين قرر الوزير السلجوقي نظام الملك إنشاء مدرسة في بغداد عرفت بـ «النظامية» تدرس الأشعرية، ثم فتح لها فروعا في نيسابور وبَلَخ وهراة وأصفهان ومَرو والبصرة والموصل... فانتشرت طريقة الأشعري الكلامية في المذهب الشافعي وعُرفت بالشافعية على الطريقة الأشعرية. فالأشعرية كما يقول اليازجي - كرم «نظرت إلى الإيمان بمنظار العقل». (أعلام الفلسفة العربية، مكتبة لبنان، ص 132).

تفرّعت شجرة الأشعرية وسار في ظلالها الكثير من العلماء والقضاة والأئمة والفقهاء كما ذكر مرارا الشهرستاني وابن خلدون... إلا أن «سر» الخلاف لم يُكشف. فهل أساسه مجموعة قضايا كلامية (أيديولوجية) أم أن دوافعه سياسية تبلورت بعد عودة الدولة ونمو حركة تنوير إسلامية وخراب البصرة وظهور القرامطة وانتشار شوكتهم؟

المسألة إذا أبعد من الكلام، والخلاف في أساسه جاء في إطار فضاءات سياسية متناقضة أوجبت ظهور حركات انقسامية طرفية ضد مركز الخلافة وحركات توحيدية اندفعت لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في لحظة زمنية برزت فيها الأسر ونمو نفوذها في بغداد. فماذا تقول السياسة بعد الكلام؟

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 490 - الخميس 08 يناير 2004م الموافق 15 ذي القعدة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً