العدد 492 - السبت 10 يناير 2004م الموافق 17 ذي القعدة 1424هـ

الثابت والمتغير بين الانتفاضة والاسلامبولي

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

ليس في السياسة «ثابت» لا يقبل التغيير، بالمقابل فإنه ليس كل «متغير» نقيضا للثوابت.

ما كان صائبا سياسيا بالأمس قد يصبح خاطئا بعد مدة والعكس صحيح.

عالم السياسة لا يتحمل «جمودا» في الموقف ولا «عنادا» في رأي.

للأيديولوجيا قواعدها ومنهجها في تقييم الأمور وقراءتها، وللسياسة قواعدها ومنهجها الخاص.

الحرام والحلال من معايير الدين والأيديولوجيا، وهي معايير لا يمكن تطبيقها على الحركة السياسية والعمل السياسي.

لكن ذلك لا يعني أن العمل السياسي كله «حرام» أو لا «اب» ولا «أم» للسياسة، وبالتالي السياسة عدوة الأخلاق ونقيضة لها بالضرورة!

نعم من يريد التجارة بالأخلاق والدين في عالم السياسة سيضطر الى ارتكاب الحرام يوميا، ولكن من يعمل بالسياسة بأخلاق «المتدينين» سيكون أقل الناس ارتكابا «للحرام» لأنه سيكون قادرا على تحصين نفسه من الخطأ بلجوئه إلى قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات» كلما شعر بالحاجة اليها وأن يبرر الكثير من سلوكه السياسي بضرورات المصلحة العامة! بالمقابل فانه وحده الجالس في بيته والزاهد عن الدنيا والجامد عن الحركة هو الذي يبقى بعيدا عن ميدان ارتكاب الأخطاء لكن خطأه الكبير سيكون بالتأكيد أنه لم يفكر الا بمصيره وعاقبة أمره لوحده تاركا الأمة في التيه لا يهمه إلامَ مصيرها سيؤول! عندما تقرر ايران الدولة الاسلامية والثورية اليوم تغيير اسم شارع الشهيد خالد الاسلامبولي الى شارع الانتفاضة تكون قد دخلت دائرة «شبهة» ارتكاب «الحرام» بالتأكيد من وجهة نظر الكثير من الاصوليين والراديكاليين الاسلاميين بحجة أن قرارها هذا له تداعياته «الاخلاقية» الخطيرة وربما أهمها بنظرهم هي التخلي عن مفهوم الشهيد والشهادة، ومن ثم ثانيا التراجع عن موقف مبدئي كانت تعتز به يوما.

لكن من يعرف طبيعة الفكر الاجتهادي الشيعي، وله المام ولو اجمالي وعام بقواعد المدرسة المذكورة يعرف بأن «ثوابت» العمل السياسي عندهم قابلة «للتغيير» بزاوية منفرجة تتسع لكل مذاهب العمل السياسي تقريبا.

يقول الفيلسوف الكبير الشهيد مرتضى مطهري وهو من كبار الرجالات الذين ساهموا في صنع الثورة الاسلامية في كتابه «تجديد الفكر الديني» عبارة في غاية الأهمية في هذا السياق، ان كتبا كانت تصلح للهداية يوما قد تصبح يوما لا تصلح الا للضلال. ما يعني ان عامل الزمان وما يترتب عليه من عوامل الجغرافيا، والجغرافيا السياسية والتحولات الاجتماعية والنفسية والحيثيات الكثيرة الأخرى، قد يقلب الأمور رأسا على عقب، ما يجعل ضرورة اعادة النظر بأشياء كثيرة بما يتلاءم والظروف المستجدة. ولما كانت السياسة هي الدائرة الأضعف والبطن الرخوة في الجسم العقيدي للأمة فإن من السهل بمكان أن يجد الانسان المبررات العقلية والشرعية لتغيير القرارات السياسية.

ان تقرر طهران اليوم تغيير اسم شارع الاسلامبولي الشهيد الى اسم آخر، لاسيما لاسم مثل اسم الانتفاضة لتفتح الباب واسعا امام العودة السريعة والملحة للعلاقات بين القاهرة وطهران لهو أمر مستساغا ومعقولا شرعا وعرفا، بل ومطلوب وبإلحاح في هذه الظروف للمصلحة العامة لايران ولمصر كدولتين مسلمتين بل لمصلحة كل العرب والمسلمين، فبقدر ما كان قطع العلاقات بأمر من الامام الخميني الراحل صائبا آنذاك دفاعا عن فلسطين والعرب والمسلمين بحسب الرأي «الأصولي» والمدرسة الاجتهادية الشيعية، يجب أن تكون عودتها حسب الرأي نفسه والمدرسة نفسها صائبا أيضا اليوم، وخصوصا اذا ما عرفنا بأن صاحب القرار الأول والأخير هو سلف ذلك الامام وخليفته الذي يحكم باسمه اليوم وبمدرسته اي الامام آية الله علي الخامنئي.

ذلك أنه لم يكن بالامكان حصول ما حصل أو توقع ما سيحصل، اي تغيير اسم الشارع وعودة العلاقات المرتقبة، الا باشراف وعلم وقرار من يمسك بالقرار النهائي.

ان الظروف التي تعيشها المنطقة - سواء بعد الغزو الأميركي البريطاني للعراق وما نتج عنه من اختلال كبير في المعادلة الاقليمية العربية والاسلامية والتحديات الكبيرة التي باتت تواجه الدول مجتمعة فرادى وجماعات، ومحاولات التهميش لدولة مصر من جهة، والمساعي الرامية لمحاصرة ايران من جهة أخرى، والضغط المتزايد على الحركات والقوى المناضلة في فلسطين ولبنان ومشروع الفتنة الكبرى الجارية على قدم وساق في العراق وفي غير العراق لتقسيم المسلمين والعرب وسكان البلدان العربية والاسلامية الى مجموعات وقوى متفرقة ومعزولة عن بعضها بعضا ومتناحرة فيما بينها بحجة الخصوصيات المذهبية مرة والخصوصيات العرقية مرة أخرى، ومشروع ما بات يعرف بـ «دمقرطة» العالم العربي والحرب الوقائية ضد قوى الاستقلال والتحرر المناهضة للهيمنة والتبعية والاستفراد الأميركي بالمعادلة الدولية ومسرح العمليات في العالم - كلها أمور تتطلب عودة سريعة وملحة للعلاقات الكاملة بين القاهرة وطهران ليس فقط من خلال تبادل السفراء، بل وتطبيع شامل للروابط الثنائية بل والتفكير الجدي بانشاء تكتل رباعي يضم ايران ومصر والسعودية وسورية مفتوحا لمن يريد الانضمام إليه من أجل دعم فلسطين والعراق أولا وقضايا العرب والمسلمين التي تتعرض للتشويه والعسف والظلم الدوليين ثانيا.

ان تقرر إيران العودة عن قرار القطيعة مع مصر وأن تقرر مصر العودة لايران قرار ينم عن عقل وحكمة وشجاعة تُكتب لقيادة البلدين وصناع القرار فيهما.

انه قرار استراتيجي يعيد بعض التوازن المفقود للكتلة العربية كما للكتلة الاسلامية في المعادلة الدولية.

انه قرار من صميم أولويات الدفاع عن الأمن القومي لكل من مصر وايران، وهو قرار يثبت مرة أخرى بأن العقل والعقلانية والحوار البناء والانفتاح على الآخر من جهة وفتح منافذ للمشاركة الشعبية والمدنية والأهلية في صناعة قرارات الدول والحكومات لا يمكن إلا أن يأتي منسجما مع الوجدان الجمعي للأمة ونادرا ما يخطئ.

قرار سيتبين قريبا كم هو مهم في مواجهة التحديات المستجدة والمتسارعة التي تحيط بالعالمين العربي والاسلامي وتمسهما في الصميم.

انه خاتمة للقطيعة الطارئة وعودة مباركة للسباحة باتجاه مسار النهر واتجاه الريح الفلسطينية المنتفضة ضد الظلم والطغيان

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 492 - السبت 10 يناير 2004م الموافق 17 ذي القعدة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً