العدد 494 - الإثنين 12 يناير 2004م الموافق 19 ذي القعدة 1424هـ

ما دون المناهج... وما قبل الحجاب

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

حدثني صديق عاقل أثق برؤيته التحليلية، قال: هل سينتهي الأمر في صيحة تعديل المناهج الدراسية التي أثيرت حولها ضجة كبيرة، ودرستها قمة مجلس التعاون في الكويت أخيرا كما قيل ونشر، بتغيير بعض النصوص هنا أو هناك في برامجنا المدرسية؟ ثم ما المناهج المدرسية التي ستتغير؟ والأكثر من ذلك حسما، هل المناهج التي ستُبدل ستُغير تلقائيا من أفكار الطلاب والمجتمع بعد ذلك، عما هو سائد ومقبول من الممارسات تجاه شئون الحياة المختلفة التي تتطلب مزيدا من الوعي، وما التغيير المرجو وإلى أي اتجاه؟ ثم ما علاقة المناهج بصيحة الحجاب في فرنسا هل هما مرتبطان أم منفصلان؟

قلت لديك حق في كل هذه التساؤلات، فلايزال كثير منا لا يعرف على وجه الدقة ما محتوى البرامج الدراسية التي ستغير؟وما الأهداف التي يراد تحقيقها من ذلك التغيير؟

البعض يقول - وهو قول شائع ولكن لا دليل عليه - إن المناهج التي ستتغير هي المناهج أو الموضوعات التي تحث على العنف ونبذ الآخر ومعاداة المُختلف، من أجل تعزيز الأفكار الداعية للحوار وفهم المختلف والتعامل معه وقبوله، كما هو كائن لا كما يجب أن يكون!

قال صاحبي الحكيم: ولكن الواقع ان هذا عمل غير مجد أن اقتصر على مناهج التعليم من ناحيتين، الأولى: أن التعصب في الناس هو (ثقافة) عامة تجدها في المنزل أولا عندما يُقسم المجتمع نفسه أمام الناشئة إلى (أنا) و(الآخر) أنا القبلي، أو أنا الطائفي أو أنا العائلي أو أنا الغني، إلى آخر التقسيمات غير العقلانية التي يرضعها أبناؤنا مع حليب أمهاتهم، فالتسامح موقف اجتماعي وليس مدرسيا محصورا بين جدران المدارس، ان التعصب قابع في المؤسسات الدينية والأهلية والإعلامية والاجتماعية، أي في الثقافة المجتمعية العامة، وما الحديث عن تغيير المناهج إلا استجابة سياسية سطحية لضغوط خارجية. وثانيا: هذا التعصب لا تجده في المتلقي (الطلاب)أو الوسيلة (المنهج) بل في القائم بعملية التعليم، فإن كان القائم بالعملية التعليمية امرأة أو رجلا (متعصبا) سينفث هذا التعصب وكره الآخر ونبذه وعدم الاقتراب منه في الأبناء في حجرات الدرس البعيدة وغير القابلة للاختراق.

ثم أخيرا ان كان الأمر جادا فالمطلوب هو تغيير فلسفة التعليم وبرامجه من الاعتماد على الحفظ والتلقين وعصمة الموروث الإنساني والاجتماعي الذي يقود إلى غسل الأدمغة بدلا من تنشيطها، إلى التساؤل والبحث واكتساب المعرفة وتدريب الناشئة على موقف عقلاني من الحياة في القضايا الإنسانية والطبيعية، وليس أكثر منا في الخليج من وضع الدراسات، فهناك عشرات الدراسات التي رعتها مؤسسة قديمة تعمل منذ سنوات هي (مركز المناهج التربوية لدول الخليج).

ولما وجد صاحبي أنني غير مقتنع بكلامه الأخير أردف: هل تذكر السيدة ليلى خالد، قلت: نعم المناضلة الفلسطينية التي اختطفت طائرة إسرائيلية، وسجنت بعدها لسنوات في بريطانيا وأطلق سراحها بعد ضغوط، وأذكر أن بيتر سنو المعلق البريطاني الشهير أصدر فيها كتابا، قال صاحبي: هي بالضبط من تقول، وبصرف النظر الآن عن النيات والأهواء السياسية، فقد نشرت السيدة ليلى خالد مذكراتها بعد حين، ولفت نظري أنها قالت بالحرف الواحد كونها مُدرسة في مدارس الكويت في الستينات، انها عندما تقفل حجرة الدراسة على الطالبات ليس هناك رقيب كالعادة، كانت لا تحدثهم عن المادة الدراسية المقررة، بل تحدثهم عن فلسطين! قد يرى البعض في ذلك الوقت، وفي تلك الظروف الحديث عن فلسطين تعويضا عن مادة دراسية هو أمر حسن، ولكن ماذا يمكن أن يحدث لو تغيرت المناهج ووجدنا بعض القائمين على تنفيذها في المدارس وغيرها، يقومون وبشكل مخالف في التصور، ولكن بنفس طريق الفعل، لما قامت به ليلى خالد. أي بتوجيه الطلاب من دون التقيد بالمنهج المفروض إلى مثل هذه أو تلك من القضايا التي يشعر المدرس أو المدرسة بأهميتها، ولديه قناعات ثابتة بها، هنا لا معنى لتغيير المناهج إن لم يصاحبه تغيير نوعي في القائمين على توصيلها لليافعة من الشباب والشابات.

هل نعيد طرح أهمية غربلة القائمين على التعليم؟ ومن يقوم بذلك؟ وهل المجتمع على استعداد أن يفعل ذلك؟ وهل نطرح إعادة تأهيل القائمين على العملية التعليمية؟ وما الشروط التي يجب أن تتوافر فيهم؟! كلها قضايا ذات أهمية قصوى، ولم تطرح للنقاش الجاد اكتفاء بطرح شعار عام هو تغيير المناهج.

في الغالبة الطلب الحقيقي لتغيير المناهج هو تغيير طريقة التعليم المعتمدة على التلقين والحفظ والاسترجاع التي درجت عليها مدارسنا لعقود طويلة، انه تعليم للاستهلاك لا تعليم للإنتاج وخلق مجتمع متوافق ومتعاضد ومنتج، هذا التعليم التلقيني المصمم للاعتماد على الدولة، أنتج طائفة من الناس لها عقول متشابهة، تسهل قيادتهم، يروا العالم المحيط بمنظار ضيق لا وجود للتفكير فيه، إننا في حاجة إلى تحديث الخطاب التعليمي مسايرة لمتطلبات المجتمع في التقدم والتنمية.

قلت لصاحبي: حدثتني في البداية عن علاقة ما بين المناهج والصيحة المتعالية الرنين، الآن حدثني عن منع ارتداء الحجاب في المدارس الفرنسية والفلسفة التي تقف وراءها.

قال صاحبي: انظر في قصر نظرنا التحليلي في هذا الموضوع، حتى شيخ الأزهر الرجل الفاضل دخل على خط النقاش فأصبح هو أيضا محط نقد من المتشددين الذين لم يقبلوا حتى أن يكون له رأي في ذلك الموضوع.

واستطرد صاحبي بالقول إن موضوع الحجاب في فرنسا أريد به أكثر مما أثاره البعض، فهو شكلي للكثيرين وسياسي لفرنسا.

سألتهُ كيف؟

قال: إن فرنسا السياسية تخضع لضغوط كبيرة من اليمين الفرنسي، وقد كاد السيد جاك شيراك أن يفقد منصبه في الانتخابات الماضية العام 2002 لشخصية متعصبة ويمينية هي السيد جان ماري لوبان، الذي هزم رئيس الوزراء ليونيل جوسبان في المرحلة الأولى من الانتخابات. وأصبحت فرنسا و(أوروبا أيضا) تتعرضان لضعف بارز في حماية مواطنيهما، أمام قوة عالمية جامحة هي (أميركا) وخيارات اقتصادية محدودة، وأيضا هجرة واسعة غالبيتها مسلمة.

لم يكن أمام فرنسا السياسية إلا أن تنظر لموضوع الهجرة العربية المسلمة والمتزايدة إلى بلادها نظرة جادة من أجل وقف سيل هذه الهجرة، وقد كان تركيز اجتماع الخمسة زائد خمسة الأخير في ديسمبر الماضي (خمس دول أوروبية وأخرى عربية من شمال افريقيا) هو على مناقشة الهجرة المتدفقة إلى أوروبا.

فالهجرة إلى أوروبا تخيف الأوروبيين وقد يكون لديهم حق في ذلك، وتتهم أوروبا هذه الهجرة عموما بأنها تكون فضاء ضاغطا على قدرتها التنموية، وتهددها بشكل من الاضطراب الاجتماعي وفي بعض الأوقات بالإرهاب.

اتخذت الدول الأوروبية خطوات مختلفة تجاه الهجرة، فبريطانيا مثلا شددت إجراءات الهجرة اليها وقدمت لأول مرة في تاريخها الديمقراطي قوانين صارمة ضد الهجرة والإرهاب، والبعض يعتقد أنها غير ديمقراطية في ملاحقة المشبوهين والتضييق على فرص العمل والدخول إلى بريطانيا.

فرنسا تفتق ذهنها لاتخاذ خطوة بين الخطوتين، فتجريم لبس الحجاب في المدارس سيجبر (المتعصبين) أولا على عدم الالتجاء لفرنسا، ومن هو غير قابل للوضع الجديد ومتشبث بلبس الحجاب منهم على الأرض الفرنسية ربما عليه أن يرحل طوعا، اما الباقون فعليهم أن يقبلوا أولا بالواقع المفروض، وثانيا بالانصهار في المجتمع الفرنسي.

فقضية الحجاب ليست كما يراها البعض شكلا ظاهريا، إنما هي قرار سياسي له توجهاته المقنعة لدى الناخب الفرنسي، واللوم الأول يقع على فشل التنمية في دول الجوار الإسلامي المصدرة للهجرة.

ولا جدوى من الصياح أو تعيير فرنسا (العلمانية) أنها أصبحت ضد (العلمانية) تلك اطروحات إيديولوجية تجاوزها الزمن، ودليل على فقر في التحليل وقصر النظرة الموضوعية لما يراه الآخرون.

تنفس صاحبي بعمق عندما وجد بعض علامات الاقتناع تبدو على وجهي، فقلت: ولكن هل هذا غائب عن بيئة متخذ القرار، ابتسم ابتسامة لها معنى وكأنه يقول ذلك فصل آخر فهم مشغولون.

المطروح في زماننا هو ليس محتوى المناهج وليس بالتأكيد تغطية شعر الرأس، المطروح هو تحد حضاري في صلبه نجاح أو فشل التنمية الحقيقية الواسعة المعمقة، وهي أن يعيش الإنسان حرا له حقوق إنسانية وعليه واجبات تعادل الحقوق

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 494 - الإثنين 12 يناير 2004م الموافق 19 ذي القعدة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً